الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرية الديمقراطية المغربية -3-

بلكميمي محمد

2008 / 11 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


واصل الراحل عبد السلام المؤذن من زنزانته بالسجن المركزي بالقنيطرة ، اجتهاداته في تحليل الواقع المغربي لاكتشاف قوانينه المحركة من اجل انارة النضال الديمقراطي ، وقد ساهم ايضا باجتهادات بالغة الاهمية على عدالة وتقدمية الكفاح المغربي من اجل استرجاع الاقاليم الصحراوية .
المساهمة التي ننشرها بهذا المنبر هي من جريدة انوال 1988 والتي تناولت اهم قضايا النضال الشعبي المغربي ، وهي قضية الديمقراطية وتعرض فيها الى سبعة عناوين رئيسية 1- حقيقة المجتمع المدني المغربي . 2- حقيقة الدولة السياسية المغربية 3- جدلية الدولة والمجتمع . 4- الشكل الاستبدادي لدولة الطبقة الواحدة .5- الشكل الديمقراطي لدولة الطبقة الواحدة .6- تناقضات ديمقراطية دولة الطبقة الواحدة .7- ديمقراطية دولة كل طبقات المجتمع .
الحلقات الاولى تتناول العناوين الثلاثة الاولى .
نشر الحوار المتمدن الحلقتين الاولى والثانية من هذه المساهمة « نظرية الديمقراطية المغربية» وفي الاعداد المقبلة من الحوار المتمدن هاهي الحلقة الثالثة عبر اجزاء وفقرات وهي الاخيرة .

6- تناقضات ديمقراطية دولة الطبقة الواحدة .
ان الديمقراطية الحالية هي ديمقراطية الطبقة الواحدة ، ولان هذه حقيقتها ، لذلك قامت اصلا على ترسانة ضخمة من القوانين المتنوعة ( ابتداءا من نظام التقطيعة للدائرة الانتخابية ، ومن السن القانوني للترشيح والتصويت ، ومن القوانين المنظمة للعملية الانتخابية ، الى نظام العمل داخل المؤسسة البرلمانية )..
وعلى الاجراءات الادارية السافرة ، بحيث يصبح في هذه الشروط ، من المستحيل على الطبقات الشعبية ايصال ممثليها الحقيقيين الى البرلمان ، وجعل منهم اغلبية برلمانية تمكنهم من تشكيل حكومة خاصة بهم.
بعبارة ان الديمقراطية الحالية هي ديمقراطية الوجود القانوني للحركة التقدمية ، وليست ديمقراطية الوصول القانوني الى الحكم من طرف تلك الحركة .
ان الخلط بين الوجود القانوني للاحزاب التقدمية ، والوصول القانوني الى الحكم من طرفها ، هو الذي سمح لدى البعض بظهور مفهوم « المسلسل الديمقراطي » الخاطئ .
ان هذا المفهوم يعتقد بامكانية التطور نحو الديمقراطية الحقيقية ، بواسطة التوسيع الكمي لمجالات الديمقراطية الحالية .. اذ حسب زعمه ان عملية الديمقراطية قد انطلقت ، والمطلوب هو الدفع بها الى شكلها الارقى . وهذا وهم ، لان الشكل الديمقراطي الحالي ، هو الشكل الارقى والنهائي المتكامل ، الممكن موضوعيا على قاعدة دولة كل طبقات المجتمع .
من هنا نصل الى جوهر القضية . ذلك ان التناقض بين الطرح الشعبي والطرح البورجوازي للمسالة الديمقراطية ، ليس فحسب تناقضا في التصورات السياسية ، بل وايضا واساسا تناقض في المواقع الطبقية .
فلنفرض جدلا ان البورجوازية التبعية ، قد قبلت بكل شروط الديمقراطية الحقيقية ماذا سيحدث حينئذ ؟ .
ستتمكن احزاب المعارضة الوطنية ، من تجاوز خلافاتها الحقيقية والغير حقيقية . وستتوحد حول برنامج وطني ديمقراطي مناقض لبرنامج البورجوازية التبعية . وستدخل حملة الانتخابات في جبهة موحدة تلغي كل نزعة تنافسية حزبية ، وستفوز بالاغلبية البرلمانية . وستشكل حكومة خاصة بها ، ثم اخيرا ستشرع في تطبيق برنامجها الوطني الديمقراطي بالكامل .
لكن تطبيق هذا البرنامج ، يعني القضاء على التبعية ، وبالتالي على البورجوازية التبعية نفسها .
من هنا يمكن ان نفهم لماذا البورجوازية التبعية ، تحارب بشراسة اية محاولة تريد الذهاب بالديمقراطية ابعد من شكلها الحالي .
واذن فان الموقع التبعي للبورجوازية المغربية ، هو العرقلة الحاسمة للتطور نحو الديمقراطية الحقيقية . ولذلك لايمكن الحديث بشكل جدي عن الديمقراطية ، بدون توفر شروط تجاوز تلك العرقلة .
لكن الحال ، وهذه نقطة حاسمة يجب الانتباه اليها ، هو ان المجتمع نفسه قد خلق موضوعيا شروطا تجاوز التبعية . ونحن اذا تاملنا المسالة بعمق ، فسوف نكتشف بان شعار الاختيار الديمقراطي الراديكالي ، الذي تبنته احزاب تقدمية ، لم ينبع بشكل مجرد من ادمغة مناضلين مجتهدين بالدرجة الاولى . بل هو ترجمة صادقة عكست مستوى تطور المجتمع المدني ، الذي اصبحت الديمقراطية بالنسبة اليه ، في هذه اللحظة التاريخية المحددة ، حاجة ضرورية موضوعيا .
بعبارة اخرى .. اننا لم نتوصل الى الوعي بضرورة الديمقراطية ، الا بعد ان تولى الواقع الموضوعي نفسه ايجاد شروط تحقيقها . فالبشرية ، كما قال ماركس بشكل مادي جدا ، لاتستطيع ان تطرح على نفسها سوى القضايا التي تقدر على حلها .
ان تجريد شعار الديمقراطية عن شروطه الاجتماعية التاريخية الملموسة ، قد ادى بالعديد من المناضلين والمثقفين ، الى السقوط في اخطاء مثالية . اذ بالنسبة لهؤلاء فان قضية الديمقراطية ليست قضية خاصة بالواقع المغربي الحالي ، ولدتها شروط تطوره الموضوعي الملموسة ، بل هي قضية عامة كانت تستجيب الى الواقع المغربي السابق ايضا . وفقط .. اننا « وعيناها الان ولم نعها سابقا » . وحينما نطرح السؤال : لماذا الوعي بها الان وليس امس ؟ . الجواب الله اعلم .
ان هذا الطرح ليس سوى اسقاطات مجردة مثالية لحاجة حقيقية خاصة بالوضع الحالي ، على الوضع السابق المختلف ، وفي الحقيقة ان شروط الديمقراطية كانت منعدمة في الشروط السابقة . فحتى لو فرضنا ان الاتجاه الراديكالي هو الذي انتصر على الاتجاه الاصلاحي ، فان ذلك لن يقود الى الديمقراطية كما نفهمها اليوم . وليس مرد هذا الى غياب الوعي بها ، وانما الى ضرورة الصراع الطبقي في شكله السابق . فكما ان البورجوازية الاصلاحية الصاعدة ، كانت بحاجة الى دولة مركزية استبدادية لقمع منافسيها الراديكاليين . كذلك فان البورجوازية الراديكالية الصاعدة ، ستكون بالضرورة بحاجة الى دولة مركزية استبدادية لقمع منافسيها الاصلاحيين ، في الوضع السابق لم يكن هناك خيار ثالث . ان لم تقمعهم قمعوك . مع ذلك يبقى هناك فرق جوهري بين القمع الاصلاحي والقمع الراديكالي . فالاول هو قمع لصالح الاقلية ، بينما الثاني لصالح الاغلبية.

عود على بدء . لماذا المجتمع المدني المغربي الحالي ، لم يكتف فحسب بجعل القضية الديمقراطية قضية راهنة من ناحية الوعي النظري بها ، بل وايضا لقد خلق في الوقت نفسه شروط تحقيقها السياسي ؟ .
هذا مانريد تحليله في الفقرة التالية : ديمقراطية دولة كل طبقات المجتمع .

7- ديمقراطية دولة كل طبقات المجتمع

لايمكن فهم واقع الراسمالية المغربية فهما علميا ، بدون التمييز بين لحظتين تاريخيتين مختلفتين نوعيا في سياق التطور ، لحظة بداية الصعود الراسمالي المغربي ، واللحظة الراهنة .
ان مايميز اللحظة الاولى هو التالي : كان النظام الراسمالي المغربي ، الخارج للتو من احشاء الراسمالية الكولونيالية ، مايزال وقتئذ ضعيفا ومحدودا ، لان النظام الماقبل راسمالي ، بنمطيه الاقطاعي والانتاج الصغير، كان لايزال يتمتع بقوة الانتشار .
اما مايميز اللحظة الراهنة فهو التالي : تعميم النظام الراسمالي ، وتهميش بقايا النظام الماقبل راسمالي المتمثل في الانتاج الفلاحي الصغير . في اللحظة السابقة كان النظام الراسمالي المغربي البدائي يعبر عن نفسه ويعكس واقعه التاريخي ، في الشكل التبعي للراسمال الامبريالي ، ولذلك كان النظام الراسمالي المغربي نظاما تبعيا .
اما في اللحظة الراهنة ماذا حدث ؟
لكي نتمثل ذلك بشكل ملموس ، يستحسن ان نستعين بالمثال التالي : لناخذ راس رجل كثيف الشعر ، ولنبدا في ازالة شعرة تلو الاخرى بشكل متواصل . وفي لحظة محددة من توالي العملية ، سنلاحظ فجاة ظهور صلعة محل الشعر . معنى هذا ان تحول الراس ، من حالة نوعية ( كثافة الشعر ) الى حالة نوعية اخرى نقيضة ( الصلعة) ، قد تم فقط ، بفعل عملية تدريجية كمية صرفة ، فالكم تحول الى كيف .
ان هذا هو بالضبط ماحدث بالنسبة للراسمالية المغربية . في اللحظة البدائية ، كان النظام الراسمالي المغربي نظاما تبعيا .
وهذا النظام التبعي ، انطلق في صيرورة من التطور التدريجي الكمي الصرف .ثم في لحظة معينة من التطور والانتشار والتعميم ، تحول فجاة الى نقيضه ، أي الى نظام راسمالي وطني ، نتيجة التعميم الحاصل داخل المجتمع المغربي .
لكن المفارقة ، وهذه نقطة حاسمة يجب الانتباه اليها ، هي انه رغم ان النظام الراسمال المغربي ، قد تحول من نظام تبعي الى نظام وطني الا انه لازال مع ذلك مستمرا في التعبير عن نفسه ، وعكس واقعه الجديد في الشكل التبعي القديم ، الذي ان كان فعلا ينسجم مع واقع الراسمالية المغربية في شكلها البدائي ، الاانه لم يعد كذلك بالنسبة الى شكلها المتطور الحالي .
من هنا هذا التناقض : انعدام التطابق ، بين نظام راسمالي مغربي اصبح طابعه طابعا وطنيا معمما ، وبين تعبيره الخارجي الذي احتفظ على شكله التبعي القديم .
ان هذا التناقض هو سبب الازمة الاقتصادية - الاجتماعية العميقة التي تنخر المجتمع المغربي ، وفي الوقت نفسه هو سبب الافق المسدود امام الانتقال بالديمقراطية المغربية الى شكلها الارقى .

واذن كيف يمكن حل هذا التناقض ؟

واذا نحن اردنا صياغة هذا السؤال صياغة طبقية ، فيمكن القول بان التناقض المذكور هو مابين : البورجوازية المغربية المرتبطة بالشكل الراسمالي التبعي . وبين الجماهير الشعبية التي لن تحقق مصالحها الملحة ، الا عن طريق القضاء على التبعية وتحرير الاقتصاد الوطني .
اننا اذن امام تناقض بين مصلحتين متعارضتين : مصلحة البورجوازية ومصلحة الطبقات الشعبية .
وفي الحقيقة اذا نحن بذلنا جهدا نظريا ، وحاولنا فهم ذلك التناقض بشكل ملموس انطلاقا من سياقه التاريخي الخاص نفسه ، وليس انطلاقا من بتره من ذلك السياق والنظر اليه بطريقة تاملية مجردة ، فاننا بالتاكيد سنتوصل الى طرح الاشكالية طرحا جدليا ، وستتوصل في نفس الوقت الى تحديد الحل الجدلي العلمي الملائم .
على هذا الاساس تصبح الاشكالية الحقيقية هي التالية :
كيف يمكن تحقيق مصلحة الطبقات الشعبية بدون ان يؤدي ذلك في نفس الوقت الى القضاء على مصلحة البورجوازية المغربية ؟ .. او بعبارة الجدل : كيف يمكن توحيد الضدين ؟
ان الحل النظري الوحيد الممكن عمليا لتلك الاشكالية هو التالي : القضاء التام على التبعية لتحرير الاقتصاد الوطني .. أي الانتقال بالراسمالية المغربية من شكلها التبعي الى شكلها التحرري الوطني .
ان الخلط بين الراسمالية المغربية وبين شكلها ، هو الذي قاد الكثير من الاقتصاديين والمناضلين ، الى السقوط في هذا الخطا النظري ، الذي يعتقد بان القضاء على التبعية يعني القضاء على الراسمالية السائدة في حد ذاتها ، وفي الحقيقة ان التبعية ليست سوى الشكل الذي تتقمصه الراسمالية المغربية في لحظة تاريخية معينة وبالتالي ليس هو شكلها الاوحد .فالراسمالية المغربية يمكن لها ان تتقمص شكل راسمالية الدولة التبعية ( كما حدث في اللحظة التاريخية التي اعقبت المرحلة الكولونيالية ). ويمكنها ان تتطور ، أي ان تتقمص شكل طبقة راسمالية قائمة الذات ( وهذا ما نشاهده اليوم من خلال تفكيك القطاع العام لصالح الراسمال الخاص ). ثم يمكن للراسمالية التبعية نفسها بشقيها معا ، الراسمال العام والخاص ، ان تتحول الى النقيض ، أي الى راسمالية وطنية متحررة من التبعية . وهذا بالضبط هو جوهر التناقض الذي يمزق حاليا المجتمع المغربي . اذ كما سبق الذكر ، ففي الوقت الذي اصبح فيه طابع النظام الراسمالي المغربي طابعا وطنيا تعميميا ، ظل مع ذلك يعبر عن نفسه ظاهريا في الشكل التبعي القديم ، و من هنا التناقض بين الشكل والجوهر ، ومن هنا ايضا الحاجة الى ضرورة احداث التطابق بين الاثنين عبر الانتقال بالراسمالية المغربية من شكلها التبعي القديم ، الى شكلها الوطني التحرري الجديد .
مااردنا التاكيد عليه مما سبق ، هو ان مسالة تحقيق مصالح الطبقات الشعبية بالكامل ( وليس بطريقة انتقائية )
لا يشترط تصفية الطبقة البورجوازية المغربية كطبقة في حد ذاتها ، بل تصفية شكلها التبعي ، أي تحوله الى نقيضه الوطني التحرري .
وفي الحقيقة ان جميع التناقضات الواقعية ، لا الوهمية ، يتم حلها جدليا بتلك الطريقة . أي ليس عن طريق التجاوز المطلق وانما عن طريق التجاوز النسبي الذي يتضمن عنصر المحافظة .
ولتوضيح تلك الفكرة البالغة الاهمية ، يتعين علينا الوقوف قليلا عند الامثلة التالية المقبلة .

مثال اول : في بداية ظهور الراسمالية الاوربية ، كان استغلال الراسمال لقوة العمل يتجسد في شكل فائض القيمة المطلق . وهذا يعني تمديد ساعات العمل ، الى اقصى حد يمكن ان يتحمله البشر . وفعلا وفي تلك الظروف ، كان يوم العمل ، سواء بالنسبة للرجال او النساء او الاطفال ، يتكون من 18 ساعة فما فوق .
ثم في لحظة تاريخية لاحقة ، اخذ حجم الطبقة العاملة ينمو، ووعيها يكبر ، ومقاومتها تشتد . الامر الذي مكنها من رفع مطلب : تخفيض يوم العمل الى 12 ساعة .
اننا اذن امام تناقض حاد ، من جهة ، ان مصلحة الراسمال تقتضي تمديد يوم العمل الى حد يفوق طاقة الاحتمال ، ومن جهة ثانية ، ان مصلحة العمال تقتضي تخفيضه الى حد مقبول .
كيف يمكن حل هذا التناقض الملموس بشكل ملموس ، لابشكل مجرد عن شروط سياقه التاريخية الواقعية ؟ .
الحل الجدلي الوحيد الممكن علميا هو التالي : الاستجابة التامة لمطلب العمال ( يوم عمل 12 ساعة ) ، وفي نفس الوقت الحفاظ الكامل على مصلحة الراسمال .
لكن هذا الحل مستحيل بدون تحويل فائض القيمة ، من شكل فائض القيمة المطلق الى نقيضه ، أي الى شكل فائض القيمة النسبي .
واذن فان فائض القيمة النسبي ، القائم على تطوير الانتاجية ( انتاج اكثر في وقت اقل ) ، قد ضمن الاطار لتوحيد مصلحتي الراسمال والعمل المتناقضين .
مثال ثان : عندما ظهر لاول مرة في التاريخ البشري ، التبادل التجاري ، كان ذلك يتم على النحو التالي : تبادل بضاعة باخرى ، ومعنى هذا ، ان هناك بضاعتين تلعبان دورين متعارضين : هناك البضاعة التي يراد بيعها ، وهناك في الطرف المقابل البضاعة الثانية التي تمثل قيمة الاولى .
في لحظة لاحقة من تطور التبادل البضائعي وتوسع دائرته ، لم تعد بضاعة واحدة تمثل قيمة البضاعة التي يراد بيعها ، بل اصبح ذلك الدور تقوم به بضائع شتى ، أي ان البضاعة الخاضعة للبيع يمكن ان تعبر عن قيمتها التبادلية ، في اشكال متعددة ومتنوعة من البضائع .
لكن التعبير عن قيمة بضاعة ما ، في اشكال متعددة من البضائع ، يحمل في طياته تناقضا حادا : فاذا كان فعلا لتلك البضاعة القدرة المبدئية على التعبير عن قيمتها التبادلية ، في عدد كبير من البضائع ، الاانه من الناحية العملية في لحظة التبادل المباشر ، لايتم التعبير عن القيمة الا في بضاعة واحدة ، حيث يتم بالتالي اقصاء كل البضائع الاخرى .
ان التناقض اذن هو التالي : من جهة ، ان البضاعة تعبر عن قيمتها التبادلية في عدد كثير من البضائع . ومن جهة ثانية فانها لاتعبر عنها الا في بضاعة واحدة .
كيف يمكن حل هذا التناقض الملموس ، بشكل ملموس ؟
الحل الوحيد الممكن جدليا ، هو الذي يستطيع توحيد الضدين . لكن ذلك مستحيلا بدون تحويل القيمة ، من شكل بضاعة عينية ملموسة ، الى شكلها النقيض المجرد . وهذا الشكل المجرد ، ليس شيئا اخر غير العملة النقدية .
في العملة النقدية يتحقق فعلا ، الجمع بين البضاعة الواحدة والعدد الكثير من البضائع .
وما قلناه في المثالين السابقين ، يمكن قوله في العديد من الامثلة الاخرى .لان الوجود كله مليء بالتناقضات الجدلية .
فلنعد اذن الى بورجوازيتنا المغربية .
ان التناقض الذي ينخر المجتمع المغربي هو ، كما سبق الذكر ، التالي : في اللحظة البدائية من صعود البورجوازية المغربية ، كان الشكل الراسمالي الذي عبرت من خلاله عن مصالحها الطبقية ، هو الشكل التبعي .
ثم في لحظة لاحقة من التطور التاريخي ، بعد تعميم النظام الراسمالي ، وتحويل المجتمع الماقبل المدني الى مجتمع مدني حديث ، ودمج كل الطبقات الاجتماعية فيه .. في هذه اللحظة بالذات ، بلغ الاستغلال الراسمالي اوجه ، مما انعكس في العديد من الامراض الاجتماعية ، ابرزها ظاهرة البطالة التي ضربت كالزلزال جيوشا كاملة من المواطنين .
واذن يمكن اعادة صياغة التناقض المذكور ، بشكل مكثف ، على النحو التالي : من جهة ، لايمكن للبورجوازية المغربية الحفاظ على مصالحها الا على اساس الاستغلال الراسمالي . ومن جهة ثانية ، لايمكن للطبقات الشعبية تحقيق مصالحها الا على اساس القضاء على الاستغلال الراسمالي .
هذا تناقض واقعي ملموس ، ولذلك لايمكن حله الا بشكل واقعي ملموس ايضا .
والحل الوحيد الممكن عمليا هو التالي : التحقيق الكامل لمصالح الطبقات الشعبية ، وفي نفس الوقت الحفاظ التام على مصالح البورجوازية المغربية .
وهذا يفتضي تحويل الاستغلال الراسمالي ، من شكله التبعي الى شكله النقيض ، أي الى استغلال راسمالي وطني مؤسس على تحرير الاقتصاد الوطني من الراسمال الامبريالي .
الخلاصة : ان مرحلة الراسمالية الوطنية ، الخارجة من احشاء مرحلة الراسمالية التبعية ، والتي ستلعب في البورجوازية المغربية الحالية دورا رئيسيا ، هي مرحلة ضرورية تاريخيا من اجل التاهب للقفز نحو النظام الاشتراكي الارقى .
اما القول باستحالتها كمرحلة مستقلة ، قائمة الذات ، منفصلة عن المرحلة التبعية السابقة عنها ، وعن المرحلة الاشتراكية اللاحقة لها .. فتلك خرافة لاعلاقة لها لابحركة التاريخ ولا بحركة الصراع الطبقي ، ولا بعلم الجدل .
نصل الان الى مناقشة المسالة من جوانب اخرى .

قلنا بان النظام الراسمالي المغربي ، الذي كان في مرحلة صعود البورجوازية نظاما تبعيا ، قد اصبح في المرحلة الحالية ، بحكم تعميمه على المجتمع المدني ، نظاما وطنيا وقلنا ان هذا الوضع المستجد قد خلق تناقضا بين الجوهر الوطني الجديد ، وبين استمرار الشكل التبعي القديم ، وقلنا ايضا بان حل التناقض المذكور ، يتطلب احداث التطابق المنشود بين الجوهر والشكل ، عبر الانتقال من الراسمالية التبعية الى الراسمالية الوطنية ، ثم قلنا اخيرا بان الراسمالية الوطنية المتحررة بين الراسمال الامبريالي ستضمن مصالح البورجوازية المغربية ولن تلغيها .
اذا كان كل هذا صحيحا ، فلماذا تفضل البورجوازية المغربية الهروب الى الامام ، عن طريق المزيد من تعميق اندماجها بالراسمال الامبريالي ، رغم ان هذا الطريق اصبج يضر بمصالحها الطبقية نفسها ؟

هناك سببان رئيسيان .
الاول : فكما ان الرجل الذي يحب امراة حبا قويا ، لايستطيع التمييز بين الحب والمراة المحبوبة ، وحيث تصبح المراة هي الحب ذاته ، وليست تجسيدا له في شخصها ، وبالتالي فان غيابها يعني بالنسبة اليه ، فناء الحب ونهاية العالم .
كذلك فان البورجوازية المغربية المتعلقة بحب التبعية الى حد الجنون ، لاتستطيع من تلقاء نفسها ان تتصور ، بان الراسمالية يمكن ان تتجسد في شكل اخر غير شكل التبعية ، من هنا فان غياب التبعية يعني بالنسبة اليها ، فناء الراسمالية في حد ذاتها ، ونهاية العالم .

الثاني : ضعف احزاب المعارضة التقدمية ، الناجم اساسا عن تشتتها . فالبرجوازية المغربية لايمكنها تغيير مواقفها عن طريق الاقناع السياسي ، بل فقط عن طريق الضغط الكثيف المستند الى صراع طبقي طويل ومرير ، قادر على تعبئة كتلة شعبية ضخمة في معمعانه .
تبقى مسالة حاسمة : بم نبدأ ؟ هل بحل المسالة السياسية ( تحقيق الديمقراطية الحقيقية ) ، ام بحل المسالة الاقتصادية – الاجتماعية ؟ .
رغم ان حل الثانية هو شرط ضروري نحو الحل النهائي للاولى ، الا انه مع ذلك لايمكن حل المسالة الاقتصادية نفسها الا بواسطة حل المسالة السياسية ، فالبداية تنطلق من السياسي لا من الاقتصادي .
لماذا ؟ .. لان البورجوازية لكي تحافظ على التبعية ، تلجا الى السلاح السياسي : منع الاحزاب التقدمية ، بوسائل شرعية وغير شرعية ، من الفوز في الانتخابات ، والحصول على الاغلبية البرلمانية ، وتشكيل حكومة خاصة ، وتطبيق البرنامج الوطني التحرري .
من هنا فان منطق الصراع يحتم على القوى التقدمية ، استعمال نفس السلاح السياسي ، لكن في الاتجاه النقيض أي فرض احترام القانون وتطوره ، والقبول بالانتخابات النزيهة ، من اجل تشكيل حكومة التحرر الوطني .
هذا هو السبب الذي يجعل الصراع يحتدم حول قضية الديمقراطية ، وفي ميدان المعركة من اجل الديمقراطية ، سيتحدد مستقبل المغرب في العقود المقبلة .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرئيس الأمريكي يهدد بإيقاف إمداد إسرائيل بالأسلحة إذا اجتاح


.. طائرة شحن من طراز بوينغ تهبط بدون عجلات أمامية في اسطنبول




.. سيفا الأمير عبد القادر المسروقان يعرقلان المصالحة بين الجزائ


.. صحيفة إسرائيلية: تل أبيب تشعر بالإحباط الشديد إزاء وقف واشطن




.. مظاهرة مرتقبة رفضا لمشاركة إسرائيل في مهرجان غنائي بمدينة ما