الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مواسم الأقنعة

عدنان الدراجي

2008 / 11 / 29
الادب والفن


ساقني المطر قسرا إلى جوف حافلة جثمت بكبرياء قرب باب مرآب النقل العام, كانت تفصلني ساعات طويلة عن موعد انعقاد المؤتمر إلا أن تبكيري في السفر سيمنحني فرصة التسكع بعد وصولي المبكر إلى بغداد.
أتاح لي خلو الحافلة من الركاب انتقاء مقعدا مناسبا بجنب نافذة موشحة بقطرات المطر التي ألفت عروقا مائية تائهة على سطح الزجاج الخارجي.
تحسست برفق مجموعة أقنعتي الأثيرة التي دسستها سلفا في جيب الحقيبة النافر قبل وضعها بهدوء على رف الحقائب الذي يعلو النافذة.
كنت أتأهب للتقنع بقناعي الأول حين اقبل عدد من المسافرين نحو الحافلة ليشغلوا عددا من المقاعد الشاغرة عشوائيا, ولحسن الحظ أتممت تقنعي قبل وصول أولهم.
توالى وصول أصناف مختلفة من الركاب ولما يجرأ أحد على الجلوس بجواري مهابة لقناع الكياسة الذي أخفيت ملامحي خلفه.
بعد حين اقبل شيخ يعتمر عمامة ضخمة, تطلع إلي بتأن ثم اتجه بهدوء إلى مقعد أخر, شعرت بارتياح وبفخر شديد إذ تصاغر الجميع أمام قناع مهابتي.
لا أنكر إن كثيرا من المسافرين حرصوا على الجلوس متجاورين لأنهم لم يأتوا فرادا بل مع أزواجهم أو أصدقائهم أو أقربائهم إلا إن هذا لا يقلل من كفاءة قناعي.
تصاعد نداء السائق (نفر واحد بغداد, واحد بغداد) وأخيرا جاء الواحد مهرولا فأشار إليه السائق نحو المقعد المجاور لي.
نظر إلي المسكين بعينيين منكسرتين مستأذنا بخنوع ثم جلس على مضض ملتصقا بمسند المقعد ليتح لي اكبر قدر من الراحة.
بدا لي هذا الشاب الريفي منسجما مع قناع التأدب الذي ستر به ارتباكه وكذلك قلقه على بنطاله الجديد, كان يراقب آثار بقع الطين حتى إذا جفت دعكها بهدوء ثم صب جل اهتمامه على إعادة نضارة حذائه المتسخ وبعد أن اطمئن على هندامه عقد ذراعيه على صدره وأغمض عينيه.
مللت النظر إلى الطريق السائب كأفعى في أرض جرداء, كان على الحافلة قطع ضعف ما قطعت من الطريق, خف زعيق الحوارات المتشابكة تدريجيا ثم ساد الصمت إلا من همس شابين جلسا خلفي يتبادلان قصص مغامراتهم العاطفية ومقالب ونكات تافهة.
كان الهدوء متناغما مع رتابة ماسحات زجاج مقدمة الحافلة إلا أن سائق الحافلة لم يرق له ذلك فأطلق حزمة أغان غجرية صاخبة تعانقت بانسجام مع روائح جوارب المسافرين في فضاء الحافلة المغلقة النوافذ.
كانت الشبكة المتحركة من العروق المائية الملتصقة بسطح زجاج النافذة الخارجي تختفي تدريجيا بسبب تكاثف الرطوبة على زجاج النافذة الداخلي, فأشحت بصري إلى داخل الحافلة.
تصاعد هدير الإيقاعات الغجرية إلى حد أشعرني بالغثيان فنهضت التمس طريقي بصعوبة عبر الممر الفاصل بين صفي المقاعد متجها نحو السائق, لم انس وأنا في قمة توتري إسدال قناع التجهم على صفحة وجهي ليكون مع بدلتي الرسمية الفاخرة سلاحا فعالا اقمع به تجبر السائق العملاق, ومن غير أن أحييه وبصوت منخفضا عميق قلت له: اخفض الصوت رجاءا, نظر إلي واجما ثم أطفأ الجهاز, استدرت لأعود إلى مقعدي تغمرني السعادة, تبدد التجهم وارتسمت ابتسامة عريضة على وجهي.
قبضت بيدي اليمنى على الأنبوب الممتد على طول سقف الحافلة واتكأت باليسرى على طرف المقعد المحاذي وأرسلت بصري متفحصا الممر الضيق, يا الهي ما هذا, تيبست قدماي من فرط المفاجأة, جميع الجالسين في الصف الأول من المقاعد يرتدون أقنعة, الأمر لا يحتمل الشك, هاهي أجزاء من بشرتهم الطبيعة ظاهرة من تحت أقنعتهم المنكمشة, تقدمت خطوة أخرى وتفحصت شاغلي الصف الثاني, ثم الصف الثالث ثم الرابع وهكذا حتى بلغت مقعدي, كان الجميع مقنعين عدى عجوز سبعينية ومراهق يافع.
كم أنا غبي مغرور, طالما تباهيت بأقنعتي الخفية وقدرتي على التقمص وكأني وحيد زماني, تكورت على مقعدي مهيض الجناح منكسرا ولاهتزاز ثقتي عدت بذاكرتي مسترجعا اغلب المواقف التي ارتديت بها أقنعة خائفا أن يكون سري قد افتضح من حيث لا اعلم, كانت عملية التذكر شاقة إذ أني انغمست بعالم التقمص منذ شبابي المبكر.
استغراقي العميق فوت علي فرصة مراقبة ما يدور حولي حتى فوجئت بتوقف الحافة في مدخل مرآب النقل العام في بغداد, تلاشت رغبتي في التسكع واتجهت حالا إلى الفندق.
قبل حلول موعد المؤتمر بنصف ساعة غادرت الفندق برفقة مجموعة من المؤتمرين إلى مدخل القاعة التي سيعقد فيها المؤتمر.
كان علينا الخضوع للتفتيش الدقيق قبل ولوج غرفة الاستعلامات, استقبلنا موظف أنيق يقف بجوار مرآة كبيرة وبيده قائمة بأسماء المؤتمرين والضيوف, انتظمنا في الصف وكنت الثالث, مرق الأول بعد وضع علامة إزاء اسمه في القائمة, تقدم بعده رجل يتبختر كالطاووس ببدلة زرقاء وربطة عنق فاقعة, نظر إليه حامل القوائم مليا ودون أن يسأله عن اسمه قال له بحزم: غير مسموح لك بدخول القاعة ثم رمى القوائم فوق المنضدة ووقف متأهبا.
ماج الرجل وهاج قادحا متوعدا وقد جحظت عيناه واكتست بحمرة مخيفة, كان يدور حول نفسه كالمجنون حتى واجه المرآة, حملق بها ثم اقترب منها ببطء شديد ليقف بموازاتها لثواني وبحركة مفاجأة لطم وجهه بكلتا يديه واندفع هاربا نحو الخارج.

د.عدنان الدراجي
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري