الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبقار الشرق الأوسط والمربع الخشبي

حسام مطلق

2008 / 11 / 27
كتابات ساخرة


والدي كان يمتلك مزرعة لتربية الأبقار, لم يكن أي من الأهل يرافقه لزيارتها, كانوا يفضلون مزرعة أخرى في منطقة رأس العين, هي اقرب, وفيها أشجار ومساحات واسعة مزروعة بالقمح والقطن وفقا للموسم. مرزعة الأبقار كانت في الشدادي وهذا ساعتين ونصف زيادة في الطريق غانيك عن الروائح الكريهة التي تفوح منها. بالنسبة لي كانت تلك خصوصية أنا مستعد لتحمل الكثير من أجلها, ثلاث ساعات على أقل تقدير في السيارة مع أبي منفردين, عالم خاص دونا عن أي من أخوتي, حوارات مطبوعة في الذاكرة ولن تزول.
هناك في مزرعة الأبقار, الثيران, وهي قليلة, معزولة عن البقر, ليس لأسباب دينية, بل عملا بنصيحة الطبيب البيطري. في المزرعة تجري طقوس التزاوج, الطبيب البيطري قادر على تحديد مواعيد الإخصاب لكل بقرة, ليس بواسطة جهاز فحص الحمل أو مراقبة الدورة الشهرية, له طريقة مختلفة, وعلى العموم لا أعرف ان كانت طريقة ام حساب أم تقدير.
التزاوج كان يتم بوضع الثور مع البقرة الجاهزة للإخصاب في مربع خشبي معزولين ويتركان فترة من الزمن حتى يقع عليها الثور, الامر روتيني وعادي, فيه تفضيلات من نوع البقرة الأكثر نفعا تعطى للثور الأكثر فحولة ضمانا للسلالة الأفضل. أذكر أن الطبيب البيطري نبه إلى نقص وزن الثيران وتبين أن العمال يتقاعسون عن نقل العلف إلى حظيرتهم, فهي بعيدة عن حظيرة الأبقار حيث يخزن العلف, ولذا كان الثيران يأكلون فقط في مرعى النهار, يومها طلب والدي أن يعلف احد الثيران جيدا قبل الأخرين وقبل اعادتهم إلى الحظيرة, فعلمت أن هناك طريقة اخرى لتفضيل الثيران أيضا, هو الأكثر فحولة. في احدى المرات هاج ثور وبدأ ينطح الأضلع الخشبية, كاد أحدها أن يسقط من نطحاته الهائجة, فأسرعوا باحضار مقطورة التراكتور كي يسند السور بعد أن وضعوا عليها الكثير من الشوالات الفارغة حتى يضمنوا الا يقتل نفسه بنطحى تصيب الحديد لا الخشب.
الوالد قال " شوبو هاد البغل " المزارع أجاب : الظاهر يا ابو حاتم عشقان. وكان الحل بدلوا الأنثى. نجحوا في صرف انتباهه عن الباب واستبدلت الأنثى وعائد هائجا . تكررت المحاولات دون جدوى . في النهاية كان القرار : ما دام مافي فايدوا منوا خذوا على السلخ.
الإنسان تسيد الأرض, وفي كل جزء منها صار ربا, كل واحد منا بطريقة أو اخرى صار يمارس إلهية على الأرض. الديانات القديمة كانت تعتبر الإنسان جزء من الأرض, قادم من الطبيعة, بل حتى الألهة كانت جزء من الطبيعة. فرب للمطر وربة للخصب وإله للحرب وهكذا. الجميع أله وبشر أبناء الطبيعة. حتى في الزردشتية التي منها تحدرت اليهودية جزئيا الربان هما للخير والشر, لشيئين من طبائع الكون والوجود, ربان من الكون لا خارجان عنه. مع اليهودية صار الله خارج الكون, صار سيدا له, وبطبيعة الحال أوكل أمر السيادة على الأرض لأكرم خلقه بني اسرائيل. المسيحية والإسلام خرجا جزئيا عن هذه النظرة عندما سيدا الإنسان عموما على الأرض وليس قوم دون غيرهم. ممثل الرب في الأرض صار مطلقا, ليس فقط في حياة الحيوان بل وحتى في كرامة الإنسان. القتل لم يعد دفعا لضرر أو جلبا لمصلحة, صار تعبيرا عن إلوهية مطلقة.
كان يمكن لصديقي الثور أن يظل في المزرعة وأن يبقى سنوات, ولكن إلوهية أبي تضررت فكان لا بد من السلخ. أما لما استعيد معكم هذه القصة؟ فاستعارة من الأغنية المصرية الشهيرة " كتاب حياتي يا ناس " فإن هذه الحادثة هي ببساطة ملخص حياتي بكاملها .
في البداية ظننت أن القضية في أمي وأخواتي والرغبة النسائية العميقة في تقرير حياة الرجل. أبعدوا أول قصة حب عن طريقي, وتلك كانت في الثانوية مع أخت أحد زملاء الدراسة, كنت أضعف من أن أقاوم, للدقة أجبن من أن أنطح السور الخشبي, إكتفيت بكتم الألم, دائما يكون لهم مبرراتهم فلا تسألوني ما هو السبب, الشرق الأوسط مليء بالأسباب التي يمكن لأي فرد أن يتدخل مستندا إليها في حياة فرد أخر.
مرت سنوات حتى تمكنت من مواجهة المعضلة, ولكن المواجهة لم تكن بدون مقاومة من الطرف الأخر, القصة أنتهت بأن قطعت علاقتي مع الاسرة بكاملها, وهذا تلطيف للقول : الاسرة نبذتني ونبذت تمردي.
لم أدرك أن التوقيت الذي سوف احصل فيه على حريتي من أمي وأخواتي سوف يكون هو التوقيت الذي يدفع بطرف أخر اشد بشاعة كي يلعب الدور نفسه في حياتي: أجهزة المخابرات.
قبل سنوات تعرضت لضغوط شديدة للارتباط بإمرأة ولكنني كنت استحضر بطولة الثور الذي سيق إلى السلخ ورفض الخضوع. بدوري قاومت وسلخت ولكنني شعرت بفخر الشهادة. مع أن المرأة إياها كانت مميزة ولو تركت الأمور لطبيعتها لربما وقعت في حبها ولكن لابد لمن يعمل في المخابرات أن يكون غبيا, ليس بأنه أقل ذكاء فقط, بل بأنه يريد للخطة أن تمر بطريقة الله المدبر, هو لا يكترث للنتيجة, هذا ما تخلص إليه, هو يكترث إلى أن تقع النتيجة على يديه. ظننت الملف طوي هناك. ظننت أن اختلاف الاصول العرقية هو الدافع للمربع الخشبي الذي نصب حولي, ولكن للأسف عادت القضية للظهور من جديد. ألم اقل لكم كتاب حياتي يا ناس.
أحداث عصفت بي في الأيام القليلة الماضية جعلتني أعرف من أبي, ومن المزارع, ولكنني إلى اللحظة لم احدد من هو الطبيب البيطري. هذه المرة أنا أكثر قوة وأمتلك الجرأة التي تجعلني انطح السور الخشبي حين تحل القضية بتبديل الإناث, فالذهن المخابراتي الذكي, كما أبي والمزارع, لا يمكنه أن يفهم جوهر المشكلة.
إسمحوا لي أيها السادة أن اسحب لقب الشهادة من كثر من الأغبياء اللذين ضحيتم بهم على قربان مبادئكم وقيمكم البالية, وأذنوا لي أن أمنحه لذاك الثور, فقد فهم معنى الحرية أفضل مما فهمها الكثير من البهائم التي تعيش في الشرق الأوسط.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة


.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات




.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي