الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مات آشي !*

سهر العامري

2008 / 11 / 10
الادب والفن



خرج سلام من داره في صباح مكفهر الوجه ، تغطي سماءه سحب رمادية اللون ، تجر بأذيالها على الأرض مع الذاهبين الى أعمالهم في الساعات الأول من ذلك الصباح المعتم ، وعلى عادته توجه الى مرأب سيارته المشاد من الخشب ، والواقف مع مرائب أخرى في صف مستقيم أمام العمارة التي يسكن فيها ، ولكنه بدلا من أن يدس مفتاح ذاك المرأب في المكان المعد له من الباب صاح بصوت مسموع :
- تهانينا !
كان جاره السويدي ، سفين ، يقف أمام باب مرأب سيارته الذي يقع في أول الصف ذاك ، ولكن من بدايته الأخرى ، وكان سلام يهدف من إطلاق كلمة : تهانينا تلك الى استفزاز جاره ، سفين ، الأبيض ، وذلك بمناسبة انتخاب الرئيس الأمريكي الأسود ، أوباما ، ولهذا كان ينتظر منه ردا ، أو استفسارا عن مغزى الكلمة تلك ، ولكن جاره لم ينبس ببنت شفة أبدا ، وبدلا من ذلك تقدم نحو سلام بخطى مثقلة ، وبرأس مطأطأ نحو الأرض ، وبوجه يسيل منه حزن قاتل .
- مات آشي !
- متى ؟
- أمس ِ في المستشفى في مدينة هالمستاد .
- لماذا لم تدخله في مستشفى مدينتا ، فهو قريب عليك ، وأنت تعلم أن مدينة هالمستاد تبعد عنا مسافة ليست بالقصيرة ؟
- المستشفى هناك مستشفى تخصصي ، وهذا هو السبب الذي جعلني أن أحمله الى تلك المدينة البعيدة بعد أن أكل الطريق ثلاث ساعات من وقتي .
- كم عمره ؟
- ثماني سنوات .
كان سلام قد سمع كلمة الثماني على أنها ثمانون سنة ، فلا فرق كثيرا في تلفظ كلمة ثماني باللغة السويدية وكلمة الثمانين ، خاصة وأن سفين قد نطقها بصوت تخنقه العبرات ، ويعتصره ألم ممض ، ومع ذلك فقد وجد أن آشي قد مات بعد عمر مديد طويل ، ولا بد أن السرطان كان سبب موته ذاك .
- مات بالسرطان ؟
- نعم . بالسرطان ! قال سفين ذلك ، وهو يهز رأسه تعبيرا عن أسف يجتاح كيانه كله ، ولا يستطيع معه منع دموعه التي سالت على خديه ، وانحدر فيض منها على ملابسه ، وهذا ما حمله على إخراج منديله ليزيح بقاياها عن وجهه .
- لماذا أنت حزين الى هذا الحد ؟ تساءل سلام وأضاف : كلنا نموت ! كل شيء ظهر من هذه الأرض سيعود الى هذه الأرض . قال ذلك وهو يشير بيده الى مسافة الأرض التي تفصل بينهما ، وهما يتحادثان وقوفا.
- نعم . لقد أكل السرطان كبده ، ثم انتشر في أنحاء جسده الأخرى ، ولهذا قال لي الطيب المختص لا شفاء يرجى من وراء حالته المميتة تلك .
- لكنه كبير السن ، وبلغ من العمر ثمانين سنة ، فماذا ينتظر الطبيب منه بعد هذا العمر ؟
- لا . أنا لم أقل ثمانين عفوا ، قلت : ثماني سنوات فقط !
أخذ سلام العجب ، فهو لم يعرف ولدا صغيرا لجاره سفين بعمر ثماني سنوات ، كل ما يعرفه عنه أن له ولدين متزوجين ولديه أحفاد من كل واحد منهم ، وهما يسكنان في مدينتين أخريين من مدن السويد ، فهل كان آشي واحدا من هؤلاء الأحفاد ؟ تساءل سلام مع نفسه ، ثم عاد من جديد ليتساءل ثانية : هل مات آشي بالسرطان ، مثلما يدعي سفين ، مع أن مرض السرطان قليلا ما يصيب الصغار في السن ؟ لكنه بعد ذلك أراد أن يقف على ما ينوي سفين فعله بعد هذه الفجيعة التي حلت به ، وهو الرجل الذي ما كان ليحدثه هذا الحديث الطويل لولا تلك الفجيعة التي نزلت به ، فقد اعتاد هو أن يبادل سلام التحية من بعيد ، وهو ذاهب الى داره ، وهذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الى سلام حديثا استغرق وقتا طويلا بعد مرور أكثر من سبع عشرة سنة متواصلة من الجيرة .
- أين ستدفنه ؟
- يعز علي دفنه ، فقد كان يملأ الشقة حركة ، وها أنا الآن عدت أراها فارغة تماما ، رغم أن كل مكان منها لا زالت يذكرني به ، فقد كان يخرج من غرفة فيها ليدخل غيرها من الغرف ، ثم يعود ليطوف حولي كثيرا ، ويجلس بالقرب مني أحيانا ، وطالما تناول قطع من الأكل معي ، وحين نفرغ منه يرمي عينيه الجميلتين على وجهي بنظرة طويلة ، وفي إشارة منه يدعوني بها الى الخروج من الشقة ، والقيام بطوافنا المعتاد حول البحيرة ، وبين أشجار الغابة القريبة من دارنا .
- وا حسرتي عليها ! لقد مرت كل تلك الساعات سريعا ، وها هي قد عادت ذكريات تعصر القلب مني ، وتجعلني أغرق في بحار عميقة من الحزن ، تتقاذفني فيها أمواج نيران الحسرات المتصلة ، وتيارات الألم المستمر ، ومن دون أدنى شعور مني صرت أردد مع نفسي : أين أصبحت - يا آشي - مني ! ؟ عدت بعدك غريبا ، لم أجد غيرك رفيق نزهة تأخذنا الى شفق أحمر من شمس يتراءى فوق خط الأفق البعيد ، ونحن نحث الخطى حول البحيرة حين يملأها الماء صيفا ، أو حين تعود ثلجا شتاءً ، وساعتها كنا نعبر على ظهرها دونما خوف ووجل ، مختصرين طريق العودة الى البيت .
- تماسك أيها الرجل ! لقد مات لك واحد بينما يموت لنا المئات كل يوم ، هناك في طرقات مدن العراق ، وفي عمليات قتل أعمى تحصد الأرواح في كل دقيقة تمر ، حتى صارت الناس في بلدي تسمي ساعات الزمن بأسماء من قتلوا فيها ظلما وعدوانا في حرب ليست لها نهاية على ما يبدو .
- نعم . لقد رأيت تلك المجاز الفظيعة ، شاهدت كيف ترمى جثث القتلى عندكم في الطرقات وبوحشية قل نظيرها في التاريخ ، والمحزن بعد ذلك هو أنني أرى صبية يرقصون حول تلك الجثث ببنادقهم ، إنه أمر مخيف في أن يتسافل الأنسان الى هذه الدرجة من الانحطاط في الأخلاق والتصرف.
- ليس هذا فقط - يا سفين - ! ربما رأيت كيف يقتل الجوع عندنا الناس ، ربما رأيتهم يطوفون على أماكن النفايات ، يفتشون فيها عن كسرة خبز ، هذا في وقت لا يخلو سوق عندكم من رفوف تحمل على متونها ما لذ وطاب من طعام خصص لكلابكم وقططكم !
- أمر يبعث على الأسف والحزن . قال سفين ذلك ثم خطرت في عقله صورة آشي من جديد !
- لكنك لم تقل لي ما أنت فاعل بآشي !
- ربما لا تعلم أنت بوجود مقبرة في كل مدينة في السويد مخصصة لدفن الحيوانات التي تعيش معنا في البيوت ، تحاط بالرعاية الدائم ، وتزهو بالشجر والورود ، ولكن دفن آشي في تلك المقبرة ، وبعيدا عني يحز في نفسي ، فأنا لا استطيع فراقه حتى بعد موته ، فقد كان كلبا ودودا ، محبا لي ، ومطيعا في الوقت نفسه !
- هل تريد حرقه على طريقة أجدادكم القراصنة ، أو على عادة البوذيين من الهنود ؟
- نعم . هذا ما سأقوم به ، وقد دفعت لعملية الحرق هذه ألفين من الكرونات ، مثلما دفعت ألفا ثالثة للعلبة التي ستواري بقاياه فيها ، وبعد ذلك ستحمل لي تلك العلبة الزجاجية لأضعها في مكان ما من شقتي ، مكان يسمح لي بمشاهدة بقايا آشي كل ساعة وكل يوم ، فثق أنني حزين عليه غاية الحزن ، رغم أنني اشتريت كلبا بعمر شهرين من شركة تبيع كلابا من ذات فصيلة آشي ، ومن مدينة لوند الجنوبية ، وقد دفعت ثمانية آلاف كرونة ثمنا له ، كما أنني وقعت عقدا مع صاحب الشركة قدم لي فيه ضمانا بسلامته وصحته لمدة سنتين كاملتين . هذا بالإضافة الى ما قدم لي من شهادات تطعيم صادرة من المراكز الصحية المختصة !
عند ذاك الحد من الحديث ودع سلام جاره السويدي ، سفين ، بحرارة ، داعيا له بالصبر والسلوان الجميلين ، ولكنه كان يردد مع نفسه : من للبشر هناك !؟ من للبشر هناك !؟
= = = = = = = = = = = =
* قصة قصيرة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان محمد الجراح يرد على منتقديه بسبب اتجاهه للغناء بعد دو


.. بأغنية -بلوك-.. دخول مفرح للفنان محمد الجراح في فقرة صباح ال




.. الفنان محمد الجراح: قمت بالكثير من الأدوار القوية لكنها لم ت


.. نقيب المهن التمثيلية يكشف حقيقة شائعة وفاة الفنان حمدى حافظ




.. باراك أوباما يمسك بيد جو بايدن ويقوده خارج المسرح