الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أثناء الحُمّى

محمود يعقوب

2008 / 11 / 29
الادب والفن



الآن ، عند الفجر الكاذب .. الآن فقط بدأت أدرك أنّ بعض الجراح ، على صغرها ، قد لا تندمل أبداً . أردتُ أن أنسيه الأمرَ لا أكثر ، ولو لساعةٍٍٍ ، ولو لدقائقَ أردّته أن يجلس قليلاً لترميم أعصابه ، ويرمي عن ظهره حمل الخسفِ ووزر الهموم . كان مثل بوم ٍ مغلوب ٍ ٳلى حدّ ِالافتراس .. بوم ٍ يبحثُ عن خربة ٍ أخرى بين أنقاض روحه قبل طلوع الصباح !..
كانت روحه العميقة وادياً بين التضاريس العالية . وٳلى هناك ..ٳلى ذلك الوادي السحيق ، كانت الدماء والدموع تنزلُ من أعلى السفوح والتلال . وفي لحظات الوداع الأخير كنت أشعرُ أن الغموض يسري في أرجاء هذا الوادي المهجور !..
تَوَقَفَ وأمسكَ بيدي وفال بسخريـّةٍ ووثوق ٍ :
-هؤلاء الشباب المُتنطسين ، الذين ينتمون الى أرومة الشرف الرفيع ، سيأتون غداً ،كنْ واثقاً
من ذلك ، سيأتون يُـريدون رأب الصدع ، سيسكبون في أذني كلمات الأسف والاعتذار ، تلك الكلمات الرخيصة الفارغة المعنى ، والتي ليس بمقدورها أن تزيل ندباً واحداً من الندوب التي خلفوها محفورةً في أعماق روحي ..
كان صوته واشياً بالألم البليغ ..
أنا و ( خلف الحجيـّة ) فقط ، بَدَويـّان هائمان في صحارى الليل . أثناء الليل تكون المدينة لنا ، لا يشاركنا في امتلاكها أحدٌٍ ،ندور بين نجومها وشوارعها مرحين ، نتسكع على طول شارع النهرِ حتى أول الفجر ِ .. الى الوقت الذي تظهر فيه سيّارات الأجرة ، ويتقاطر المسافرون الى القرب من أحدى المقاهي ، التي تفتح أبوابها عند هذا الوقت المبكر من الصباح ..
في آخر الليل ، تـَبهتُ كل الأشياء وتسكن ُ سكوناً بارداً ، وتثـقـُلُ الحركات والأحاسيس على نحو ٍ غريبٍ . وغالباً ما نسمعُ في لحظات الليل الأخيرة أصواتـاً رفيعةً ناعسـةً تنادي باستعجال ، أو تحثُّ بنفاد صبر ٍ : ( بغداد ..بغداد نفـرٌ واحـدٌ ..بغداد ) . عند ذاك نؤوب الى بيوتنا في غمرة النعاس .
في الجيش وفي الحروب ، تَعرّفتُ الى ( خلف الحجيّة ) ، وتوثقت صداقتنا . كان ضابط صفٍ حاذقاً ومتمرساً ، رقيق الحاشية ،يحلق وجهه ورأسه على الطريقة العسكريّة دائماً .وعقب كلِّ معركةٍ نخوضها ، كنا نجلسُ اياماً طويلةً لأستمع اليه وهو يحدثني عن ديكه الهندي .
كانت سحنته حمراء داكنة ، يميل الى الابتسام على الدوام بفمه الحزين .. فمه الذي يختلجُ جانباه وكأنهُ يُريدُ أن ينفجرَ بالبكاءِ .
منذ ّ سنين َ استقرَّ ( خلف ) ، مع عائلته ، في مدينتنا . واستطاعَ خلالها أن يحرز لقبَ والدته الحاجّة ليُتَوجَ به اسمهُ ، مثلما أحرزَ ودَّ الكثير من الأصدقاء . وكان قد تَقَبـّلَ هذا اللقب كملاذٍ أخير ٍ بعد أن فقدت العائلة كلّ رجالها .
كنت أزوره في البيت من حين ٍ الى آخر ٍ ، في غرفته العارية الجدران الاّ من رأس غزالٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ عتيق ٍ معلق أسفل مصباح الغرفة ِ ، كان يجلس يفـت ُُّ الطعامَ الى ديكه ِ ويثيرُ سخطي ..يثير سخطي بسخائه المفرط مع ذلك الديك ، كان يقدم له الحساء واللحوم وبعض الفاكهةِ وكأنه ضيفٌ عزيزٌ قَدِمَ من مكان ٍ بعيد ٍ !..
كان يُطعمُ الديك بحرص ٍ ، ويُمضي الساعات في تدريبه . كان ضابط صف ٍ حقيقي ، انصرف الى تدريب الديك واعداده كمقاتل ٍ مقدام . أراهُ راكضاً على السلالم خلف الديك ، ودائراً مهرولاً معه في أرجاء البيت ..
وبصراحة ٍ سخرتُ كثيراً من الاسم الذي اشتهرَ به ديكه في حلبات المصارعةِ ، كان الجميع يسمونه ( منتصر ) وأحسب ان هذا الاسم يليقُ بولد ٍ من أولاد ِ حي المعلمين ، في المدينة ِ ، وليس بديكٍ باسل ٍ تقدحُ عيونهُ شرراً ، وطافت شهرته المدوية الآفاق ..
ألحَقَ ( منتصر ) سيلاً من الهزائم النكراء بكل الديَكَة ِ التي جاءت للمنازلةِ . واعتاد حين يفرغ ُ من تمريغ خصمه بالدم المطلول أن يمشي متبختراً في طول الحلبةِ وعرضها صائحاً :
-لا تزعجوني بمثل ِ هذه الدِيَـكةِ آكِلة الذباب ..
كان وحده الديكُ الصاعقة ُ ،ومكانه الوحيد هذه الحلبات ، وما عداه فأن مكان جميع الديـَكة الأخرى ليس سوى موائد الأفراح ..
أصدقاءُ ( خلف ) أغلبهم من الميسورين ، أبناء الذوات ، ممنْ كانوا ينفقون نقوداً كثيرةً على جلب أفخر أنواع الديوك والمراهنة عليها بلا وجع رأس . ورغم كل ما جلبوه ، كانت حظوظهم تخيبُ أمام الضربات الماحقة لديك ( الحجيّة ) .
كانت هناك مواسمٌ ثابتة ًٌ وأيام ٌمعلومـة ٌ للقتال ، وهذا هو أروع مواسمها . واليوم عاد أصدقاؤه لمنازلته بديك ٍ جرى انتقاؤه من أعنف السلالات وأكثرها رغبةًً في الانتقام ، بعد أن أطعموه ودربوه طويلاً ، وخاضوا به نزالات وديـّة ً وحقيقية ًٍ على سبيل الاختبار ..
وعند العصرِ ذهبنا ثلاثتنا ، أنا و ( خلف ) و( منتصر ) ، ووجدنا هنالك جمهوراً محتشداً .
في بداية الجولة الأولى ، أُنزِلَ الديكان الى الحلبة ، سارعَ كلٌ منهما محاولاً الاقتراب من خصمه ، متحسباً ومتفحصا ، وسرعان ما زَفَّ كلٌ منهما جناحيه ِ وركض نحو الآخر . مدّ َ كلٌ منهما للآخر رقبةً ملتويةً متشنجةً ،داسّـاً أنفه عند أنف خصمه ، وكان لهب النيران يتراقص في عيونهما التي غابت عنها براءة الطيور وٳلفتها . احتدمَ غضبهما وهما يدوران حول بعضهما ، ونشرَ كلاهما جناحيه ِ ، وأخذا يتبادلان القفز والضرب بالأجنحة ِ ، ثم اشتبكا بقسوة ٍ ، وتبادلا الطعن بالمخالب والمناقير ، وسدّدَ كلُ واحد ٍ ضربات ٍ قوية ًٍ للآخرِ ، وأمام منظر الدماء المنبثقة ،اهتاج الجمهور وعلا صياحهمُ ، وارتفعت ارقام مراهناتهِم ..
كان غثيان هذه اللوحة الوحشية لا يُـطاق ،تراجعتُ بضعة خطواتٍ الى الوراء ، تبدى لي منظر الحلبةِ من الأعلى الى الأسفل بكل رعونتهِ . فوق الحلبةِ ، استقرت غيمةٌ بيضاء شفافة من دخان السجائر ، وأسفلها كان زغب الريش يتحرك مضطرباً ، صاعداً ونازلا ، وفق خفقات الأجنحة المتلاطمةِ ،والى الأسفل تسلط ضوءٌ ساطعٌ على هذين الكائنين الصغيرين الذين تسربلا بدمائهما . وحولهما تحلـّقت العيون المشرعة ، الجائعة النهمة ، وقد اسكرتها فورة الدماء المنبجسة ُ ..
من الأعلى الى الأسفل ِ ،كانت تلك البشاعة تبدو لي ضرباً من الشذوذ الأخلاقي ..
من المتعارف عليه في مثل هذه المنازلات ، أن لا يُحسم الصراع في الجولات الأولى ، اذ ليس من السهولةِ فعل ذلك ، بل يُحسم بعد أن تستنزف قوى ودماء الديكين ، ويتخلل الجولات فترات استراحة قصيرة .
كان ( منتصر ) منذ ُ بداية النزال يبدو أكثر قوةٍ وقدرةٍ على النصر ِ . كان يقاتل بعزيمة طيرٍ مخلص ٍ ..بساقيه القويين ، وضربات جناحيه الخاطفة ، كان يرمي خصمه على الأرض وينقض عليه ويدميه . ورغم ذلك فأن لونه البني الفاتح المرقش راح يتلوث بالدماء . كان الاثنان يتقاتلان وكأنهما لا يُريدان أن يعيشان ..وفي الجولات التالية ، بدأ التعبُ والانهاك يقيـّد حركات ( منتصر ) ، بينما فاجأنا الخصم بأنه يزداد نشاطاً جولة ً بعد أخرى !.. وما ان حلـّّت الجولة العاشرة حتى انقضَّ هذا الديك على ( منتصر ) وكسرَ جناحه ، ثمَّ جثمَ فوقه وراح يفتك به ، وتركه بعد دقائق َ كوماً من الريش معجوناً بالدم ِ .. كوماً من الريش ِ كان في يوم ٍ من الأيام نابتاً على قمةٍ شاهقةٍ من قمم الأمجاد . وعلى الرغم من موته ، فأن جميع من حضر النزال سوف لا ينسون ، بل يتوجب عليهم أن لا ينسون كيف قاتل (منتصر )في لحظاته الأخيرة .. ففي تلك اللحظات كانت جوانحه تخفق بقوةٍ تحت ريش جناحيه ِ ، حيثُ ترسّخت في هذه الجوانح وتحت الريش المدمى، فكرة أنه مخلوقٌ للموت فقط ، ولهذا قاتل قاصداً الموت بلا تراجع ٍ .. قاتل كما لم يقاتل ديكٌ مثله من قبل ..
ولأول ِ مرةٍ في حياته عاد ( خلف الحجيّة )الى بيته من غير ديك !..في غمرة احساس ٍ بأنه فقدَ تاريخه البطولي بأكمله ، ولم يعد ذلك الضابط الصف الذي اجترح البطولات في أمَرِّ وأحلك الأيام !..
باركَ ( خلف ) فوزَ أصدقائه بروح ٍ رياضيةٍ عالية ، حين خرجنا من الحلبة . وفي طريق العودةِ وشى أحدُ المتفرجين لنا بأن أصدقاء ( خلف ) فد تحايلوا عليه ، وكانوا يزقـّون المنشطات في فم الديك خلال فترات الأستراحة !..
تلقى ( خلف ) الوشاية َ ببرودٍ ، وكأنه يتوقعها ، بل وكأنه يعرفها ،ولكن ما ان وضعَ قدمه على عتبة البيت ، حتى أخذ الهيجان العصبي يعصف به . ومنذ ُ منتصف الليل ، حيث انطلقنا في جولاننا ، وهو لا ينفكُ يعيد الى أذهاني أفكاره عن الشرف .. كان يستوقفني ملحّاً على سماع رأيي بصراحة !.. كان صاحب افتراض ٍ يخالف فيه الكثيرين .. انه يرى ان مفهوم الشرف يضيق في مجتمعاتنا ومدننا ، يضيقُ ويضيق الى الحد الذي يصيرُ فيه دائرةً صغيرةً تحيط بفرج المرأة فقط ، وخارج محيط هذه الدائرة لك الحق في أن تفعل ما تفعل ، وتظلّ شريفاً في نظر الآخرين ، ان العشرات من العوائل يُمارس الرجال فيها أنواع الموبقات ، الزنى ، السلب والنهب ، الرشوة ، التزوير ،والقسم بالأيمان كذباً .. ... وفي النهاية نجدهم شرفاء ، بحسب التقويم الاجتماعي ، لا لشيء الآّ لأن نساءهم كـنَّ شريفات ..
ان ما ظفرَ به أصدقاؤه ، هذا اليوم ، من نصر ٍ رخيص ٍ كان يُعزز أفكاره المشحونة .
وبعد أن ألحَّ عليَّ قلت له :
-أعتقد انك مصيباً نوعاً ما ، ولكن أنظر لننسَ هذا الموضوع .. ان الدنيا لا تنتهي بموت ( منتصر ) ، ان آلاف المنتصرين هم اليوم تحت التراب جراء الغدر والخيانة ، حقيقة ، انا واثق من قدرتك على رد الصاع صاعين لهم خلال زمن ٍ قصير .
كان واقعاً تحت تأثير حمى عالية ، وكان العرق يتفصد على جبينه الأحمر العريض ..يتلألأ تحت أشرطة الضياء التي نمرُّ من تحتها . وكان يتوقف ليبتلع حبةً خافضةً للحرارة .
كان الليـلُ خزفاً أسود َِ ذا رائحة ٍ غامضةٍ ، وكانت أرواحنا الخافتة تغالب الهمَّ والسهر الطويل . وكنا نجوب الليل بأصواتنا المكتومة وخطواتنا النحيلة االهادئة ،مثل القطط السائبة .
كان يشعرُ بأنه مخذول وحزين . ان رجلاً مثله ، شغوفاً بالطيور الى حدِ الهيام ،لا يمكن أن ينسى ، ولا أعتقد أنه سوف ينسى الأمر . كانت تعابيره حائرة ، وكانت نيران الأسف تأكل أطرافه .. أطرافه التي سعى بها طويلاً لتدريب أعظم الديَكة وأشجعها وبذلَ لأجله ثمناً باهظاً ..
كان يرشقني بنظرةٍ سريعةٍ ويقول :
-هل تحسب هؤلاء الأنذال الذين هاجموا الديك الأعزل بأكثر الحيل الشيطانية المخزيةِ جزءاً لا يتجزأ من شرف المدينة ؟..
كان مجروحاً ، تلقى صدمة تركت في نفسه آثاراً لا تحتمل ، ومن الصعوبة مداواته بالكلمات . وكلما سطع الضوء على وجهه الشارد كنت ألمحه مليئاً بحبات العرق ِ .
مضى الشطر الأكبر من الليل حين عدنا أدراجنا على شارع النهر . كانت بعض مركبات النقل قد توقفت جنب مقهى راح يفتحُ أبوابه ، بينما بدأ المسافرون يتقاطرون . طلب مني ( خلف ) أن نستريح قليلاً في المقهى . جلسنا فترة قصيرة كان خلالها سائق المركبة المتوقفة أمام باب المقهى قد بدأ ينادي كعادته : ( بغداد .. بغداد نفرٌ واحدٌ ..بغداد ) . اقترحت عليه أن نعود الى بيوتنا . وفي الشارع ، ما بين السيارة والمقهى ، أمسكَ ( خلف الحجيّة ) بذراعي وقال :
-الآن دعني أودعك .
فثارت دهشتي ، وسارعت أطلب منه أن أوصله الى بيته قبل أن أعرج الى بيتي . فقال :
-هذا لطفٌ منك .. ولكني اليوم سأودعك من هنا .
وقبل أن أردّ َُ عليه بكلمةٍ أخرى ، احتضنني بحرارةٍ وغمرني بقبلاته ،وكنت أحسّ بشيءٍ من الدموع على وجناته ..والتفتَ الى الخلف وقفزَ داخل السيارة ، التي سرعان ما أ ُغلِق بابها
وراءه ، لتأخذهُ بعيداً والى الأبدِ .

-------------------------------------
الشطرةـــــــــ 2008








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع