الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التعديلات المرتقبة مقاربة معرفية في كتابة الدستور

عبد الجبار خضير عباس

2008 / 11 / 27
الادب والفن


يعد الدستور علامة سيميائية، دلالته يشكلها الفضاء الاجتماعي بوصفه بنى فوقية لعمقه المعرفي (الابستمولوجي) ومضامين "محتواه"تشكله لغة كتابه بخلفياتهم الثقافية والفكرية، وعادة ما تكون البنى الفوقية التي يشكلها البناء
اللغوي منسجمة مع قاعدتها المعرفية التي تتشكل عبر اشتراطات تاريخية وانماط انتاجية معينة وتحولات فكرية تنمو بسياقاتها الطبيعية، الا اننا في العراق، تبدو الديمقراطية وكأنها قد حقنت في جسم رافض أو بتعبير آخر غرست في بيئة كارهة لها، وهذا الوصف يتماثل مع رأي "برنارد لويس" الذي يقول عن دول الشرق الأوسط: انها شعوب رافضة للحضارة أو كارهة لها عصية على التحضر ويجب تحضيرها بالقوة . وما يجري من مخاض ديمقراطي عسير، يعبر عن سعة الهوة أوالانفصال ما بين السطح المتمثل بالحراك الديمقراطي من انتخابات وبرلمان وهامش من الحريات.. وبين البنى التحتية "العمق" المتمثل بالبنى الاقتصادية وأنماط الإنتاج.. إذ ثمة خواء معرفي وواقع اجتماعي ملتبس تختلط فيه قيم ما قبل الدولة بتمظهرات مدنية مشوهة اثر لقاح السفاح بين الريف والمدينة، ما أدى إلى ترييف المدينة واحداث خلل في ثقافتها المدينية، فضلا عن تشظي مكوناتها الاجتماعية وتضخيم هوياتها الفرعية على حساب الهوية الوطنية، وكتاب الدستورأوالبرلمانيون هم تمظهرات هذا الواقع وخطابهم لابد ان يعبر عن واقعهم وينسجم معه . يقول الدكتور شجاع العاني نقلا عن احد الشعراء الفرنسيين في توصيفه اللغوي لحالات التناص: ان الذئب هو عبارة عن خراف مهضومة، أي أن القوى السياسية التي اسهمت في صياغته عبرت عن واقعها الاجتماعي وما اختزنته من تجارب حياتية وما امتصته من العلائق الاجتماعية متمثلة بالاعراف والقيم والنصوص التي قرأتها فما يكتب لاينفصل عن الخزين الفكري والثقافي وما يجري لايعدو كونه عملية اعادة إنتاج تنسجم مع الأنساق والبنى الحاضنة له.
وبما اننا نعيش حالة من اختلاط المراحل بين ما هو طبيعي متمثل بالقيم العشائرية والدينية وبين ضغط معطيات العصر من تطور تكنولوجي وثورة معلوماتية والنمو المتسارع لوسائل الاتصال والعصف الحضاري الذي تشكله ثقافة العولمة ودفعها باتجاه الديمقراطية والليبرالية، وضغوط الاحتلال وما تمليه من اشتراطات لبناء التجربة الديمقراطية على وفق قناعاتها وقراءاتها التي تصطدم باختلالات ثقافية واقتصادية وطائفية وفي مشهد غرائبي تقدم العشائر فيه سلوكا مدينيا تدافع فيه بعض الاحيان عن قيم مدينية متفوقة على معطيات المجتمع المدني، ودور مهم للمؤسسة الدينية في سعيها للدفاع عن السلم الاجتماع، الى جانب قوى دينية تقف بالضد من المسار الديمقراطي، فجميع هذه المحمولات اسهمت بضغوطاتها بشكل أو بآخرعلى كتاب الدستور وعلى الرغم من الاسلوب الذي يستند إلى لغة القانون والاختباء خلف عبارات والفاظ تمنح الشرعية للنص بوصفه وثيقة أو عهدا حداثويا إلا أن وقائع النص تفصح وتكشف عن دلالات ومعان لايعيها الكاتب (اذ للغة قوى لا نستطيع السيطرة عليها حتى عندما نستخدمها استخداما شديد الوعي)، فما كتب هو انعكاس للبعد الاجتماعي بلغة تداولية تعكس ثقافة الكاتب حتى وان حاول لي عنق الكلمات وتزويقها بمفاهيم حداثوية فجاء المعطى هجينا بين الافكار والمفاهيم المعبرة عن بيئة مفارقة مع (انا) الكاتب الثابتة الجذور والمرتبطة بثقافة "بطرياركية" ابوية، تقول الدكتورة نهلة النداوي في بحثها الوأد اللغوي في الدستور العراقي (مقاربة جنوسية في الديباجة): إن لغة الدستور العراقي (لغة جنوسية) بغض النظر عن قصد من حررها .. اللغة الجنوسية تشمل كل تمظهر للغة على مستوى البنية او الاستعمال , من شأنه أن يصرح أو يوحي بموقف متحيز لصالح نوع (جنس) ضد غيره , قصدياًً كان هذا التمظهر ام اعتباطياً ..وتم فيها الحديث عن الذكور في اغلبها الأعم, ولم تتم مخاطبة الإناث أو الحديث عنهن إلا عبر "جبة" الذكور وحين ظهرت المرأة على استحياء في استثناءات نادرة, فان تلك الاستثناءات لم تنج من تنميط لدورها وحصر لمناشطها. وهنا لا تخفى خطورة تلك التوظيفات اللغوية في إعادتها لإنتاج وتعزيز الصورة النمطية للمرأة... وأكثر من هذا وذاك خطرا فان فضاء لغة الدستور يقصي أحيانا بالمرأة خارج مجال المشاركة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية ربما. ومن اجل كل هذا من المشروع أن تنشأ المخاوف والهواجس من أن يؤدي تغييب المرأة في ظلال الرجل في لغة الدستور الى تغييبها الفعلي والقانوني, الخوف من أن ينتقل التحيز اللغوي بشكل آلي وتلقائي إلى تحيز عملي في الحياة والمجتمع). وبما ان الرؤية الاجتماعية متشبعة بالثقافة البطرياركية، دينية، اقتصادية،تربوية وتعليمية..، انعكست قناعاتها على صياغة الكثير من مواد الدستور المفترض به ان يعبرعن لحظة تاريخية مفارقة تعلن الانفصال التام عن فكر وزمن النظام الشمولي بمعطيات وايقاع العصر المتمثل بالليبرالية والديمقراطية والمهيمن العولمي واستحقاقات واشتراطات الاحتلال، لذلك نرى الدستور تتصارع مواده بين رؤيتين في التفسير..

المادة 2
اولاً ـ الاسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر اساس للتشريع:
أ - لايجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام.
ب ـ لايجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.
اذ وضع الكتاب ثيمتين رئيسيتين بخطين متوازيين لا التقاء لهما.. فيما يعتقد البعض من اصحاب القرار والارادة السياسية ان ما يكتبونه هو يقينيات ناجزة ما على الآخر المتلقي إلا التسليم بصدقيتها انسجاما مع الثقافة البطرياركية المشكلة لكيانيتهم وهم بذلك يسوقون افكارهم بوصفها قناعات نهائية غير خاضعة للنقد والتحليل.
لكن هذا النص "الدستور"بوصفه معطى حضاري عرضة لقراءات عديدة تتوافق مع المكونات المتعددة المشكلة لخريطة الوطن اذ ليس ثمة من انسجام بين اللغة والفضاء الاجتماعي على وفق هذه القناعة فمن الصعب التسليم بقراءة واحدة للنص ولامناص من تدفق الاشارات والرموز والايحاءات التي تولدها اللغة بصورة غير واعية اي لاشعورية فتفتح الابواب لقراءات مفتوحة وبمستويات من القراءة تتعلق بالمكون الاثني والديني والطائفي و السياسي والثقافي.. لذلك لاتوجد قراءة واحدة للدستور بل انه خاضع لقراءات متعددة يفرضها الزمان والمكان والظروف الاجتماعية والاقتصادية والواقع الحضاري.
يقول جاك دريدا: ان النص قد تحرر من الفرد الذي وضعه و قد يكون ميتا والكاتب لاسلطة له على ما كتب ونشر لانه بذلك سلمه للآخرين وللمستقبل) وهذا يعني ان المعاني التي يتمخض عنها النص ليس بالضرورة ان تتطابق مع المعاني التي يعتقد انه وضعها فيه، فهذه المعاني ستعتمد على من سيقرأها وعلى ظروف القراءة.. اي ان دائرة المعاني ستقل طاقتها على التواصل لانها لم تعد مباشرة اي انها ستفقد من طاقتها على التواصل ليس كما كان يحدث من نقاش وحضور كياني حي كما كان يحدث لكتبة الدستور لحظة احتدام النقاش وما كانت تؤشره ملامحهم وطريقة كلامهم ونبرة صوتهم وحركة ايديهم وتعابير وجوههم..فلكل منها دلالاتها السيميائية التي تمنح الكلمة شحنة تعبيرية اضافية او ربما تجعلها تهكمية فتفرغها من محتواها الدلالي .وعليه فهو بحاجة للتعديل على وفق معطيات العصر والتحولات الفكرية والسياسية والثقافية والتكنولوجية والثورة المعلوماتية.. فحين تقرأ الدستور الاميركي الذي مر عبر سلسلة من التعديلات كدال يحيلك مدلوله على القيم الاميركية، اي الفكرة المتمثلة في ان الفرد هو الاهم ويتمتع بالافضلية، على اية حكومة..لايجوز ان يسن الكونغرس اي قانون..يحد من حرية التعبير..لايجوز لاية ولاية ان تحرم انساناً من الحياة،او الحرية... تشكل علامة الدال والمدلول "الديمقراطية الاميركية".وثمة انسجام تام ووضوح بين الدستور وقراءته اما مدلول الدستور العراقي يشير الى الفيدرالية، ثوابت الاسلام، مبادىء الديمقراطية.. فلايوجد انسجام بين مفاهيم الدستور والقراءة الاجتماعية له اذ لم تتشكل بعد بنية معرفية عراقية موحدة. اذن علامته مفتوحةعلى قراءات عديدة..اذ( لايمكن التفكير في العلامة من دون مراعاة ما يميز حضورها في السياق).
نخوض هذه المقاربة في قراءة الدستورعلى وفق دلالته اللغوية ايمانا بان اشباع الدستور بالقراءة والنقد والتحليل، يسهم في دفع الآخرين وتحفيزهم لقراءات مختلفة أو تقييمية مستفيدين من الفرص المتاحة ومساحة الحرية في التعبير عن القناعات والرؤى والبوح بالرأي والتفكير كي نسهم بوضع الاشارات وتشخيص الدوال ذات المداليل المفتوحة للقراءة الفكرية المفارقة، كي نضع امام السادة المشرعين او القانونيين ومراكز القرار،التأشيرات، لتسهيل مهماتهم في النصوص التي من المزمع اجراء التعديلات الدستورية عليها . واننا نتعامل مع نص نعيش احتدام لحظته الراهنة مع تحولات الاحداث الدراماتيكية والصراعات الايديولوجية والدينية والمذهبية والاثنية بالتزامن مع المتغير التاريخي والحضاري، اذ اننا لا نتعامل مع سرديات كبرى او ايقونات مقدسة، اونصوص اسطورية كما يقرأ "ليفي شتراوس" الاسطورة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة