الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


باص القرية

أزهار الصفا

2008 / 11 / 13
الادب والفن


بدأت الأمطار تهطل بغزارة وترت حرية منير في حزم حقائبه المتناثرة على الأرض , بعد إخراجها من السيارة التي أوصلته المدينة بعد أن قدمت به من طريق الجسر الفاصل بين الأردن و فلسطين . التفت حوله لإيجاد سيارة أجرة , تقله إلى قريته , ولكن , حفيف الأمطار , و رذاذ صوتها اللذان تكفلا بانشغال أصحاب السيارات بنقل الناس إلى منازلهم حال دون ايجاد سائق يقل منير إلى قريته "عصيرة الشمالية" مما زاد من ارتباكه وبحثه عن وسيلة تقي حاله من الأمطار . ولم يجد سوى أحد الحافلات القديمة لمطلبه ناصر, إذ به يقف بجانب منير , ويخرج السائق لمساعدته على وضع الحقائب داخل الباص . دخل منير الحافلة بنفس متعالية مضطرة للقبول , واتجه صوب المقعد الأخير وهو ينظر من حوله نظرات يملأها التقزز والاشمئزاز من لا شيء , وكأن لا أحد من الموجودين يجاري مستواه وقيمته . وضع الحقائب في مكانها المخصص , ونظر حوله بتمعن , حتى القت عيناه بأحد أصدقائه . ابتسم له ابتسامة اضطرارية , وطلب منه الجلوس بجانبه .جلس منير بجانب عامر وبدأ يمسح قطرات المياه المتجمعة على معطفه كحبات زيتون تتلوح بين أغصانها .

سارت عجلات الحافلة باتجاه القرية ببطء مقيت وتر أعصاب منير من شدة تعرجها . مما دفعه إلى تمدد جسده على الكرسي و اسناد رأسه على حافة الكرسي الماثل أمامه ليريح أعصابه قليلا . لكن حظه السيء فاجأه برذاذات صغيرة من المياه تمسح هدوء ذهنه و توقظ توتر أعصابه وتلامس نعومة شعره , نظر من حوله باستغراب يبحث عن سبب ابتلال شعر رأسه مجددا . و قال لصديقه عامر :
_ من أين جاء الماء ؟
دقق عامر النظر جيدا في مكان تساقط الرذاذات , عله يعرف مصدر نبوع الماء حتى التصقت عيناه بثقب صغير في سقف الحافلة , و كان يعتصر من ثناياه الماء . وقال :
_ إن الحافلة مثقوبة السقف .
تشنجت الدماء في عروق منير لما رأى , و قال بغضب :
_ ما هذا الاستهتار ؟ إن كانت الحافلة غير مؤهلة لايصال الناس إلى بيوتهم , فلماذا يستخدمونها ؟
سمع السائق نتوءات متباعدة من كلمات منير المنسوجة من التهكم , وقال مع ذاته بانزعاج :
_" إن كنت مترفعا عن الركوب في الحافلة فلماذا قبلت من البداية الركوب؟"


دقائق قليلة على صمت منير من جديد حتى ازداد تساقط الأمطار في الخارج , وزاد تكاثف بخار الماء على الزجاج الأمامي للحافلة , فأخرج السائق يده , و مسح الماء المتجمع على الزجاج بها , حتى ثارت ثورة منير التهكمية الانتقادية مجددا . و قال :
_ و ماسحة الماء تالفة ؟؟ ما هذه الحافلة ؟؟ ...
ثم ارتفعت بتدرج متعمد نبرة صوته , مستقصدة السائق :
_ كيف تقود الحافلة بلا ماسحة ماء شتاء؟ و كيف تخاطر بأرواح الركاب بلحظة غباء من صنع دماغك ؟
التفت السائق بغضب إلى منير , دون أن يتكلم . و عاود مسح الماء بيده و ثورة منير الانتقادية تزداد شدة جراء اكتشافاته المتتالية بتلف الحافلة . و خاصة أن الزجاج الأمامي للحافلة امتلأ بالماء . و بخاره غبش وضوح الرؤية أمام السائق . و زاد الأمر خشونة و ضيقا: قيام أحد الركاب بإشعال سيجارة ليدخنها . مما أثار ضجة دخان ورماد متطاير بعشوائية بعيون الركاب . و حوّل ثورة منير الانتقادية إلى ساحات استهزاء مزعجة قائلا :
_ حافلة مدمرة كهذه بالتأكيد سيكون الاشتعال مصيرها .
ثم التفت نحو السائق قائلا :
_ ألا تشاهد دخان "ماتور" حافلتك وراءك؟
لم يحرك السائق ساكنا جسده , ولكن بذهنه قال :
_" فعلا وقاحة "
ثم التفت بتوتر إلى الخلف قائلا :
_ الذي أشعل السيجارة يطفئها .
مد منير يده إلى النافذة المجاورة لمقعده كي يفتحها , علها تخرج الهواء الممتلئ برائحة الدخان من بين أحضانها , و تدخل مكانه هواء ا نظيفا منعشا . حتى ثارت ثورته من جديد لما اكتشف من تلف النافذة و قسوة زجاجها , فالنافذة غير قابلة للفتح من شدة تراكم الصدأ على حافتها , و زجاجها لا ينطق حراكا . فقال منير :
_ الله أكبر... الله أكبر...
ردة فعل أوهمت الركاب بأمانٍ مصطنعة , وطارت ظنونهم إلى أن فلسطين قد تحررت من وراء هذه التكبيرات الغير مبررة أصداؤها. التفت عامر إلى منير وقال له :
_ ما الخطب ؟؟
_ الزجاج لا يفتح , ماذا تبقى من الحافلة غير تالف اذن ؟؟ تسير ببطء متعرج , وليس لها ماسحة , و مثقوبة السقف , و تخرج الدخان من بين حناياها . فمجرد الركوب فيها يعتبر مغامرة حياة أو موت .
غضب كبرياء السائق لما سمع ,و صرخ على منير قائلا :
_ بما أن الحافلة لا تعجبك فاخرج منها .
ضحك منير مستهترا وقال :
_ بالتأكيد سوف أخرج . أم تظنني بلا كرامة كي أبقى ؟
و مد يده نحو السائق ليناوله الأجرة و قال :
_ أساسا ليس نحن من نلزم بدفع النقود للركوب بحافلتك , و إنما الواجب منك أن تدفع لنا للركوب معك , و اجراء مغامرة حياة أو موت في حافلتك .
و نزل تحت سقف كثيف من الأمطار من الحافلة . ووقف ينتظر مرور سيارة أفضل مما عايش . مرت من أمامه سيارة أجرة , فأوقفتها يده , و ركب فيها وبدأ يتأمل نظافة السيارة و حداثتها , و دفء الجو داخلها . ثم قال مع نفسه :
_" ليست كالحافلة "


أسرع السائق به نحو القرية , و بلا اكتراث من صعوبة الطقس في الخارج استخدم كل ما تمتلك سيارته من سرعة ليجد سيارته بسيارة ثانية تصطدم , و تتسبب لا مبالاته بحادث مأساوي كسّر به غرور منير قبل عظامه و حطم تكبره مع الجسد المتحطم الملقي على الكرسي ينضح بالدماء. فقال منير للسائق :
_ على الأقل وصلت الحافلة بجميع الركاب سالمين ... و أنا وبكل تأكيد سأعود للمدينة للعلاج في المشفى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت


.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال




.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب


.. مقابلة فنية | المخرجة لينا خوري: تفرّغتُ للإخراح وتركتُ باقي




.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء