الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صبحي جرجس .. حين طية المعدن تقول المكان وتختصر الزمن



يوسف ليمود

2008 / 11 / 26
الادب والفن


يواجَه من يقترب من صبحي جرجس، شخصا وعالما إبداعيا، بصورة الفنان في معناها الشامل, إن لم نقل المطلق. فيه تجسّد النحات والمصور والموسيقي والشاعر في آن. الصفتان الأخيرتان لم يُحشرا مجازا بل هما واقع وحيز له توقيته وساعته الداخلية، يدور في مينائها الفنان كعقرب، مالئا برقاص النحت والتصوير زنبرك الوقت وتروسه غير المبالية بالزمن أصلا. وإن قلت إنه يمثل، مع حامد الذي كان صديقه المحب وتوأمه الفني، قطبي كويكب فالت عن المدار، فلن أكون مبالغا، بل سأضيف إن دائرة من جليد ستذوب مكان وقوفهما من الوهج الفني الذي خصتهما به آلهة الحرارة والدفق.


بدأ بدراسة آلة القانون قبل أن يدرس الفن وتستقطبه موسيقى التراكيب عبر مواد التشكيل الملموسة. هنا أذكر أن آلة القانون كانت الغواية الفنية الأولى للعم نجيب محفوظ والتي انتزعه منها الأدب فيما بعد. فسألت، ذات مساء في أتيليه القاهرة، أستاذنا جرجس إذا كان ما يزال يلعب على القانون فرد بصوته الذي يفيض طاقة ودفئا، رافعا عقيرته وإنسان عينه الضاحكة يراوغ بلطف بؤبؤ عيني: "أنا ألعب على الآلات كلها ولا ألعب على أي آلة". وفهمت ما قصد.

في زيارتي الأخيرة لمصر الحبيبة العام المنصرم أردت أن أحقق أمنية طالما خانني الحظ والوقت فيها. أن أزور هذا الفنان في مرسمه. لم أره إلا لماما أيام دراستي قبل عشرين سنة، أو بعدها في زياراتي الشحيحة لبلدي، في الأمسيات التي يجلس فيها في أتيليه القاهرة، متوحدا ضاحكا ناثرا طاقته غير غافل عن دبيب ما يحدث حوله ولو مغلقا عينيه على سراديبه الداخلية الملحومة بالمكان وتاريخه الطويل.

على ناصية شارع طويل في حي شعبي قديم بمنطقة القللي المجاورة لمحطة السكة الحديد في رمسيس، نزلنا من التاكسي، المسطول سائقه، أنا وصديقتي المصرية ش وصديقي السويسري م. من هيئتنا، وبحدس شعبي لا يخطئ، فهم الجالسون على المقهي أننا نبحث عن بيت صبحي جرجس، ومن دون أن نسأل، أشاروا على محل بقالة بجانبه ورشة تصليح سيارات: "بيت الأستاذ صبحي هناك هنا". بيت شعبي بثلاثة أدوار. بعد عتمة المدخل وسلالم الدور الأول، رأينا الفنان في نور النيون الأبيض جالسا وسط غابة من المعادن وأدوات الطرق واللحام. طفل وسط ألعابه، أو إله بين مخلوقاته الصغيرة.



السيجارة في يده تعقبها أخرى. غرف المكان، بأدواره الثلاثة، مفتوحة على بعضها البعض في مساحات أزيلت حوائطها. محاولة المرور بين الأعمال تستدعي الحذر والحركة البطيئة خشية الارتطام بشيء: (قبل أيام من زيارتنا، حين رأيته جالسا في أتيليه القاهرة بقبعة على رأسه قلت: "ما هذا الجمال يا أستاذ صبحي!" ضحك وقال: "دي بطحة، خبطت رأسي وأنا أعمل، وأداريها بالقبعة". قلت: "هذا هو الفن". وضحكنا). الأعمال ملفوفة كالمومياوات في أكفان من بلاستيك. تنتشر على الأرض وفوق الطاولات. منها الواقف والنائم والجانح والمنكمش والمهاجم والمستدير والمستطيل والمربع والمختصر ككلمة والمستفيض كجملة ومنها الكبير ومنها الصغير، وجميعها تتمدد وتشتبك مع الفراغ في جدلية صامتة تنتزع حقها من التاريخ ومن الزمن ومن المكان ومن الموت، حقها في الوجود بقوانين الفن التي تسنها هي لهذا الوجود.



التبسيط الشكلي الذي تنبني عليها منحونات صبحي جرجس أساس جماليته وإن كان يصعب تصنيفها أو إرجاعها إلى اتجاه بعينه كالتقليلية مثلا. ورغم أن كل أعماله تتبنى الهيكل الآدمي وترده، رمزيا، إلى أشكال أولية أقرب إلى البدائية، تجد الطاقة التعبيرية طريقها في الخروج عبر كيفية ترتيبِه التشكيلي والرؤيوي لهذه الأشكال، وليس عبر الصراخ التعبيري الذي يقع فيه كثير من الفنانين الذين يتعاملون مع المفردة الآدمية كأساس ومنطلق.

أفك الأعمال من أكفانها البلاستيك وأحملها، واحدا إثر واحد، إلى مسرح المشاهدة على أرض الورشة. هو جالس يدخن وأنا منبهر. مع نزع الغطاء عن كل عمل تدخلني طاقته. تملؤني غيرة حد رغبتي في الجري لأعمل. روحٌ مؤكسَدة على التفافات صفائح وبساطة تراكيب تختصر حياة ً لتقول حياة. تختصر أزمنة غارت بأظافرها في جلد المكان لتحفر في حيز العمل زمنا جماليا منفصلا عن، ومتصلا، في الوقت ذاته، بالتربة التي منها انبسقت. الانفصال قانونُ الجمالية والروحُ التي تنظر على المجمل من علٍ. والاتصال لجامٌ يشد الفنان إلى التفاصيل في أسطوريتها وابتذالها وعذاباتها ليخرج من طرفيْ الخيط العلوي والسفلي بسن الرؤيا الذهبية مثبتةً ببراعة في الفك العظمي للعمل، معدنا كان أو سطحا من قماش.



أرى ردهة طويلة تسدها لوحات مكدسة في زحمة طوابير. أجيء بها واحدة واحدة إلى المسرح وأنبهر وهو يدخن فأدخن أنا أيضا. ملابسي غير المهندمة اتسخت من التراب المقدس للمكان. كم مرة قلت "الله" في تلك الساعة لست أدري! وكم مرة اقشعر بدني من روح الجمال فيما أرى لست أدري! قلت: "بعض التصاوير تذكرني بحامد ندا". رد فورا وبغبطة: "دا حبيبي".
يكون الفنان نحاتا حين النحت ومصورا وقت التصور، وإن تداخلت الأشكال نفسها في الجبهتين، والموسيقى رابطهما. فما يقال في التصوير عبر الخفة، يقال في النحت عبر الوزن والثقل. لكن أعمال جرجس النحتية مفرغة من الوزن كما هي مفرغة من داخلها. هذا الهواء الحبيس في أنابيب المعدن الملحوم، عزاؤه مقاييس زنزانته وأبعادها.  وعزاؤه أيضا أنه يخدم السطح الخارجي لأصداغ الصفائح التي ما كانت لتهب هذا الحس لو كانت مصمته. أفكر بهذا الهواء المسجون إلى الأبد داخل الاسطوانات الفنية فأتخيل رائحته كرائحة كنيسة تحت الأرض مغلقة من ألف عام. نجح الفنان إذأ في أن يحرر ظاهر عمله حين سَجن باطنه!


انتهت زيارتنا. ونحن نودعه على السلم أمسكت بيده ورفعتها إلى شفتي لأقبلها، ففاجأني بمحاولة فعل الشيء نفسه قائلا بصوته العريض الممتلئ: "اللي يبوس إيدي أبوس إيده". خرجنا إلى الشارع الذي نزل فيه الظلام. وأدركت أن هذه الساعة التي قضيناها معه ستظل بقعة نور في ذاكرتي طوال حياتي.



يوسف ليمود
النهار اللبنانية
رابط لمادة سابقة ذات علاقة:
http://www.doroob.com/?p=4878








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا