الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انتصرت الحرية وانهزم المحافظون الجدد

نجيب غلاب

2008 / 11 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


في خطابه الأخير قبل اغتياله من قبل متطرف أبيض صرخ مارتن لوثر كنج زعيم الحقوق المدنية أن لديه حلم، وتحققت أحلامه بعد نضال طويل لمؤيدي الحقوق المدنية من القوى الليبرالية، وحلم كنج لم يصل حدود أن يحكم الولايات المتحدة الأمريكية أسودا، ولم يدر بخلد أحد في نهاية الستينيات أن البيت البيضاوي يمكن ان يسكنه رئيس أمريكي من أصول أفريقية، بل أن الكثيرين عندما رشح نفسه اوباما بن حسين شككوا في أمكانية وصوله إلى مرحلة المنافسة على الكرسي الرئاسي، لكنه أخيرا فاز فوزا عظيما. ونسأل هنا لماذا تتحول الأحلام المستحيلة في الداخل الأمريكي إلى حقيقة؟
الدولة المتحدة للولايات الأمريكية في إعلان الاستقلال وفي دستورها ووثائقها المؤسسة أسست لنفسها على القيم الإنسانية كقيم الحرية والمساواة والإخاء والعدالة، وفي المراحل الأولى للدولة لم يُحرر العبيد لأن نظام العبودية كان متوافق مع مصالح قوى الاستغلال في الولايات الجنوبية والتي كانت ترفض بالمطلق تحرير السود من العبودية، كانت الأرض بحاجة إلى قوة العمل السوداء، ولأن نظام العبودية كان متناقض مع طبيعة الدولة ومع القيم التي تسند شرعيتها، استطاع أبراهام لينكولن ان يصدر قانون يلغي الرق، لأن الرق يتناقض مع الدستور وطبيعة القيم المؤسسة للدولة.
كانت الدولة الجديدة والقيم التي قامت عليها تعبير عن الثقافة الجديدة السائدة في المجتمع في تجلياتها المثالية، كانت مصالح مالكي الأرض هي العائق أمام الانتقال لصالح القيم الحرة سند البرجوازية التجارية والصناعية، ولأن القوى المضادة للتأسيس الجديد كانت قوية ولديها مؤهلات مواجهة عاصفة التحولات الطبيعية، كانت الحرب الأهلية ضرورة لإزالة العوائق، فالثورة الأمريكية ضد المستعمر وشعاراتها الإنسانية لم تكن كافية لحسم الصراع لصالح القيم التي تؤسس لها البرجوازية التجارية، فكانت الحرب الأهلية هي المسار الداخلي للثورة، ذهب ضحية الحرب أكثر من نصف مليون أمريكي لتحرير ما يقارب 4مليون أسود من العبودية.
لم تكتمل الثورة حتى بعد تحرير السود من عبودية الأرض وظلت القوانين العنصرية تتوالد لا من روح الدولة ودستورها بل من الوعي الديني والتاريخي المكبوت في النفسية البيضاء وضعف قوى المجتمع المدني المناهضة للتمييز العنصري، ولم تتحرر الغالبية البيضاء من تحيزاتها العنصرية إلا بعد نضال طويل على مستوى الفكر والعمل، ومازالت بعض الأطراف البيضاء خصوصا ذات النزعة الدينية المتطرفة تكبت في وعيها ونفسها عنصرية مقيتة ربما تنفجر في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة التي توج فيها بالإرادة الشعبية رجل اسود يعتقد 10% من الأمريكيين أنه عربي مسلم.
أن فوز باراك اوباما يمثل أعلى تجليات الانتصار للقيم الإنسانية في التاريخ البشري، وأعظم بيان عملي لانتصار الديمقراطية على نقائضها اللانسانية، ووصوله دليل أن الانتماءات الاثنية عندما تُحيد في الصراعات السياسية لصالح قيم المواطنة فإن القوى المبدعة في المجتمع تتمكن من نيل حقوقها، عدالة توزيع السلطة لا يمكن ان تتحقق بالتقاسم الذي يزرعه الأمريكيين في عالم العرب فأبناء الطوائف يفقدون مصالحهم المادية والمعنوية لصالح زعامات لا هم لها إلا مصالحها.
الدولة التي أفرزتها الحداثة تمكنت من رد الاعتبار للإنسان رغم تناقضاتها البنيوية وهذه الدولة تتحرك في مساقات تقدمية لصالح ترقية الإنسان، وهذا لا يعني أن الدولة الحديثة في حركتها الخارجية وحتى الداخلية قد أنتجت صراعات دموية ومآسي وحشية ومازالت، إلا أن هذه الإشكالية هي نتاج للقوى المناهضة للفكر الإنساني وهي نتاج الفلسفة الرأسمالية المتوحشة الباحثة عن الربح، والذي ينتهي لصالح طبقة ظالمة خائنة لمبادئ وقيم النور الإنساني، وكلما تمادت قوى الهيمنة في استغلال الدولة وتوظيف الشعارات الإنسانية في معاركها، فإن المجتمع المدني بما يملك من حيوية قادر على حسم التناقضات التي تنتجها القوى المناهضة للثقافة الإنسانية ومازالت المعركة قائمة.
لا ينكر أحد مهما أختلف مع الولايات المتحدة أن فوز أوباما ملحمة جديدة من ملاحم المجتمع الأمريكي أنتصر فيها المجتمع المدني في مواجهة قوى شريرة احتلت الدولة وذهبت بها في صراعات مدمرة جعلت من أمريكا وحشا مخيفا ومنبوذا، المحافظين الجدد كشروا بأنيابهم في معارك فوضوية تحركها أوهام دينية ونزعة مغرورة للهيمنة والسيطرة على العالم، فزرعوا الكراهية في كل مكان، مع اوباما أصبح العالم أمريكيا لان أمريكا انتصرت لنفسها وللعالم، انتصرت للإنسان، وقبل فوز بارك أوباما قالها المجتمع باستطلاعات الرأي فكان أسوء سياسي مر بتاريخ أمريكا نائب الرئيس دك تشيني، وبلغت شعبية بوش الرئيس أدنى مستوياتها، ويراه الأمريكيين كأسوأ رئيس أمريكي في تاريخها.
أن فوز أوباما مقاومة شعبية سلمية أثبتت ان أمريكا قادرة على مقاومة عوامل السقوط والفشل وأنها مازالت قادرة على إصلاح انتكاساتها بالحرية، وبالحرية تمكنت من صناعة التاريخ ومواجهة الأشرار المتآمرون على إرادة الشعب، فالمحافظون الجدد لم يكونوا إلا مجموعة أعمتهم أصوليتهم الدينية والفكرية والرأسمالية المتوحشة عن رؤية العالم كما هو، فأصابوا أمريكا بالهزيمة والخسران.
ان فوز باراك اوباما أعظم حملة علاقات عامة للولايات المتحدة وليس مهما أن يغدو اوباما مسيحا فحركته مرتهنة للتناقضات التي مازالت تحكم الواقع داخليا وخارجيا، المهم في الأمر ان الإنسان استطاع ان ينتصر في ساحة مهمة طالما ظلت كابوسا مؤلما ومازالت في التاريخ الإنساني، أنها طفرة أخلاقية تثبت أن كل شيء ممكن في عالم الإنسان فالعدل والمساواة والحرية يمكن ان تتحقق بصورتها المثالية كلما ناضل الناس من أجلها، لا مستحيل في هذه الأرض، فالسلام والإخاء الإنساني وكل القيم النبيلة يمكنها ان تحكم البشرية.
هذا التحول المفصلي في تاريخ الولايات المتحدة قوة قاهرة لكل القوى الأصولية المتعنصرة في العالم، فالدولة الإسرائيلية مثلا دولة عنصرية بامتياز، طبيعتها مهما ادعت انتمائها للإنسان قائمة على فلسفة عنصرية مناهضة للثقافة الإنسانية، فوز اوباما مهما تعاطف معها ودافع عنها بيان إدانة لعنصريتها المقيتة، واليمين المسيحي المتطرف سيقوده فوز اوباما إلى زواياه المظلمة وربما ينفس ألفاظه الأخيرة باتجاه بعض أعضائه نحو العنف.
فيما يخص عالم المسلمين فعلى مستوى العقائد أعلنها الرسول العربي، "بلال منا آل البيت" حديث نبوي حمل في مضمونه ثورة متحدية لواقع العبودية وتحدي لوعي قبلي متحيز للأنا التي لا تعترف إلا بنفسها، "الناس متساوون كأسنان المشط" بيان نبوي للمساواة المطلقة وهو أول بيان لتحرير الإنسان من كل التحيزات المناقضة للمساواة، "لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى"، بمعنى ان الناس جميعا متساوون في الأرض والتقوى مرتبطة بالسماء.
كان الإسلام ثورة في التأسيس للمساواة والحرية والمدنية وقتلته السياسة في قرشية الحاكم ومزقته أشلاء عنصرية حصرت الحكم في علي وبنيه رضوان الله عليهم جميعا، ونظريات السياسة الدينية لا تعبر عن نقاء الإسلام بل تترجم عنصرية الوعي القبلي وعصبيته المقيتة، لذلك فإن العقل التقليدي في مواجهة حدث بهذا الحجم سوف يصاب بالإحباط، وكانت إيران أقل الدول تفاؤلا وفرحة بفوز رجل أسود يحكم أعظم دولة في العالم هي الشيطان الأكبر في منظومتها العقائدية، وربما تعتبرها مؤامرة صهيونية لتشويه عنصريتها السياسية والدينية.
ليست إيران إلا ابرز العناوين فالعالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه مازال راضخا لتمايزات متنوعة، والصوت الطاغي في الحراك التاريخي للمجتمعات الإسلامية صوت مناهض للإنسان يحمل في جوهره عنصرية دينية ومذهبية وعرقية والشعوب راضخة لأوهام ما أنزل الله بها من سلطان فأصبحت غير قادرة على تحديد مصيرها، المسلمين دول ومجتمعات في حقيقتهم مازالوا عاجزين عن ارتياد آفاق العصر الإنساني.
هل سيخرج اوباما دولته من أزماتها الداخلية والخارجية؟ هل سينتصر أوباما في الداخل والخارج للقيم التي أوصلته إلى أخطر منصب في التاريخ البشري؟ ربما فالقوة الأمريكية سرها في أخلاقها وقيمها الإنسانية وإبداعاتها التكنولوجية الخادمة للإنسان، ربما تكون أزمة الرأسمالية مدخل أوباما لتحرير أمريكا من وحشيتها المدمرة للعالم وإخراجها من أطماعها السامة التي تقودها نحو حتفها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -لؤلؤة إفريقيا غير المكتشفة-.. هذا ما تقدمه أوغندا لعشاق تجا


.. اجتياح رفح يشعل التوتر بين مصر وإسرائيل | #غرفة_الأخبار




.. الأردن يحبط مخططا إيرانيا تخريبيا للعبث بأمن واستقرار الممل


.. محمد خضر.. فلسطيني يشهد على جرائم الاحتلال في ذكرى النكبة




.. عبر الخريطة التفاعلية.. معارك ضارية شمال قطاع غزة