الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفنـّان والسـفـود

صبحي حديدي

2004 / 3 / 2
الادب والفن


تنطلق منذ أيام عروض "آلام المسيح"، شريط النجم الأسترالي ـ الأمريكي ميل غيبسون الذي يتناول آخر 12 ساعة في حياة السيد المسيح، وكبرى التفاصيل التي قادته إلى الصليب (خيانة يهوذا الإسخريوطي، العشاء الأخير، حكم الموت الذي أصدره بيلاطوس البنطي، مسيرة الجلجلة في شوارع القدس، وصولاً إلى الصليب)...
ومن حيث المبدأ، وحتى قبل مشاهدة الفيلم، يمكن للمرء أن يرصد عدداً من الاعتبارات غير الفنّية التي أحاطت بالمشروع منذ البدء.
مدهش، باديء ذي بدء، هذا الحماس الفائق الذي قاد غيبسون إلى تمويل الفيلم من جيبه (قرابة 25 مليون دولار!)، بصرف النظر عن احتمالات أن ينضمّ الفيلم إلى قائمة الأعمال التقليدية التي تتناول حياة وآلام السيد المسيح، فتلمع مرّة واحدة، ثم تختفي في العُلب لكي تظهر في أمسيات عيد الميلاد فقط. هذه مجازفة أولى، وأساسية لا ريب.
مجازفة أخرى هي قرار غيبسون إخراج الفيلم بنفسه، ثمّ استقراره تالياً على استبعاد النجوم من أداء الأدوار الرئيسية. وفي شريط مشحون بالتاريخ، حول شخصية كونية كبرى مثقلة بالمعنى والرمز والدلالة والسجال والإشكال، هذا أمر غير مأمون العواقب قطعاً. فإذا تابعنا التفصيل ذاته، وتذكّرنا أنّ الفيلم يستخدم اللغات الآرامية والعبرية واللاتينية، التي كانت سائدة في فلسطين تلك الأيّام، فإنّ ظهور شريط الترجمة إلى الإنكليزية في فيلم أمريكي لا يخلو من مجازفة هنا أيضاً.
ويبقى، بالطبع، الاعتبار الثالث والأخطر: تهمة العداء للسامية، التي رُفعت في وجه ميل غيبسون منذ أن اتخذ الخطوة الأولى على درب إنتاج الشريط. وهذه ليست لعبة عابرة، أو هي على وجه الدقّة لعب فعلي بالنار، خصوصاً حين يكون المرء في الولايات المتحدة، وفي قلب هوليوود... دون سواها! خذوا هذه الفقرات من حوار أجراه موقع insideedition.com مع غيبسون حول هذا التفصيل:
ـ أنت متّهم بمعاداة السامية!
ـ لقد أصبح تكرار هذه الجملة مملاً حقاً! فما أن يقول المرء شيئاً، أي شيء، لا يعجب اليهود حتى يسارعوا إلى إلصاق التهمة به. أمر مثير للاشمئزاز حقاً.
ـ ألا تخشى أن يقضي هذا المشروع على مستقبلك في هوليوود، وربما كلّ سينما؟ أنت تعرف مَن يسيطر على هوليوود!
ـ لا يهمني ذلك، وليفعلوا إنْ استطاعوا!
ـ ولكن، هل أنت حقاً معاد للسامية؟
ـ كلا، بالتأكيد، وإلا فكيف تمكنت من التمثيل في هوليوود!
واضحة نبرة التحدّي في كلام غيبسون، وليس خافياً أبداً حسّ الإحتجاج من جانب آخر.
ولسوف ننتظر، دون أن نتوقع الكثير من المفاجآت في الواقع، المزيد من جلسات محاكم التفتيش ضدّ الشريط وصاحبه، ثمّ ضدّ التاريخ بما هو عليه وبأسره إيضاً إن اقتضي الأمر. هذا ليس سوى فصل جديد في حكاية العداء للسامية، العتيقة المتجددة، إبنة التراث الأوروبي، التي لم تبدأ من العدم والفراغ ولهذا فإنها لن تنتهي بفعل التحريم والفزاعات الفكرية والقوانين التي تقود إلى السجون. وليس لهذا التراث العريق أن ينتهي في أي وقت قريب ما دام الذين يحاربون لاستئصاله من العقول والضمائر والسجلات لا يقومون بشيء آخر سوى مصادرة العقول والضمائر والسجلات. إنهم يخشون فيه روح الكابوس، ولكنهم يحّولونه إلى كابوس من نوع جديد ومتجدد، ويهيئون له تربة صالحة تجعله يتطامن مثل نبات سرّي سريع النموّ!
وإذ ننتظر فصول وضع ميل غيبسون علي سفود العداء للسامية، فإننا نتذكّر جراح "الأب بيير"، الإنسيّ الفرنسي الكبير الذي وُضع بدوره على سفود مشابهة ذات يوم غير بعيد. وهذا الرجل نصف قدّيس، وأكثر من كائن بشري عادي، عند الغالبية الساحقة من الفرنسيين. إنه بطل الفقراء والمعوزين والجائعين، ولسان حال الصامتين، وبيت المشرّدين حيثما عزّ الملاذ والسقف في بلد متقدّم هو الرابع في الصناعة والتجارة والحضارة والبأس. هذا الرجل، الأكثر شعبية من كل رجالات الأدب والفكر والسياسة والفنون، تحوّل بين ليلة وضحاها إلى مادة وحيدة في حملة بشعة شعواء أدارتها كبريات الصحف اليومية الفرنسية، يمينية ويسارية، دينية وعلمانية، محافظة وليبرالية. ولقد تبارى فرسان الكلام في توبيخه وتعنيفه والتعريض بمَلَكاته العقلية لأنه أعرب ــ دونما تأتأة وكما يليق برجل استثنائي مثله ــ عن مساندته حقّ روجيه غارودي في التعبير عن رأيه. ولقد طوى الشيخ جراحه وغادر فرنسا إلي أحد أديرة إيطاليا، مهاجراً من البلد الذي شبّ وشاب في علاج جراحه والتخفيف من عذابات أبنائه، ومديراً ظهره وقلبه وعقله لعاصمة النور السابحة في ظلمات حملات التفتيش المعاصرة.
هوليوود أقسى من باريس بالطبع، أكثر ضراوة وشراسة وعصبوية. تحية، إذاً، للفنّان الشجاع ميل غيبسون... الذي، مع ذلك، لا يُحسد على ما واجه وسوف يواجه من سفود!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل