الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عذرية البنادق

خالد صبيح

2008 / 11 / 17
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


أجزم إن تجربة الأنصار الشيوعيين 1979-1988 في العراق لايمكن الاحاطة بها بطريقة وافية ومقنعة إلا بأعمال أدبية وعلى وجه الخصوص أعمال روائية. لان الرواية هي بنية خطابية جامعة يمكنها أن تحتوي في داخلها على كل المستويات السردية والأشكال النصية. فهي تستوعب لغة الخطاب السياسي والتوثيقي والتاريخي والتراثي، بالإضافة إلى الموروثات الشعبية وما تنطوي عليه من حكمة وسخرية، وهي ضرورات متلازمة مع أساليب الإبداع الروائي، من غير أن نهمل بطبيعة الحال الاستغوار النفسي الذي يشكل واحدا من أهم أعمدة العمل الروائي، وكذلك جمالية الأسلوب وشاعرية اللغة.
غير أن الرواية مع كل ما تحمله من عمق وجمال قد تقع، إذا رصدت الواقع والتاريخ، في مأزق أو إشكالية غياب أو ضعف النظرة الموضوعية والأمانة التاريخية لرصد الحدث أو الواقعة، وذلك لأنها تصدر بشكل جوهري من رؤية ذاتية صرفة للتجربة واستعادة الإحساس بها سواء كان كاتبها هو صاحب التجربة أو مستلهم لها. لكن ذلك لن يغفل في النهاية القيمة الواقعية ولا الجمالية للواقعة التي ترصدها الرواية.
وتجربة ثرة بتفاصيلها كتجربة الأنصار الشيوعيين هي مادة لعالم روائي واسع وغني. لكن ما الذي يميز هذه التجربة عن بقية التجارب الاجتماعية والسياسية لتنفرد بميزة اكتمال الحضور عبر الأعمال الأدبية.

ينبغي الاعتراف قبل أن نغادر هذه التلميحة إن أي تجربة إنسانية مهما تكن صغيرة يمكن أن ترصد فنيا عبر عمل أدبي. وان ما يجعل العمل الفني ذو قيمة ليس طبيعة الواقعة فقط وإنما بشكل أساس مبدع النص ومستوى مهارته ورهافته في تدوين التجربة والتقاط أو صنع المميز بها.

وتجربة الأنصار الشيوعيين في العراق هي تجربة رغم محليتها ومحدودية تأثيرها في الحيز العام إلا إنها انفردت ببعض المزايا التي جعلتها تختلف في البنية والمسار عن بقية التجارب المشابهة المحيطة بها وأيضا عن مجمل مسار حياة الحزب الشيوعي العراقي السياسية وهنا تكمن قيمتها التاريخية والثقافية.

فهي كتجربة انفردت بطابعها العراقي الوطني وسط حركة سياسية قومية محدودة الأهداف والتوجهات. وان عنصرها البشري شكل تعددا اثنيا وقوميا ودينيا ومذهبيا وجنسيا( بمشاركة النصيرات) جمع كل أطياف الشعب العراقي بدون استثناء على الإطلاق. وقد غلب على هذا التنوع الخلفية المدينية لغالبية المشاركين بالحركة بجميع خلفياتهم.

والخلفية المدينية هذه قدمت ملمحا جديدا واضحا على سمات النصير المقاتل هو النزوع العلمي في جميع أشكال الممارسة الحياتية، عسكرية وإدارية وتعبوية.. الخ. وهو نزوع فطري لم يأت فقط من الخلفية الفكرية للشيوعيين، الذين شغفوا بالتفكير العلمي، وإنما من الأرضية التعليمية التي كان يحملها غالبية الأنصار الذين كانوا من المتعلمين والكوادر الفنية والثقافية المميزة. وهذه السمات تميز بها الأنصار الشيوعيون وسط الحركة المسلحة في كردستان إن لم اقل انفردوا بها.


قبل الخوض في بعض من شجون الحركة وماحايث مسيرتها ينبغي التوقف عند مسالة مهمة تتعلق بأحقية وشرعية من يدونها. أقول مباشرة إن تدوين تاريخ واقعة أو تجربة لن يكون مشروطا بغير الموضوعية والصدق. ولا يشترط على الإطلاق أن يكون المتناول للتجربة من خلفية معينة أو ينطلق من أرضية محددة مسبقا وفق معايير ضيقة هي حزبية على الغالب. أقول هذا لان هناك من الشيوعيين والأنصار من يستكثر على نصير عاش التجربة لكنه اختار مسارات حياتية وفكرية أخرى غير التي اختاروها هم أن يكتب عن نظرته هو ومعايشته أو تقييمه للوقائع. والمؤسف أن المعايير التي ينطلق منها هؤلاء هي معايير كمية بسيطة يعرفون هم قبل غيرهم أن ظروف العمل الأنصاري كانت تفرضها، كأعمال الإدارة والإعلام وحماية مقرات القيادة وغيرها من النشاطات المشابهة، فليس كل الأنصار هم مقاتلون في مفارز وهذا لن يعفيهم وكذلك لن يحرمهم من حق الحديث وإبداء الرأي. ولا ينبغي أبدا أن يعّيروا بـ (جرم) مفتعل هي عذرية بنادق لم يكونوا الوحيدين المرتكبين
لها.
وبما انه لا احد يمتلك الحقيقة فليس هناك أي داع للخوف ( أو الرهاب) من الذين يكتبون تاريخ التجربة وهم خارج المدار السياسي الرسمي. فالحقيقة ستجد دائما من ينصرها والاجتهاد في مسالة واسعة وغنية كتجربة الأنصار الشيوعيين سيخدمها أكثر تعدد الرؤى والتنوع في روايتها وتقييمها.


***


في تجربة الأنصار الشيوعيين في كردستان العراق كانت هناك علامتان فارقتان ميزتا الحركة واختلف شكل التعامل معهما من منطلقات مختلفة، شخصية وعقلية واجتماعية. اولهما هي وجود أنصار من قوميات مختلفة، وبالتحديد العرب، الذين قدموا من مدن العراق العربية المختلفة. وقد تأرجح الموقف من هؤلاء وبالتالي السلوك ازائهم من موقف لأخر ومن خلفية لأخرى. لكن على العموم غلب الإعجاب بهذه الظاهرة الجديدة والجذابة على نظرة المواطنين وبعض عناصر القوى السياسية الكردية الذين رأوا ولأول مرة في حياتهم العربي يقاتل( حسب فهمهم) إلى جانبهم وليس ضدهم. وقد يكون هذا قد أسهم، أو هكذا يفترض، في تغيير مفهوم الصراع من قومي، كما تسعى لتكريسه الأحزاب القومية الكردية، إلى اجتماعي وسياسي كما هو في حقيقته. وقد كان أبناء القرى الكردية البسطاء لاسيما في مراحل الحركة الأولى منبهرين بهؤلاء السمر( ره شه كان) القادمين من الجنوب والذين يتكلمون الكردية بركاكة وبلكنة عربية واضحة. وقد حظي الكثير من الأنصار العرب بمحبة واحترام أهل القرى ليس فقط لما قدموه من خدمات صحية وغيرها، فبعضهم كانوا أطباء، وإنما لدماثة خلقهم وإظهارهم الاحترام والتقدير لأهالي القرى.( الكثير من أبناء قرى منطقة بهدينان سموا ابناءهم على اسم الشهيد د- عادل( غسان عاكف حمودي) لما كان يقدمه بتفاني وتواضع من خدمات طبية وصحية لهم).
ومنهم أيضا من برز في المجال العسكري واستطاع أن ينسجم مع خشونة الحياة أكثر من غيره ويظهر بالمظهر الذي يفضله ويحبه الفلاحون( المقاتل الخشن والشجاع والماهر) كما هو الحال مع الشهيد (عمار) في قاطع السليمانية، وهو رامي مدفع ماهر( حيث يروى أن رئيس مفرزة الفرسان( الجحوش أو الجاش) التي قتلته في المعركة، واسمه صالح انه بعدما تعرف على شخصيته قد قام بدفنه بنفسه ونقل عنه انه قال( هذا رجل شجاع ويجب أن يكرّم).
طبعا وقعت بعض الإساءات في التعامل من خلال التعبير عن موقف كاره للعرب ولوجودهم من قبل مقاتلي بعض الأحزاب الكردية ومن بعض الشيوعيين لتعصبهم القومي ولانعدام أو لضحالة الوعي لديهم.


والعلامة الثانية المميزة للحركة هي وجود العنصر النسوي فيها. فقد انخرط في الحركة عدد جيد من النصيرات الشيوعيات وبمحض إرادتهن. وهؤلاء النصيرات كن خليط من بنات المدن العراقية المختلفة وان غلب عليهن العنصر العربي. وكان من بينهن الفنانات والمسرحيات، وهن بعمومهن كن من المتعلمات وكان اغلبهن قد التحق بالأنصار مع أزواجهن وبعض منهن تزوجن هناك من أنصار كانوا معهن في الحركة وشكلوا أسرا وأنجبوا أطفالا( صاروا الآن شباب وشابات ناضجين).


أظن أن السبب الرئيسي وراء وجود النصيرات هو أن من أهم أسباب تشكيل الحزب لقواعد الأنصار هو جعلها موقع وسيط بين الخارج، الذي اضطر معظم التنظيم الحزبي الالتجاء إليه بعد فشل التحالف مع البعثيين، وبين الداخل. فقد شكلت كردستان ملاذا للكثير من أعضاء التنظيم الذين لم يكونوا قادرين على البقاء في الداخل، وكان بينهم عدد كبير من الشيوعيات. أما لماذا ابقي بعض منهن في الجبال ولماذ لم يتم إخراجهن للدراسة في الخارج فهذا أمر غير واضح تماما ألان. لكن بعض المؤشرات قد تجيب على هذا التساؤل. فقد كانت هناك وجهات نظر بين القاعدة الحزبية وبعض القياديين تدعوا لتعزيز الكفاح المسلح وتحويله إلى الأسلوب الرئيسي في العمل السياسي، وبين حاملي وجهة النظر هذه نصيرات آثرن البقاء والعمل على الخروج والدراسة. كما أن هناك بعض التوجهات لدى الحزب لاسيما بعد عام 1982 تدعوا للتوجه إلى الداخل، وكانت النصيرات من بين من يخطط لإعادتهم للعمل الحزبي في الداخل بطبيعة الحال. وفعلا قد تم إعادة بعض النصيرات وقد استشهد من بينهن نصيرتين هن( أم ذكرى وأم لينا). وهناك أيضا بعض الالتباسات في طريقة التعامل الحزبي والاجتماعي مع النصيرات ليس هنا مكان عرضه، لكنه كان ينخرط ضمن إشكالات العمل التنظيمي والإداري اليومي.


كان وجود النصيرات موضع تشكيك وحسد أو غبطة من قبل الأحزاب القومية الكردية العراقية التي لم يكن العنصر النسوي حاضرا في نشاطها العسكري على العكس مما هي عليه أوضاع الأحزاب الكردية في تركيا حيث يلحظ حضور كثيف للمرأة في ميدان العمل الأنصاري والسياسي هناك. ولا داعي للحديث عن رؤية الأحزاب الإسلامية وتعليقات إفرادهم البذيئة في إيران على هذه الظاهرة النبيلة لأنها سقط متاع . في نفس الوقت كان وجود النصيرات مصدرا لبعض الإشكالات الاجتماعية. فالشيوعيون في النهاية بشرا وليسوا ملائكة أو مخلوقات خاصة، وتنوع خلفياتهم الاجتماعية والثقافية ترك ظلاله على شكل تقييمهم وتعاملهم مع حالة وجود النصيرات وفي التعامل الشخصي معهن. لكن في العموم ومن غير خوض في التفاصيل كانت النظرة والسلوك بعمومه يتسم بسمو أخلاقي عالي واحترام وفهم كبيرين وتعامل مهذب وملتزم من قبل الأنصار. ويكفي انه طوال هذه السنوات لم تسجل أي حادثة شاذة في الحركة مرتبطة بالنصيرات.
لكن يبدو إن ترسبات تقليدية تستحضر الجنس تلقائيا كإثم وعلاقة شاذة ما أن يختلط الجنسين مازالت تفعل فعلها في بعض النفوس مع إن هذا أمر أثبتت وقائع الحياة زيفه.


ينبغي التأكيد قبل الختام على إن واحدا من اهم أسباب عدم تقديم هذه التجربة بما يليق بها وبما تستحقه من اهتمام هو غياب نشاط إعلامي فعال، وبطريقة مربكة ومريبة، من قبل الحزب الشيوعي العراقي مع إننا في زمن الإعلام. وفي الوقت الذي تتبجح فيه القوى القومية الكردية بنضالاتها ونشاطاتها( أنتج تلفزيون السليمانية مسلسلا تلفزيونيا ركيكا عن بطولات (ملا بختيار) الوهمية) نلاحظ صمتا مطبقا وتعاملا خجولا من قبل الحزب وإعلامه مع تجربة الحركة المسلحة وتاريخها وكأن هناك ما يخجل في هذه السيرة. ولا أريد الخوض الآن في تحليل واستنتاج الأسباب وراء هذا الصمت والتجاهل لان بعض منه يعود إلى خمول النشاط السياسي العام وبالذات الإعلامي للحزب الشيوعي العراقي واترك هذا الأمر لمناسبة أخرى.

وفي نفس السياق أقول إن ما تقوم به رابطة الأنصار الشيوعيين من تدارك لهذا القصور في إعلامها لا يمكنه أن يسد النقص الحاد. ولكن في النهاية إذا كان هناك من يلام على إغفال هذا التاريخ فهم الأنصار أنفسهم الذين يتقاعسون عن تدوين ذكرياتهم ورؤيتهم للتجربة وأيضا رأيهم فيها فيتركون بهذا فراغا يملأه بعض المؤولين بسوء أو حسن نية. لكن الأمل لن ينتهي في أن تنال هذه التجربة ما تستحقه من اهتمام وسيعرف الرأي العام العراقي، طال الزمن أم قصر، ما لهذه التجربة وما عليها.

2008-11-16








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. للمرة الأولى منذ عقدين.. عاصفة شمسية تضرب الأرض |#غرفة_الأخ


.. كأس الاتحاد الإفريقي.. نهضة بركان يستضيف الزمالك في ذهاب الن




.. جيش الاحتلال يقرر العودة للعمل في جباليا بعد مخاوفه من احتما


.. تحذيرات أممية من وقوع كارثة غذائية إنسانية جنوب غزة: مخزون ا




.. منتهى الرمحي تفتح ملفات عربية ودولية في برنامج البعد الآخر