الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرية المؤامرة في السجال العمومي

أحمد عصيد

2008 / 11 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


يسود الفترات الإنتقالية شعور عام بالقلق مبعثه اهتزاز المفاهيم المتداولة، و بروز مؤشرات التحول كعلامات مبهمة لا تجد تفسيرها في المسلمات السابقة، إضافة إلى ضغط الأحداث المتلاحقة التي تؤكد كلها على ضرورة تغيير أسلوب التفكير والعمل، و النظر إلى الظواهر المختلفة من أبعاد جديدة.
و في هذا السياق الذي يحكمه الترقب و الحذر، تسعى كل الحساسيات السياسية و الإيديولوجية إلى اتخاذ مواقعها الفاعلة و المؤثرة في مسرح الأحداث، مع ما يرافق ذلك من تدافع و صراع يكتسي أحيانا طابع الحوار و التناظر ، و أخرى طابع الهجوم و التصادم.
و في لجّ هذه الدينامية الحبلى يعمد الفرقاء المختلفون إلى شتى الأساليب الرامية إلى إشاعة مواقفهم و الإقناع بها، دون أن يتورّع بعضهم في كثير من الأحيان، و بسبب نقص الحجج أو ضعفها، أو بسبب تصاعد نبرة الصراع الذي يصبح أكثر شراسة، عن الطعن في الخصوم السياسيين و الإيديولوجيين، سواء عبر الإشاعة أو عبر إسباغ الصفات السلبية عليهم، و كيل الإتهامات لهم بالعمالة و محاكمتهم.
و تلعب نظرية المؤامرة في ذلك دورا محوريا، إذ يجد فيها الفاعلون المتصارعون أفضل وسيلة للتخلّص من خصومهم من خلال تجريدهم من أية مصداقية و إظهارهم بمظهر المتآمرين على الوطن أو على التنظيم و العملاء للقوى الأجنبية أو للسلطة.
تقوم نظرية المؤامرة على ثلاثة عناصر رئيسية:
1- الإعتقاد في وجود تنظيم محكم و عمل يدبّر في الخفاء بأهداف سرية مغايرة لما يتم الإعلان عنه في ظاهر الخطاب، و هي أهداف تكتسي طابعا سلبيا يجعلها مصدر تهديد و خطر داهم. ينتج عن هذا الإعتقاد شيئان اثنان : حالة من البارانويا لدى الأفراد و الجماعات الذين يشكون في كل شيء و يتوجسون خيفة من أي تحرك أو عمل أو مشروع باعتباره قد ينطوي على مآمرة، و ينتج عن الإعتقاد المذكور من جهة ثانية عدم الإهتمام بخطاب الخصم و محتوياته و صرف النظر عن الإستماع إليه باعتباره عديم المصداقية، فمادام الخصم متآمرا فالمطلوب تحطيمه و القضاء عليه و ليس محاورته أو الإستماع إليه أو مبادلته الأفكار و التجارب.
2- التركيز على عدو أجنبي (عن البلاد أو عن التنظيم) و التهويل من شأنه و اعتبار وضعية الأزمة آتية من عامل خارجي هو تآمر قوة أجنبية و سعيها بالتخطيط المسبق و بتعاون مع أطراف عميلة إلى إلحاق الضرر بالبلاد أو بالتنظيم و ضرب مصالحهما و عرقلة جهودهما لبلوغ الأهداف النبيلة المتوخاة. و هو ما يؤدّي حتما إلى صرف النظر عن المشاكل الداخلية المطروحة للنقاش باعتبارها مشاكل مفتعلة و مجرد إشاعات تآمرية للتشويش عل الأوضاع الداخلية. و ينتج عن هذا العنصر الثاني صرف النظر بشكل تام عن المشاكل و التناقضات و العوائق الداخلية و الذاتية، مما يعني استحالة القبول بالنقد الذاتي و المراجعة.
3- الدعوة إلى التكتل و اليقظة و الحذر في إطار التصور الذي يقترحه مستعمل نظرية المآمرة و داخل مذهبه السياسي. مما يفسر أن معظم مستعملي نظرية المؤامرة إنما يهدفون إلى استقطاب الجمهور تحت رايتهم بالتحريض ضد عدو أجنبي (حقيقي أو مفترض أو متخيل) و ذلك لخلق اللحام الضروري و التكتل المطلوب في إطار الإيديولوجيا التي يقترحونها.

نظرية المؤامرة لدى السلطة:
و يشير بعض الدارسين إلى أن مفهوم نظرية المؤامرة قد تم نحته في الأصل من طرف الذين يحتكرون النفوذ و السلطة بطريقة لا شرعية بهدف النيل من المزعجين الذين يطرحون الأسئلة، و ذلك بهدف عرقلة أي بحث أو تحري حول القضايا و الأمور "الحساسة" التي تتحول بالتدريج إلى طابوهات سياسية أو دينية يحظر البت فيها بشكل علني. و هذا ما يفسر تبني جميع الأنظمة الإستبدادية لهذه النظرية و توظيفهم لها بشكل دائم في الخطب الرسمية ووسائل الإعلام، بل اعتبارها أساس جميع تحركات السلطة التي لا ترى من شرعية لها إلا بوجود عدو أجنبي يمكّنها من لمّ شتات الناس تحت سيطرتها و يضمن صرف النظر عن مظاهر الإستبداد الداخلية. و كلما كان النظام أكثر عنفا و استبدادا كلما كان أكثر إدمانا على استعمال نظرية المآمرة في تواصله مع المجتمع. حدث هذا مع النظام الستاليني السابق بالإتحاد السوفياتي و الذي جعل من الغرب الرأسمالي مشجبه المفضل لاضطهاد مواطنيه و إحكام قبضته الشمولية على كل مرافق الحياة، كما ينطبق على الدول الإسلامية و العربية و خاصة إيران في مواجهة "الشيطان الأكبر" و سوريا النظام المخابراتي الذ ي يحل كل مشاكله الداخلية و الإقليمية باستعمال "العدو الصهيوني"، و السودان دولة الإنقلابات العسكرية التي جعلت من "الأطراف الخارجية التي تستهدف الدين و الوطن" شعارها المفضّل لاضطهاد سكانها في الجنوب و في إقليم دارفور و قمع جميع أشكال المعارضة، و في المغرب استعملت السلطة لمدة طويلة التحركات الديبلوماسية للجزائر و ليبيا لتبرير سياستها في تدبير ملف الصحراء، و الذي لم تستطع بها إقناع الصحراويين المعارضين بالإنضمام إلى المغرب، كما استعملت البعبع الجزائري لإخفاء الأسباب الحقيقية الداخلية لنشأة البوليزاريو، و هي الأسباب المرتبطة أساسا بالسياسة القمعية للنظام، و بسلوك الميز اتجاه الصحراويين. و يبدو من خلال النماذج المذكورة مدى حاجة أنظمة الحكم المطلق لنظرية المؤامرة التي بدونها لا يمكن تبرير أي شيء من أفعال السلطة التي تتعارض مع مبادئ الديمقراطية و العدل و المساواة.

نظرية المؤامرة لدى التيارات الراديكالية :
وجدت التيارات الراديكالية المعارضة بدورها ضالتها في نظرية المآمرة، فبحكم كونها في معظم الأحيان تمثل أقلية معزولة لكونها مستهدفة و محاصرة من قبل السلطة، و إذ تعجز عن الإقناع و الإنتاج بحكم هامشية خطابها و عزلته، فإنها تضطر إلى استعمال نظرية المآمرة بشكل مكثف، بحثا عن الأنصار و سعيا إلى إقناع الأغلبية بخطابها. و يمكن أن نجد نموذجا لذلك في خطاب الأحزاب و التيارات الشيوعية سابقا و اليسار الجذري حاليا، و كذا في خطاب الإسلاميين بجميع فصائلهم و لدى تيار داخل الحركة الأمازيغية ( و هو التيار الذي يستلهم أدبيات و شعارات و أسلوب عمل اليسار الجذري)، و رغم أن هذه التيارات تعمد إلى استعمال نظرية المؤامرة ضد السلطة، إلا أنها في كثير من الأحيان تجد نفسها، بسبب الإستعمال المفرط لنظرية المؤامرة، في مواجهة الأطراف الأخرى السياسية و المدنية داخل المجتمع، مما يمثل عاملا إيجابيا لصالح السلطة حيث يسمح لها ذلك بأن تقدّم نفسها كبديل للجميع. و نذكر كمثال على ذلك مواجهة الأحزاب التقليدية و التيارات القومية العربية للحركة الأمازيغية بتهم العمالة لقوى أجنبية ـ شبحية أحيانا و مجسّدة في فرنسا أحيانا أخرى ـ و التخطيط لتقسيم البلاد و معاداة اللغة العربية، بل إن صحافة هذه الأحزاب أنعمت على الفاعلين الأمازيغيين بألقاب مثل "حفدة ليوطي" و "ورثة الإستعمار". و قد سمح ذلك للسلطة بأن تتقدّم الجميع بإنجاز خطوة فاجأت الأطراف المذكورة التي عوض معالجة تصلّبها الإيديولوجي لم تستطع حتى الآن هضم القرار الملكي. و كمثال على ذلك أيضا الطريقة التي أدار بها الإسلاميون حملتهم ضدّ خطة إدماج المرأة في التنمية، و التي اعتمدت فيها نظرية المؤامرة بكثافة، حيث تم وصف حكومة اليوسفي و المنظمات النسائية بـ"العميلة للغرب و للصهيونية"، مما سمح للملكية بأن تتصدّر المشهد بتشكيل لجنة ملكية و حسم الصراع بإجراء عدد من التعديلات على نصّ المدونة، و أعقب ذلك صمت الإسلاميين الذين حولوا فشلهم إلى انتصار على "اليسار الكافر" و "النسوانيات المتبرجات".
نفس الشيء يقال عن اليسار الراديكالي الذي خاض منذ السبعينات صراعا عدميا ضدّ اليسار الإصلاحي أكثر شراسة من صراعه ضدّ المخزن، مما حال دون وجود تكتل كبير لليسار في مواجهة السلطة، و أدّى بالتالي إلى تقوقع اليسار الجذري و عزلته عن المجتمع، و إلى قبول اليسار الإصلاحي للتناوب التوافقي بدون ضمانات دستورية.
و في الحركة الأمازيغية كان يسود دائما ( قبل تأسيس المعهد الملكي ) توجّس من اختراق السلطة للتنظيم كان يصل عند بعض المناضلين "اليقظين" حدّ اتهام جمعيات أمازيغية و أشخاصا بالعمالة للسلطة، و كانت الإتهامات تأتي في الغالب من الشباب للكهول المحافظين، هؤلاء الذين كانوا بدورهم ينظرون إلى بعض الشباب المندفعين على أنهم مندسّون داخل الحركة للإيقاع بها في مزالق تمكّن السلطة من الإنقضاض عليها. و إذا كان هذا يتم في معظم الأحيان داخل كواليس الحركة، فإن انعدام التبصر و المبالغة في استعمال نظرية المؤامرة كان يدفع ببعض المناضلين إلى نشر ذلك في بيانات و تصريحات للصحافة. أما بعد تأسيس المعهد الملكي فقد وجد تيار داخل الحركة ضالته في المؤسسة التي تجسّد "المؤامرة المخزنية"، و إذا كان لهذا الموقف السياسي من الناحية النظرية إمكانيات عديدة لتصريفه بشكل مقبول و محترم، إلا أن انتهاج أسلوب اليسار الجذري في اعتماد نظرية المؤامرة أدّى به إلى بعض الخلط بين المخزن و العاملين في الأمازيغية ( و الذين هم فاعلون رئيسيون)، و كذا بين نوايا السلطة و المأسسة الفعلية للأمازيغية في عدد من المجالات، كما نتج عنه تبخيس كل عمل منجز، و عدم وضوح الرؤية حول الأساليب الأكثر نجاعة لتوزيع الأدوار و النضال المشترك بعد أن أدّى الإستعمال غير الحكيم لنظرية المؤامرة إلى تقسيم الحركة إلى تنظيمات "ديمقراطية مستقلة" و أخرى غير ذلك.
لقد أدّى الإستعمال المفرط لهذه النظرية إلى عزل الكثير من التيارات عن مجال الفعل اليومي و المشاركة في صنع المرحلة عبر دينامية النقد التقويمي البناء، غير أن الحركة الأمازيغية بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى لمّ جهودها و التنسيق في العمل الميداني الإحتجاجي، ذلك لأن سيرورة مأسسة الأمازيغية في غياب التعديل الدستوري الذي كان منتظرا ـ و بالنظر إلى ردود الأفعال الإنتقامية التي تتزايد لدى الأحزاب و النخب ضد المكاسب الهزيلة المحصّلة حتى الآن ـ مرشحة لأن تعود إلى الوراء في ردّة خطيرة بسبب المقاومة التي تواجه بها من العقليات القديمة .
نخلص من كل ما أسلفناه إلى ما يلي:
1) أن نظرية المؤامرة هي أسهل طريقة للهروب من مناقشة المشاكل الحقيقية و أسبابها الداخلية و عدم البت في الطابوهات المحظورة. إنها هروب من الواقع و من مواجهة التناقضات و المفارقات الصادمة.
2) أنها تحيل دائما على عدو أجنبي حقيقي أو شبحي، تتخذه الذات مشجبا تعلق عليه عجزها و تنسب إليه مشاكلها الخاصة.
3) أنها تبعث على الشك و الريبة و تشيع مناخا من انعدام الثقة مع تأجيج مشاعر الحقد و الكراهية. ومن تم فهي لا تسمح بالحوار و التناظر الذي يتضمن الإعتراف بالآخر و بشرعية وجوده.
4) أنها وسيلة للتعبئة و الدعاية للذات عبر نزع المصداقية عن الغير.
5) أنها لا تسمح مطلقا بالنقد الذاتي و بأي شكل من أشكال المراجعة حيث تكرس نوعا من الطهرية الدائمة للذات و القبح الأبدي للآخر.
6) أن الحركة الأمازيغية ليست بحاجة مطلقا إلى نظرية المؤامرة، بقدر ما هي في أمس الحاجة إلى خطة تنسيقية محكمة في العمل الميداني لتحقيق الضغط الشعبي المطلوب.
إن هذا لا يعني عدم وجود المآمرات و الدسائس و الخطط الخفية من كل نوع في الحياة السياسية و في ساحة الفعل اليومي، غير أن المقصود هو أن التفكير المآمراتي يشلّ عن العمل و الإنتاج، و يدفع بصاحبه إلى حالة من الهوس بسبب تركيزه على عدو مفترض في غياب أية رؤية واضحة للواقع و للتحديات المختلفة، و في افتقار شديد إلى التقدير الحيوي و الموضوعي لما هو موجود، و إلى التقييم النقدي للمواقف و الإنجازات الذاتية و أسباب الفشل و إمكانيات النجاح . ذلك أن وجود المؤامرات و المتآمرين لا يعفي من العمل الجاد و التخطيط للمستقبل .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات الرئاسية الأمريكية: نهاية سباق ضيق


.. احتجاجًا على -التطبيق التعسفي لقواعد اللباس-.. طالبة تتجرد م




.. هذا ما ستفعله إيران قبل تنصيب الرئيس الأميركي القادم | #التا


.. متظاهرون بباريس يحتجون على الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان




.. أبرز ما جاء في الصحف الدولية بشأن التصعيد الإسرائيلي في الشر