الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النار التي تنضج الطعام ولا تحرق، الثقافة غير قابلة للتجزيء

محمد شرينة

2008 / 11 / 14
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


يمكن تشبيه المجتمعات من حيث صفاتها بالمعادن، فالنحاس يملك صفات النحاس لأنه مؤلف من ذرات النحاس وكذلك الكبريت يمتلك صفات الكبريت لأنه مكون من ذرات الكبريت، الإنسان الفرد هو الجزيء الأصغر أو الذرة في المجتمع وبالتالي يتصرف مجتمع بشكل مجتمع حر لأنه يتكون من أفراد أحرار، بينما يتصرف مجتمع بطريقة مستعبدة لأنه ببساطة يتكون من أفراد غير أحرار.
منذ عدة أشهر توقفت لشراء فلافل، طبعا هذا حدث عام 2008استغرقت العملية وقتا طويلا فعدد الزبائن كبير والتصنيع بطيء، وعند عودتي جرى حديث بيني و بين ابنتي، قلت لها:أول مرة شاهدت عملية صنع الفلافل كانت عندما قدمت عائلتي إلى دمشق عام 1967 وعمري 6سنوات، لدهشتي أنه باستثناء استبدال موقد الكيروسين(الكاز) بموقد الغاز(غاز البوتان) فان العملية تتم 100% اليوم كما كانت منذ 41 سنة، مع ما في ذلك من عناء يمكن اختصار الكثير منه، فلماذا؟ ولماذا لا يزال الكثير من الحصادين عندنا يستعملون المنجل الذي استعملوه منذ عدة آلاف السنين حتى الآن؟ بينما هناك أمم تركت استعمال الأدوات المتطورة التي كانت تستخدمها منذ عشرين سنة إلى ما هو أحدث وأفضل؟
جزيئات المادة تكتسب صفاتها أثناء تشكل المادة وتحافظ على هذه الصفات بشكل دائم فمثلا طريقة تبريد الحديد المسخن لدرجة الاحمرار تؤدي إلى تشكل معين لذرات الحديد، ولاحقا تحافظ هذه الذرات على هذا التشكيل، وهذا ما يحصل تماما مع الأفراد في أي مجتمع. يتشكل الفرد خلال طفولته ثم يحافظ على صفاته بقية حياته. يبين علم النفس الحديث أن أكثر من 90% من شخصية الفرد تتشكل قبل سن العاشرة.
علمونا في المدرسة أننا نحن العرب نملك ثروات مادية هائلة من الحديد في موريتانيا إلى الفوسفات في المغرب وطبعا النفط والغاز في كثير من أنحاء وطننا، لم يقل لنا أحد أننا نعيش في أفقر منطقة في العالم بالمياه التي جعل الله منها كل شيء حي، ليتبين لاحقا أنه باستثناء النفط و الغاز فمنطقتنا ليست من، بل أفقر مناطق العالم بالثروات الطبيعية، بدأَ بالماء والغابات وانتهاء بالمعادن. وهذا لم ولا يجب أن يشكل لنا مشكلة، فاليابان من أفقر الدول بالثروات الطبيعية ولم يمنعها ذلك من أن تكون ثاني اقتصاد في العالم رغم الحروب والدمار الذي تعرضت له. ولكن هذا صحيح بشرط واحد وهو أن يكون صحيحا أن الثروة البشرية هي الثروة الكبرى لأي أمة، هذا الشرط محقق في اليابان ومن البديهي القول أنه غير محقق لدينا، ومع ذلك لا أمل لنا في تحقيق أي تقدم فعلي إلا اعتمادا على هذه الثروة، الثروة البشرية فقط.
إن اعتماد أمة ما على الثروة البشرية، يعني بداهة اعتمادها على إبداع وعمل أبناءها وعلى إبداعهم أولا، فقبل أن نكون مبدعين لن نستطيع عمل أي شيء، لأننا إذا لم نعمل هذا الشيء بطريقة أفضل مما يعمله غيرنا فلن يكون لعملنا قيمة حقيقية في عالم تنافسي، فمثلا عندما نصنع سيارة أسوء من التي يصنعها غيرنا، وبنفس الكلفة، أو مثل التي يصنعها غيرنا ولكن بكلفة أعلى، فكلا السيارتين لا يمكن تسويقها ولا فائدة بالتالي من صناعتهما. وحتى نحقق الجودة الأعلى أو الكلفة الأقل وضمن ظروفنا، فلا بد أن نبدع شيئا لتحقيق هذه المعادلة. إذاَ لا معنى للحديث عن ثروة بشرية إلا بوجود الإبداع البشري. و لننتقل إذا للحديث عن الإبداع الذي يتبين أن مستقبلنا يتوقف تماما عليه(بعد الله والنفط) ولكننا في الواقع عاجزون تماما عن الإبداع فنحن كما في صناعة الفلافل وحصيد المحاصيل نفعل الأشياء بنفس الطريقة منذ الأزل والى الأبد، لماذا؟

الإبداع هو عملية مشاكسة بكل ما في الكلمة من معنى، الشخص الذي كان يجلس على حافة الكنبة وليس على الكنبة، وجد أن هيئة الجلوس هذه مريحة بشكل يجعل المرء في وضع بين الجلوس والوقوف، وبالتالي اخترع الكرسي المرتفع المقعد، بكل بساطة يمكننا القول أن الشخص العادي الذي دائما يجلس على الكنبة بالشكل الذي يتوقع منه أن يفعله وهو الشكل الطبيعي للجلوس على الكنبة، لا يمكنه أن يخترع ذلك النوع من الكراسي، فمقولة أن الأفكار تتساقط من السماء،مقولة حمقاء، فالأفكار تولدها التجارب في الحياة، تجريب ما هو ليس مألوفا يتطلب حس المشاكسة، لذلك توصف العبقرية بأنها أخت الجنون.
لنعد الآن إلى الشاب الذي تجاوز سن العاشرة كثيرا، واكتمل أكثر من 99% من شخصيته. نشأته أسرته، والده ووالدته، على احترام كل ما يُنقل إليه من المعارف والعادات إلى حد التقديس، احترام بل الأصح تقديس والديه ومدرسيه وكل من هو أكبر سنا منه وكل وجهاء المجتمع من مشايخ القبائل والجماعات، إلى مشايخ الدين والروحانيات. ليس هذا فقط بل قمعت كل ميل يملكه للاختلاف والتنوع، وبالتالي قضت تماما على كل قدرة أو حتى ميل للمشاكسة التي هي الإبداع، يمكن أن يملكه هذا الطفل قبل أن يصير شابا. في أحد الأفلام الأميركية تقرأ الأم لأولادها آخر مقالة كتبها والدهم الذي مات حديثا، فيها يتحدث الوالد عن النقاشات التي تدور بينه وبين أولاده وفي بعضها يصفه الأولاد: أنت أحمق يا أبي، ويقول أنه لم يكن يجرؤ أن يقول ذلك لوالده ولكنه مسرور لأن أولاده يجرؤون على ذلك، فهذا دليل تطور. في الواقع هو كذلكن فالجرأة جرأة غير قابلة لأن تتجزأ وفي المنزل يتعلم الطفل الجرأة وعلى يد والديه بالتحديد، فمن لا يجرؤ على انتقاد والديه اللذان هما أكثر الناس حبا له ورأفتاَ به، كيف يمكنه أن ينتقد أي أحد آخر؟ بالمناسبة أنا لا يزعجني أن يصفني أولادي بذلك، هذا ليس دليل عدم الحب أو عدم الاحترام ،يمكننا أن ننتقد من نحبهم ونمازحهم فهذا من الحب ومن الاحترام، ولكن لا يمكننا أن نفعل ذلك مع الذين نخافهم، الخوف شيء آخر غير الحب ويختلف تماما عن الاحترام، من هو الأب أو الرمز الديني أو حتى الإله الذي يهتم لأن تخافه الناس لا لأن يحترمونه ويحبونه؟
الواقع أن الحب والخوف لا يجتمعان، إذا خرجنا من طريقتنا في التفكير الذي نكذب بها على أنفسنا قبل الآخرين، فمن السهل ملاحظة أن الحب والخوف نقيضان لا يجتمعان. نحن نشاهد المسلسلات والأفلام الأجنبية(الأميركية) وهم يستعملون فيها تماما لغة الشارع الأميركي، دعك من الترجمة العربية فكثير منا يعرف الانكليزية بطلاقة ويفهم ما يُقال في هذه الأفلام، ولم كل هذا العناء فكثير منا عاش هناك ويعرف كل شتائمهم الوقحة، ولطالما سالت نفسي لماذا ليس لديهم شتائم تمس المقدس الأعلى؟ نحن نعرف أن مثل هذه الشتائم لا يمكن أن تظهر بأي من وسائل إعلامنا ولكننا نعرف أنها تستعمل بكثرة في شوارعنا، هذا هو الفرق بين الخوف والحب،واعذروني. في حين الغضب يكون الإنسان خاليا من كل تصنع وبالتالي تظهر مشاعره على حقيقتها، الذي يحب الله لا يمكنه أن.....
في نفس السياق من المهم توضيح الفرق بين الحب والرغبة في الاستحواذ أو التملك، تنفق الأم الغربية الكثير من عمرها في تنشئة أبناءها ثم هي لا تطلب ولا تتوقع مقابلا، تفني عندنا الأم عمرها كله في سبيل أطفالها ولكنها تتوقع أن يكون لها حق التصرف بهم بعد أن يكبروا، كيف يختارون زوجاتهم وأعمالهم وكل شيء، وهنا أذكر امرأة ذهبت إلى ربها منذ زمن، كانت تلوم نفسها طول حياتها على أنها دعت على ابنها الوحيد بالموت ليلة عرسه لأنها لم تتمكن من حضور عرسه، كانت منفصلة عن والده(زوجها السابق) ولم يجرؤ الولد على أن يدعو أمه إلى حفلة زفافه لأن ذلك لا يناسب أبيه، هذه الدعوة اُستجيبت خلال أقل من أسبوع، وظلت طوال حياتها تؤنب نفسها، ببساطة هذه مظاهر استحواذ وليست مظاهر حب.

و بالعودة إلى المشاكسة والحرية أسوق هنا مثالا بسيطا : ككل المدن الكبرى تسير الحافلات (الباصات) في خطوط محددة، وإحدى هذه الخطوط ينطلق من ضاحية قريبة من دمشق ويمر بمركز تجمع الحافلات شرق دمشق ثم يتابع خط سيره الذي يُفترض أن ينتهي قرب مركز المدينة. سائقي هذه الحافلات لا يرغبون عادة في الدخول إلى المدينة ويحاولون إنهاء رحلتهم عند نقطة تجمع الحافلات، والواقع أن معظم الركاب يترجلون عند هذه النقطة وحتى هنا لا توجد أي مشكلة. كثيرا ما يكون هناك عدد قليل من الركاب يريدون أن يصلوا إلى مركز المدينة وهي نقطة نهاية الخط الفعلية، ولكن كثير من السائقين يطلبون من هؤلاء الركاب الترجل، ويرفضون متابعة الرحلة رغم أن هذا مخالف للقانون، في كل المرات التي صادفت فيها هذا الوضع كانت عبارة( لو سمحت أكمل خطك) كافية تماما لجعل السائق يتم رحلته إلى مركز المدينة، فهو يعرف تماما أن المخالفة والغرامة المترتبة على عدم إكمال حافلات النقل العامة خطوطها حتى النهاية؛ كبيرة، و في كل هذه الحالات تقريبا كان شخص واحد فقط يقول هذه العبارة للسائق، بينما يعود بقية الركاب إلى مقاعدهم عندما يمتثل السائق للمطلوب بعد أن يكونوا هموا بمغادرة الحافلة.
لماذا حتى لا يفكر الناس بالمطالبة بحقوقهم؟ هل يرجع هذا إلى احتقار القانون المدني، فالحافلة ملك لسائقها وبالتالي يمكنه التصرف بها كيف شاء، هذه إحدى معضلات تفكيرنا فانا اعرف رجلا يوقف سيارته ويرفع من على الأرض كسرة خبز لأن رميها حرام وهذا يستغرق أكثر من دقيقة مع أن هذه العملية لا تفيد شيئا، بينما لا يتوقف عند إشارة المرور لمدة 30 ثانية، إذا تأكد أنه لا يوجد شرطي مرور، مع أن هذه العملية قد تكلف روحا بريئة أو أكثر. قد يكون هذا السبب، فنحن نحتقر القانون المدني ولا نتفاعل إلا مع القانون الديني. ولكن ليس من الصعب ملاحظة أن الناس يتساهلون في حقوقهم المدعومة مدنيا و دينيا، في نفس الحافلة السابقة يشعل أحدهم سيجارة رغم أن القانون يمنع ذلك، ورغم أن الآخرون يتأذون من الدخان فلا أحد يقول شيئا. فلماذا؟
لأن الأسرة والمدرسة وكل توجيه تلقاه هذا الرجل وهو مازال طفلا قتل كل قدرة على المشاكسة لديه، لقد تم تنميط هذا الشخص بشكل تام، وزُرٍعَ الخوف وتتفيه الذات وعدم الثقة في النفس في أعمق أعماقه، كيف يتوقع منه أن يدافع عن أي شيء، أو أن يبدع أي شيء؟
من لا يجرؤ على انتقاد والديه وعشيرته، من لا يفكر بتخطي ثوابت المجتمع المقدسة، من لا يتطرق إلى ذهنه أي انتقاد لثوابت المقدس، فلن يفكر أنه ربما تكون هناك طريقة أفضل من التي اعتادها لصنع الفلافل أو حصيد المحاصيل.
القضية مترابطة تماما حتى بشهادة أحد مفكرينا التقليديين: الإمام الغزالي الذي يقول في كتابه المعروف إحياء علوم الدين(أنقل المعنى طلبا للاختصار) يصف الغزالي قسوة هذه الحياة وكيف أن الطفل ينتقل من معاناة أنه إذا جاع لا يقدر على طلب الطعام، ثم يتابع أنه عندما يكبر يكابد معاناة طلب الرزق وتحصيل العلم إلى إن يقول(و إذا كان ذكيا تطرق إليه الشك بوجود الله). فالغزالي يعرف أن الذكاء لا يتجزأ وأن من يمكنه أن يشك في شيء سيستمر حتى يشك في كل شيء، لذلك يصفه بالذكي فغير الذكي لا يشك في أي شيء لا وجود الله ولا غيره.
طبعا هذه التربية القامعة للإبداع تتم بشكل كامل في مرحلة الطفولة، لكن الأمر لا يتوقف بل يستمر. تواجه الشاب في سن مبكرة مرحلة فسيولوجية ونفسية جديدة وهي الشعور الجنسي، متع الحياة الرئيسية هي الطعام والنوم والجنس، والشاب من الجنسين الذي تكون ممارسة الجنس(الجنس هو نشاط نفسي وجسدي وروحي وليس مجرد عملية جماع) بالنسبة إليه محصورة بان يصبح متزوجا بالطريقة التقليدية، و هو ما يصعب تحقيقه قبل سن ال35، مع أننا يمكن أن نلاحظ ببساطة أن أي عملية تربط شخصين راشدين طوعا وبدون أن تلحق أذى حقيقي بغيرهما – كان يكون لأحدهما زوج أو زوجة - هي زواج بكل معنى الكلمة، ومن وجهة النظر الدينية المسيحية يصعب تقبل هذا الطرح لأن الزواج بالعرف المسيحي التقليدي يمتد طول الحياة، بينما بالعرف الإسلامي الديني التقليدي فان هذه العملية هي زواج حقيقي، وحتى بالرجوع إلى أشد الأفكار الإسلامية تقليدية، فان هذه العملية هي زواج، فأركان عقد الزواج الإسلامي هي الإيجاب والقبول والمهر والشهود والولي والأحناف(المذهب الحنفي) لا يشترطون الولي للمرأة الراشدة، وبالتالي فهذا عقد زواج شرعي، ولكن هذا كله لا يهم فقهاؤنا المعاصرون، فهم مقيدون بكل عقد العالم وشعارهم هو نقيض الآية(ما جعلنا عليكم في الدين من حرج).
في عمري الحالي والكثير من مجايلي(من هم في أواخر الأربعينيات من العمر أو أكبر)، نكون في غاية التحيز والغباء وقد مررنا بتلك المرحلة، أن نتوقع من شاب يتمكن من الزواج في سن ال35 - وهو متوسط سن الزواج الحالي في كثير من دولنا - أن نتوقع من هذا الشاب أن يكون مبدعا بل أن يكون سوياَ. الحالة تماما أنني لا أنا ولا الشاب الذي عمره 25 سنة نهتم كثيرا لدرجة العشق، لتناول الآيس كريم فهذا شيء كنا نعشقه عندما كنا أطفالا، تصور طفلا يمنع من اللعب والهدايا والايس كريم، على أمل أن يحصل عليها بعد أن يتجاوز ال25 من عمره، هل هذا تعسف وتدمير لروحه أم لا؟
هل ندري أن كل أبطال الألعاب الرياضية من ملاكمة إلى كرة قدم إلى تنس إلى... ينهون حياتهم المهنية ويعتزلون قبل سن ال35، مما يعني بعرفنا أنهم يجب أن لا يكونوا عرفوا الجنس الآخر أو تذوقوا متعة الحب والحياة، أي همجية هذه؟ حتى معظم الانجازات الفكرية أنجزها الناس قبل هذا العمر، قبل أن يكون من حق المرء أن يعرف الحب حسب ثقافتنا؛ كان الاسكندر قد أتم بسط سيطرت الإغريق على العالم وغادر الحياة (قبل هذا العمر). وحتى بعد هذا العمر من يقول أن هذا الطفل الذي ظل محروما من حقوقه كطفل حتى بلغ ال25 من عمره مازال قادرا على أن يكون طفلا، وهذا الشاب(من الجنسين) الذي عرف الجنس الآخر بعد أن انتهت الفترة التي كانت عواطفه الجسدية والنفسية في أوجها، الذي تعرف على الجنس في المرحلة التي بدأت فيها تخبو هذه العواطف؛فكيف سيكون سليما نفسيا ما امتدت به الحياة، فقط لننظر حولنا ونرى.
أما إذا قدر الله و كانت أنثى، فلا عمر ال35 و لا سن ال45 يحل مشكلتها ويعطيها الحق في أن تعاشر رجلا وربما تنجب طفلا، فإذا لم يتكرم رجل ويطلبها للزواج، عليها أن تجد ديرا تتبتل فيه،والمشكلة أنه ليس عندنا أديرة.
في يوم كنت متدينا وبطريقة أصولية إلا أنني لم أكن أعمى، فما سبق وقلته فكرت به حتى في ذلك الحين، إذا لم يتقدم رجل ويطلب المرأة للزواج كما هو حال حوالي ربع نساؤنا، هل من المعقول أن هؤلاء النساء محكوم عليهن أن يحيين ويمتن دون أن يعاشرن رجلا أو يعرفن ما هو الحب والجنس، والذي هو كما أسلفت ليس مجرد عملية جماع؟ هل هن محكوم عليهن ألا يُصبحن أمهات؟ وإذا كان كذلك فمن هو الذي أصدر هذا الحكم؟ أنا غير قادر على احترامه كائنا من كان، وأنا متأكد أنه ليس الله ولا نبيه؛ الذي يقول في الحديث الذي رواه أبو ذر الموجود في صحيحي البخاري ومسلم وصيغة مسلم: (........من مات يشهد أن لا اله إلا الله دخل الجنة .........وان سرق وان زنى – يكررها أربعا و في الأخيرة يضيف: ورغم أنف أبي ذر) وأهم منه الآية(إن الله لا يغفر أن يُشرك به،ويغفر ما دون ذلك لمن يشأ) فإذا كان حتى الزنا عنده ليس نهاية العالم، فكيف يكون حصول المرأة والرجل على حقهما في الحياة معارضا لتعاليمه؟
علمت أن امرأة أعرفها، شبه كاملة ،ذات علم وأخلاق غير أنها ليست شديدة الجمال، تمت خطبتها على شخص لا يمكن أن يقارن بها في أي شيء، أخلاقيا هو صفر اليدين ومع ذلك يكبرها ب25 سنة ومتزوج، اعتبرت الأمر شخصي ورغم تعجبي لم أسألها. بادرتني قائلة ألم تستغرب من قراري؟ أجبتها بصراحة نعم ولكن هذا أمر شخصي خاص بك. تابعت حديثها وهي تجهش بالبكاء، أ تظن أنني سعيدة؟ عمري 32 سنة وأريد على الأقل أن أحصل من هذا العالم على طفل يناديني: ماما.

بدون أن يكون الشخص حرا ومشاكسا فلن يكون مبدعا و لا حتى إنسانا حقيقيا، من لا يجرؤ على تحدي سلطة والديه ومقدسات عائلته ولا يفكر بتغيير مقدسات وثوابت عشيرته وربما دينه، وأنه ربما هناك ما هو أفضل مما اعتاد عليه، فلن يفكر أبدا بطريقة أفضل من التي اعتادها لصنع الفلافل ولا لحصد الزرع.
النظام السياسي لدينا هو الآخر متخلف لكن المشكلة الأساسية ليست فيه، فالنحاس نحاس لأنه مكون من ذرات النحاس وكذلك هو الكبريت، ومادامت اللبنة الأساسية لمجتمعاتنا مقموعة مقهورة محرومة من حقوقها الشخصية كالجنس والنوم(الشباب الذين لا يمارسون حياة جنسية طبيعية لا ينامون بشكل طبيعي) قبل حقوقها المدنية، فلا يجب أن نتوقع أننا يمكن أن نحصل على النحاس بتجميع ذرات السيلكون.
عودة إلى المشاكسة التي هي أساس الإبداع و لنقارن بين طرح الأصوليين العرب و طرح الحداثيين العرب من قوميين و يساريين وإسلاميين حداثيين:
الأصولي يقول أن النار حارقة وبالتالي فهي ضارة وأنا لا أريدها في منزلي، أنا أعرف أن الطبخ مثلا لا يتم بدون نار ولكنني لا أريد أن أأكل طعاما مطبوخا، هناك كثير من الأطعمة يمكن أن تأكل دون طهي كالتمر وهو طعام مبارك ، هذا طرح سخيف ولاشك و لكنه ممكن. النار هنا هي الثقافة الغربية.
ماذا يقول الحداثي؟ يقول أنا أريد نارا تنضج الطعام ولا تحرق وهذا طرح سخيف ومستحيل.
تضيع معظم معركتنا نحن الحداثيين العرب في محاولة: إما إثبات أن الثقافة الغربية مثالية وخالية من النواقص
أو محاولة تبرير هذه النواقص وهذا بالضبط ما نفعله عند مناقشتنا لنواقص الإسلام في عصره الأول هجوما أو دفاعاَ .
لا أحد يقول أن الثقافة الغربية كاملة هذه الثقافة التي أصبحت، كما قالت المفوضة السابقة لحقوق الإنسان، الايرلندية ماري روبرتسون، في برنامج تلفيزيوني، ثقافة عالمية، فباستثناء المسلمين(ليس كلهم) فهي مقبولة من كل أمم ارض، ولا الإسلام كان كاملا في أي مرحلة من مراحله، بل لن يكون هناك نظام ولا فكر و لاشيء كامل في هذا العالم، هذا مستحيل.
كل ما في الأمر أن هذا النظام القيمي العالمي الموسوم بالغربي لأنه أخذ شكله هناك متضمنا كل معايير ومعارف البشرية التي سبقته، هو الأفضل وبما لا يدع أي مجال للمقارنة مع أي نظام آخر بما فيه الإسلام، و الدليل هو تقدم من يتبع ذلك النظام وتخلف من يتمسك بالآخر. طبعا روعة الإسلام كما أسلفت أنه وبعكس كثير من الأديان لا يملك في عمقه ما يتناقض مع الحداثة العالمية وبالتالي يمكن بسهولة أن نكون مسلمين وحداثيين، كما يمكن وبيسر أن نطور نسخة من الإسلام تحتوي كل هذه الحداثة العالمية وبالتالي يمكننا عنده أن نكتفي بالقول أننا مسلمون؛ذلك أن الحداثة أصبحت محتواة في هذا الوصف.
ببساطة لنفرض أننا اخترعنا العربة التي تجرها الخيول يوم أن كان الناس ينقلون أحمالهم على ظهورهم، فهذا تطور كبير قدمناه للبشرية، ولكنه لا يعني مطلقا أنه أفضل من السيارة، كما أنه لا يعني أن تلك العربة ليست أكثر أمنا من السيارة فهي نادرا ما تسبب ضحايا بعكس السيارة التي تسبب الكثير من الضحايا، كما لا يعني أن العربة ليست أفضل بيئيا فهي بالكاد تلوث البيئة بعكس السيارة التي هي العامل الأساسي في تلويث البيئة. وإنما يعني بكل وضوح: هل نحن بشر لدينا طموح وبالتالي نريد أن نستعمل السيارة و نتعامل مع مشاكل استعمالها، التي لا مفر منها؟ أم نحن كائنات من نوع آخر نفضل أن نستمر في استعمال العربة التي تجرها الحيوانات لأننا جبناء للحد الذي نخاف من العواقب غير المرغوبة التي قد يسببها استعمال السيارة؟ ذلك أن التمتع بمزايا استخدام السيارة فقط دون المساوئ التي قد تنتج عنه غير ممكن.
وفي الختام أريد أن أوضح أنه من الخطأ تماما أن يقول الحداثيون لمواطنيهم أن كل شيء في العالم الغربي رائع وأفضل مما هو لدينا، هذا غير صحيح ولعل ما يثبت هذا هو أن النسبة العظمى من العرب والمسلمين الذين يعيشون في الغرب غير حداثيين، والسبب معروف: لدينا الكثير من الأشياء التي هي أفضل مما هو موجود في الغرب، فقد عشت هناك وأعرف كم هي الحياة قاسية ولكنها بنفس الوقت منتجة وكونها منتجة ناتج عن كونها قاسية. كم ي الحياة هناك صارمة ولكنها بنفس الوقت عادلة وصرامتها هي السبب في كونها عادلة، ما يعني أنه بإمكاننا أن نأخذ القضية بطرفيها أو نتخلى عنها بطرفيها،هذه هي الحياة ،ما يبدو خيرا وما يبدو شرا هما وجهان لورقة واحدة ولا مجال للاختيار أو الانتقائية. ما يجب أن يتم التركيز عليه أنه حتى الآن وربما حتى آخر الزمان لن يكون من الممكن العثور على نظام مثالي، يجمع كل المحاسن و يخلو من جميع العيوب، لذا يجب علينا أن نختار الأقل سوءا، هذا العالم لم يصبح فردوسا بعد ولا يبدوا أنه سيصبح، ما أكثر العرب المحبطين الذين قابلتهم في كندا، ماذا كنا نتوقع، أن نجد فردوسا هناك؟ يجب تقبل الحياة بواقعية فنحن نبحث عن الأفضل وليس عن المثالي فهذا غير متوفر.وهذا الأفضل ليس ثقافتنا، دون أدنى شك. الأفضلية هي للطرف الآخر و بفارق مذهل.
ولكن يجب أن لا ننسى أننا نعيش في عالم تنافسي، وحتى لو رضينا بطرق حياتنا غير المنتجة والتي لا شك فيها بعض الدعة والليونة اللتان قد لا توجدان بنفس القدر في طريقة حياة الغرب، وبنفس الوقت تغاضينا عن كل النواقص والمآسي التي تحتويها طريقة حياتنا، فان الأمر من المرجح أن ينتهي بنا إلى كارثة. فأن تكون ضعيفا يعني أنه سيفرض عليك غدا ما تفر منه الآن، هذا إذا لم تتم إزاحتك كليا، وما حدث في فلسطين وسبتة وجنوب السودان مجرد مؤشرات.

نقطة البداية هي أن نقول نحن العلمانيين وبصوت عالي أن النار تحرق دون شك، ولا يوجد نار تنضج الطعام ولا تحرق، إن استخدام النار له مخاطره، ولكن لا يمكن لمنزل يعيش فيه بشر متحضرون إلا أن يكون فيه نار، نحن نريد اللحم فقط من الذبيحة و لكننا نعيش في عالم كل الذبائح فيه تحوي عظما ودهنا وأحشاء ودما، بوضوح: الثقافة غير قابلة لأن تتجزأ. وبالتالي فنحن نريد النار والسيارة ونقدر على التعامل مع مخاطرهما، ونريد اللحم ونستطيع معالجة بل ربما الاستفادة من المنتجات الثانوية للذبائح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما مدى أهمية تأثير أصوات أصحاب البشرة السمراء في نتائج الانت


.. سعيد زياد: إسرائيل خلقت نمطا جديدا في علم الحروب والمجازر وا




.. ماذا لو تعادلت الأصوات في المجمع الانتخابي بين دونالد ترمب و


.. الدفاعات الجوية الإسرائيلية تعترض 3 مسيّرات في سماء إيلات جن




.. فوضى عارمة وسيارات مكدسة بعد فيضانات كارثية في منطقة فالنسيا