الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التنظير لدولة غائبة

حمزة الحسن

2004 / 3 / 5
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


من يقرأ بعض ما يكتب هذه الأيام وخاصة كتابات التنظير والتأسيس حول الدولة العراقية المفقودة، يصاب بصدمة عقلية وذهول لأن هذه المقالات تكتب عن واقع عراقي ساكن ومؤسسي راسخ دون أي جرح أو بتر أو قطع بنيوي على كل الأصعدة، والكلام عن دولة غائبة بلا مؤسسات، هو كالكلام عن سعر سمكة في الماء!

وهذه المقالات تتحدث عن وطن متخيل وهمي وافتراضي وترسم حدود/ وطن لا وجود لها/ له إلا في مخيلة معبأة بالكلمات. لا يوجد وطن في العالم بنته الكلمات مهما كانت قوة البلاغة ورونق الكلمات: الأوطان تتأسس على أرض الواقع، دولة ومؤسسات، وتشريعات، ومصدات، وبعد ذلك يجري الحديث عن التغيير، وعن صورة مغايرة، وهذه الطريقة في التفكير والتنظير هي بقايا الفكر السياسي الشمولي الذي لا يتحدث عن الظاهرة الحية بل ينقل من الذهن أو النص، لأن مرجعية هذا النمط السياسي المعروف ليس الواقع بل الايديولوجيا، وهو لا يسأل الواقع ولا يتأمله بل يسأل النص ويتأمله!
إنه نوع آخر من الفقه السياسي.
 
هناك من يتحدث اليوم عن وجهة نظره مثلا بمشروع ديمقراطي، وينسى أن الديمقراطية تتأسس على بنية اقتصادية اجتماعية فكرية متينة وان هذه هي التي تحدد ملامح هذه الديمقراطية.

وإذا عرفنا أن الاقتصاد العراقي سواء على مستوى القوى المنتجة أم على مستوى البنية الاقتصادية، أم على مستوى القوانين، هو اقتصاد مدمر، وأنه ينحدر نحو سياسة اقتصادية رثة تتسم بالانفتاح على الرأسمالية والسوق الحرة من خلال وكلاء محليين صغار هم جسر العبور نحو السوق الحرة، ويستتبع ذلك تفكيك مقومات البنى الثقافية والأخلاقية والتاريخية المحلية، وسيطرة شرائح رثة، طفيلية، وهيمنة النزعة الاستهلاكية وأخلاقياتها، اذا عرفنا ذلك يصبح الحديث عن مشاريع وتنظيرات  ووجهات نظر، من خارج هذه المواقع، ضربا من التنجيم والعبث وإضاعة الوقت.
 
إن  مأسسة ـ خلق مؤسسات ـ دولة ليست نتاج القوة الفكرية، مهما كانت قوتها، بدون أن تمتلك هذه القوة قاعدتها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية على الأرض، لأن الكلمات يتيمة بدون قوى محركة.

إن الواقع العراقي اليوم بكل ما فيه ليس هو الواقع بالأمس قبل سقوط الدولة الغول،ولم تعد نفس القوى القديمة تحركه،أو تتحكم فيه،ولا نفس البنية السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والتكوينات المحلية السابقة المحلولة، بل دخلت قوى ومؤسسات خارجية وداخلية مؤثرة وفاعلة وتمتلك القرار السياسي وهي وحدها التي تقود لعبة التغيير وهي وحدها تمسك بعصب الحياة، رغم وجود الأدوار الأخرى المضادة. وهذه الأدوار ليس عندها مشروع التغيير، بل تقوم بدور عرقلة المشروع الخارجي المدعوم بقوى محلية منتفعة.


كما أن الحديث، كمثال آخر، عن الطائفية بالمطلق، هو الآخر، في هذا الظرف، نوع من اللعب بالكلمات على أوتار قديمة، وهي تتحدث عن الطائفية كخطر في مجتمع مؤسس على قاعدة سياسية رصينة وقوانين وطبقة سياسية محددة الملامح، وصحافة حرة.. الخ... وتنسى هذه المقالات أن الطائفية كنشأة وولادة خلقت أول مرة في ظروف مشابهة، أي ظروف سيطرة قوى حاكمة خارجية أو دخيلة، ومن طبيعة الطائفة في كل زمان ومكان أن تنغلق وتتقوقع  وتأخذ شكل الجنين في الرحم الاجتماعي وتعيد إنتاج رموزها التاريخية بإفراط كرد فعل طبيعي على الشعور بالاقتلاع والتهديد أو الخوف منه بناء على خبرة تاريخية في النبذ والتهميش والإقصاء.

فالطائفي لا يتخلى عن طائفيته ولا عن شعوره أو فكره أو طائفته بناء على مقال أو حتى مئات الكتب عن مضار الطائفية، بل هذا الفكر والشعور بالتهديد سينتفي عبر مشروع كامل للتغيير مؤسس على قاعدة فكرية وصناعية واجتماعية قوية وعلى مؤسسات تضمن حقوق الجميع في الهوية والولاء مع الاحتفاظ بالمواطنة كهوية سياسية ـ وليست قومية أو دينية ـ للجميع.

كما أن الكلام عن الأصولية ، كمثال ثالث، في هذا الظرف ومخاطرها، هو ضرب من الإنشاء اللفظي البائس الذي يفتقد لبعد النظر والحكمة والنظر العميق في زوايا الصورة المتشعبة: إن هذه الظاهرة الغربية المنشأ والتي نشأت أول مرة على نحو واضح في صراع كنسي أوروبي هي رد فعل على ظاهرة البروتستانت التي تعني:( المحتجون). أي نشأت في مناخ صراعي بين الطوائف وبين السيطرة الكنسية وبين السلطة.

فلا يمكن تجريد ظاهرة الأصولية من مناخها اليوم، والكلام عنها بهذه الطريقة السلبية دون الغور عميقا في جذور هذه الظاهرة، وهي بالمناسبة لم تعد ظاهرة دينية فحسب، بل ظاهرة سياسية: يمكن أن نجد الأصولي القومي، واليساري، والاخواني، وهناك أصولية نقدية في الأدب، وفي الثقافة عموما: أي كل من يؤمن بحرفيات الفكر واللغة.

هناك خطأ شائع قديما وحديثا، هو أن الفكر يعني الواقع: وهذه النظرة الأصولية السطحية تقوم على أساس ديني أول الأمر لكنها انسحبت على الفكر البشري عامة.

إن الفكر ليس الواقع بل هو فكرة عنه أو صورة مغايرة عنه. إن الفكر يقوم على أساس اللغة وهذه ليست أداة لرسم صورة حرفية للواقع، بل هي أداة للمقاربة. أما حين تتحول اللغة إلى صورة نمطية للواقع وتسمره في مفاهيم، فهي تسجنه، تغلقه: وهذه هي عقلية الأصولي والطائفي، يسارا أم يمينا.

على المستوى الأدبي: هذه النظرة الأصولية، أي الحرفيّة، هي مصدر الصراخ الحقيقي والمفتعل على بعض الأعمال الفنية والأدبية التي تخرج من هذه النمطية، بحجة خيانة الواقع.

هذه الصرخات تعتقد عن جهل أو قناعة عمياء أن الفن عموما عليه أن يكون أمينا في رسم صورة الواقع. إن هذا غير موجود إلا في الفقه الديني. إن لغة الفقه لغة تشريع وتثبيت وترسيخ ومسلمات.

لغة الأدب لغة خلخلة وزلزلة وتفكيك للسائد والمألوف وخلق صورة بديلة عنه وليست صورة حرفية وفي هذا قوته في التغيير. في هذه الحال( الحرفية) ما حاجتنا، كما يقول الرسام ماتيس، إلى إعادة إنتاج ما تنتجه لنا الطبيعة يوميا وبإفراط؟!

رغم أن كل شيء دمر في العراق، الأسلحة، والدولة، والمجتمع، والتاريخ، والمسار الطبيعي للتغيير، إلا أن اللغة التي نكتب بها هذه الأيام ظلت محصنة منيعة تتحدث عن واقع افتراضي متخيل، كأن كل هذه العواصف مرت فوق مقبرة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -