الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المالكية على خطى الديغولية : الصراع الاكبر قبل تفكك العراق

مصطفى الكاتب

2008 / 11 / 24
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


بعد تحرير فرنسا من الاحتلال النازي وبروز ديغول كقائد وطني يمتلك مايكفي من الاحترام الشعبي والتخويل لاتخاذ قرارات كبرى ، كان بامكان الرجل ان يسلك احد طريقين يتمتعان بالاغراء والجاذبية ، طريق التسلط عبر انتاج رؤية ديغولية تشبه تلك التي انتجها هتلر في تفسيره للواقع الالماني بعد الحرب العالمية الاولى والتي من خلالها خاطب غرائز الغالبية من الشعب المرهق باحساس الهزيمة وبالسلبية تجاه السياسيين الانتهازيين منذ نشوء جمهورية فيلمار ، والطريق الثاني هو طريق الترجل والعودة بفرنسا الى عصر الجمهورية الرابعة بلدا تتقاسمه الاحزاب المتصارعة والايديولوجيات المتضادة ليحتفظ ديغول لنفسه بمجد الحرب العسكري متخليا عن تكلفة السياسة في بلد خرج لتوه من الاحتلال ، غير ان ديغول اختار طريقا ثالثا ينطوي على مخاطرة كبرى بالنسبة لرصيده كقائد منتصر ، اختار ان يواجه مباشرة معضلة النظام الفرنسي عبر طرح نفسه كقائد موحد وليس ديكتاتورا ، عبر اصلاح الديمقراطية لا الانقلاب عليها ، عبر دفع النظام السياسي ليكون اكثر "وطنية" واقل "تحزبا" ، وعبر ذلك نشأت الجمهورية الفرنسية الخامسة التي غدت ميراثا ديغوليا تعتز به الامة الفرنسية ...
واليوم ، يبدو ان اللحظة التاريخية في العراق المرهق المفكك القريب من الانهيار اكثر من اي زمن مضى ، المثقل بجراح حروب فضيعة وديكتاتورية طويلة من النمط الهتلري ثم احتلال عسكري اجنبي ، يبدو ان هذه اللحظة على ثقلها ودراماتيكيتها قد جلبت معها فرصة قد تكون الاخيرة لابقاء هذا البلد حيا وانتشاله من السقوط بعد انسحاب القوات الاجنبية ومن صراعات الاحزاب وصدام الايديولوجيات ، انها فرصة وجود زعيم عراقي يمتلك رؤية قريبة لتلك التي امتلكها ديغول ، رؤية مستعدة للمجازفة من اجل انتشال البلد من ازمته ، واصلاح النظام السياسي لا عبر الانقلاب على ديمقراطيته بل عبر تطويرها لتغدو اكثر استجابة لحاجة البلد للبقاء ، وهي ليست حاجة رومانسية منشدة للقراءات العاطفية الكلاسيكية حول الوطن والوحدة الوطنية ، بل هي حاجة اصيلة في نفوس غالبية العراقيين الذين يقاومون كل التيارات الجارفة لتفكيك هويتهم عبر الرغبة باعادة انتاج هذه الهوية : رغبة لايحققها الا زعيم وطني يحظى بثقة الغالبية ويمتلك الشجاعة وبعد النظر والاستعداد للقيادة حتى لو كان ثمنها الكرسي الذي يجلس عليه . مايحتاجه العراق اكثر من رئيس الوزراء هو قائد سياسي يمثل رؤية واقعية لمشروع الدولة ويتعكز على مدرسة قولبتها التجربة لطبيعة البناء الدستوري ، والعلاقة بين اجزاء البلاد ، وبين مؤسسات الحكم .
المالكي هو الوحيد القادر على لعب هذ الدور وقد بدأ يلعبه حقا ، فالرجل اثبت بما يكفي انه مستعد للاقتحام في واقع لاتحل معضلاته عبر الصفقات الظرفية للسياسيين الانتهازيين ، وهو مستعد للمجازفة بكرسيه في مواجهة سياسيين جل سلوكهم يتمحور حول الحفاظ على امتيازات السلطة ومنافع المسؤولية ، وهو يمتلك من التجربة التي انضجتها تحديات السنوات الثلاث السابقة مايجعله قادرا على طرح رؤية واقعية لاصلاح النظام السياسي وتعزيز فاعلية الدولة وقدرتها على قيادة المجتمع والحفاظ على وحدته بلا افتئات على حقوق اجزائه وخصوصية مكوناته ، المالكي برز رئيسا لوزراء بلد ضعيف مريض ايل للانهيار تتنازعه الايديولوجيات والاطراف الاقليمية والميليشيات والجماعات الارهابية ، لكنه مع ذلك يبدو قائدا قويا يخشاه الجوار بقدر خشيته من عراق قابل للتعافي . لقد ادرك الرجل ان الطريق لحماية العراق لايمر عبر التصافق مع جواره المتربص ، بل عبر اعادة بناء الدولة وتقويتها ومنحها هوية واضحة المعالم بدل ان تظل اطارا فضفاضا يجمع مجموعة من الشركاء-الفرقاء الذين يعاملون الوطن كغنيمة قابلة للتقاسم فيما بينهم .
ايا كانت مواقف البعض السابقة تجاه المالكي ، ايا كانت خلافاتنا السياسية والايديولوجية معه ، هذا الرجل هو ابن اللحظة العراقية الراهنة وفرصة العراق الاخيرة قبل الانهيار. المالكي ابن اللحظة ليس بخياره فقط بل لأن الزمن العراقي المقبل على تحد هائل يتمثل بتراجع الانغماس الامريكي تمهيدا لانسحاب يلوح في الافق ، هذا الزمن لم يعد يحتمل مزيدا من المناكفة والتنظير المتكلف وتغليب النزعات الذاتية والنرجسية المفرطة ، انه الزمن المقبل على اخطر القرارات في تاريخ هذا البلد التي قد تنتج عهدا جديدا تنسجه الرؤية المالكية كما فعلت الديغولية في فرنسا ، او قد تنهي ماتبقى من امل في استمرار وحدة العراق وتجعله فريسة لنفوذ العوائل والاحزاب والميليشيات .
سواء احببنا المالكي ام لم نحبه ، اعجبنا برجاله ام لا ، فانه اختار الان ان يتماهى مع اللحظة العراقية مدركا انها الفرصة الاخيرة لحماية العراق من الانتهازيين والنفعيين والمتعصبين لغير الهوية الوطنية لصالح فرعيات اثنية او دينية او مذهبية ، لنتطلع حول الرجل ونرى بدائله ، فذلك كفيل لندرك ان لابديل له في اللحظة العراقية الراهنة . لقد كنا نحن "المراقبين المتشككين" نحاول ان نبحث عن اي تفسير "سياسي واقعي" ينزع عن الرجل اي تعاطف يستحقه ويزج خياراته في زاوية التنافس السياسي الضيق مع خصوم لايختلف عنهم ، وكنا نردد مع بعضنا او مع انفسنا هل يمكنه ان يواجههم امامنا بلا خوف ، هل يمكن ان يفصل نفسه عنهم وعن سلوكياتهم الانتهازية المثيرة للقرف والاشمئزاز ، هل يستطيع ان يواجه طبقة سياسية تمتلك قدرة التامر عليه واسقاطه ، ولكن احزروا ماذا: انه يستطيع ، بل انه فعلها ، وسواء كان الامر مشروعا وطنيا "مالكيا" خالصا ام له بعد سياسي حزبي ، علينا ان نتذكر ان الرجل يتصرف وفق منطق فن الممكن ، فآخر ماتحتاجه اللحظة العراقية هو عقلية انفعالية ديماغوجية تطيح بالقضية كما اطاحت سلوكيات الصدريين الفوضوية بما تبقى من اسباب كي نتعاطف معهم .
الديغولية لم تكن نزعة مغامرة ، لم تعتمد نهجا انتحاريا ولا كانت سلوكا جبانا ، كانت بنت اللحظة التي تراكم فيها وعي وطني فرنسي مستعد لقبول التغيير في النهج السياسي مع قيادة لها القدرة على ابتكار التغيير وتحقيقه . كذلك تبدو "المالكية" اليوم ، فرصتنا لاصلاح العطب الكبير ، لمواجهة الانتهازية السياسية والطبقة السياسية الفاسدة التي تحركها الرؤى الضيقة والمشاريع الفئوية ومنطق التآمر البغيض. ان معركة المالكي الراهنة ، سواء رضينا بذلك ام لا ، هي معركة غالبية العراقيين لاعادة الحياة لوطنهم وانتشاله من مأساته ، انها معركة لايجب ان نتفرج عليها بل ان نخوضها مع الرجل ، فقد اختار ان يقف بمواجهتهم جميعا ، وهم بحاجة كي يروننا نقف ورائه ... فصدقوني ، اذا رؤوه وحيدا سينقضون عليه ، سيقتلون فرصتنا الاخيرة لبناء "وطن" ، وسنعيد تراجيديا الندم العراقية ، مجددا والى الابد ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أي تسوية قد تحاول إسرائيل فرضها في لبنان والإقليم؟


.. أي ترتيبات متوقعة من الحكومة اللبنانية وهل تُجرى جنازة رسمية




.. خبير عسكري: هدف عمليات إسرائيل إحداث شلل في منظومة حزب الله


.. نديم قطيش لضيف إيراني: لماذا لا يشتبك الحرس الثوري مع إسرائي




.. شوارع بيروت مأوى للنازحين بعد مطالبة الجيش الإسرائيلي للسكان