الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هكذا كنا... فكيف أصبحنا....

ثائر العذاري

2008 / 11 / 13
الادب والفن


لم أتعود أن أكتب في غير تخصصي الذي أحبه وهو الدرس الأدبي أو النقد بمفهومه العلمي، غير أن ظواهرَ تستوقفني بشكل يومي دعتني واضطرتني إلى كتابة هذا المقال الذي أتمنى أن يفهم على أنه صيحة ضيق واستنكار لما وصل اليه التعامل مع اللغة الأدبية من تساهل فج خصوصا في النشر الألكتروني.
في أول الثمانينات كان لقائي الأول مع استاذي الذي تشرفت بالتتلمذ على يديه الدكتور علي عباس علوان أطال الله في عمره ومده بالصحة والعافية، الذي عملت في الماجستير والدكتوراه تحت إشرافه، كان رجلا، مع تلقائيته الشديدة ومودته المفرطة، مهيبا لا يمكن أن تتحدث معه من غير أن تتلعثم أو ربما تنسى ما كنت تريد الحديث عنه، ويصدق عليه قول الفرزدق:

يغضي حياءً ويغضى من مهابته فما يُكلّم إلا حين يبتسم

تشجعت قليلا وقررت مفاتحته في رغبتي بالعمل معه في موضوعي للماجستير الذي كان عن الشعر العراقي الحديث، فكانت بيني وبينه جلسة طويلة ما زلت أعدها دستورا لحياتي العلمية.
قال: (ولدي) – هكذا يناديني حتى الآن لدرجة أني بت أشعر أني أحد أبنائه حقيقة- لا تظن أن الدرس الأدبي أمر يسير، فهو درب شاق، فلكي تكون دارسا للأدب يجب أن يكون وعيك باللغة أشد من وعي الأديب، فالدرس الأدبي يتطلب منك أن تكون عالما باللغة والنحو والصرف والبلاغة وعلوم اللغة الحديثة من ألسنيات وأسلوبيات وصوتيات وعارفا بالفلسفة والسياسة والاقتصاد.
ثم حدثني عن الجواهري شاعر العرب الأكبر بوصفه مثالا للأديب العراقي المعاصر، وقال كيف ستدرس الجواهري الذي لا يجرؤ متخصص بالنحو أن يقول له لقد أخطأت يا أبا فرات لعلمه الجم بأسراره وشواذه وشواهده وأوجهه.
مدّ يده إلى درج مكتبه وأخرج ورقة أمسكها في يده وهو يواصل حديثه: لتكون دارسا للأدب يجب أن تتوفر لديك ثلاثة شرائط، أولها أن تجيد لغة أجنبية عالمية وثانيها أن تكون لديك موهبة القدرة على التأمل وثالثها أن تتدرب على يد ناقد معلم، خذ هذه الوصفة ستعينك. وناولني تلك الورقة. كانت عبارة عن قائمة بستين كتابا من كتب التراث العربي النقدي وكتب النقد الحديثة، منها الصناعتين للعسكري ونقد الشعر لقدامة وعيار الشعر للعلوي وميادئ النقد الأدبي لريتشاردز وقواعد النقد الأدبي لكرومبي ونظرية الأدب لويليك وأسس الفلسفة الماركسية.........
قال اقرأ هذه الكتب ثم تعال، وفي الحقيقة كنت قد قرأت عددا منها من قبل لكني أعدت قراءتها إكراما له خاصة أني أحسست أن هذه الكتب الستين يمكن أن تكون نظاما معرفيا فريدا عندما تكون معا في مثل وصفة الدكتور علي عباس علوان، ومنذ ذلك اليوم لازمته ملازمة الظل وأنا مدين له بكل ما أعرف الآن.
و زبدة القول التي أردت الوصول إليها من هذا الذكر الطيب لناقد كبير ما زال يرفد الحياة العلمية بفكره النير، هي نظرة مثل هذا العملاق إلى الصورة المفترضة للأديب.
أين هذه الصورة من ما نراه اليوم على صفحات الجرائد وما نرى من أضعافه على صفحات النت من أخطاء فاحشة في النحو والاغة وحتى الإملاء من أقلام تعد اليوم أقلام جهابذة الأدب ونحارير الشعر، كما يرى من يكتبون لهم التعليقات على نصوصهم التي يدعون أنها فتوح في عالم الأدب اليوم.
لقد أصبح من الشائع أن يلحق الكتاب ياءً بتاء الفاعل عندما يخاطبون مؤنثا فيقولون كتبتي بدلا من كتبتِ، ويكتبون لكي بدلا من لكِ بل يلحقون الياء بكل ما يريدون الدلالة به على التأنيث.
أما الهمزات فحدث عنها ولا حرج إذ تكاد قواعد كتابة الهمزة أن تنسى ونمّحي من الأذهان. وقل مثل ذلك عن الأسماء الستة والأفعال الخمسة وإعراب المثنى وجمع المذكر السالم والممنوع من الصرف وإعمال الأسماء المشتقة و...و...
هل علينا -نحن دارسي- الأدب أن نترك البحث في دلالات النص وإيحاءاته وإحالاته ومرجعياته، نضرب عن متابعة التكنيكات والانزياحات، لنتفرغ لتصحيح الإملاء والنحو؟!
ألا ترى معي أيها القارئ الكريم أننا جميعا في مأزق ثقافي حرج، هذا الاستسهال المؤذي لركوب مراكب الأدب سيؤدي في النهاية إلى غرقنا جميعا، فمراكبنا لا تتحمل هذا العدد الكبير من الركاب، فضلا عن أن أكثرنا لا يجيد مبادئ السباحة ولا نقدر عواقب الغرق.
أستاذي الذي أكن له كل الحب والتوقير والاعتراف بالفضل يشغل اليوم كرسي رئاسة أكبر جامعة عراقية هي جامعة البصرة، ولهذا فهو منشغل بالعمل ليل نهار ومن المؤكد أن هذا المنصب يبعده قليلا عن توتر كبير كان سيصاب به لو كان متفرغا لمتابعة ما يكتب من أدب في يومنا هذا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب


.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج




.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت


.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال




.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب