الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اقتصاد السوق وخرافة الكفاءة

رمضان متولي

2008 / 12 / 2
الادارة و الاقتصاد


خرافة أخرى كشفت عنها الأزمة العالمية الأخيرة ولكن حكومتنا مازالت ترددها من منطلق "إيماني" يعكس في حقيقته انحيازها لرجال الأعمال مهما كانت الكوارث التي يتسبب فيها اقتصاد السوق، ألا وهي خرافة "الكفاءة". تستند هذه الخرافة إلى فكرة ثبت خطؤها عشرات المرات تزعم أن الشركات التي تفشل في اختبار الكفاءة في إدارة رأس المال وعملية الاستثمار سوف ينتهي بها الأمر إلى الإفلاس والخروج من السوق لتحل محلها شركات أخرى أكثر كفاءة وأكثر قدرة على إدارة الاستثمار، مما يؤدي إلى تخفيض حجم الفاقد، سواء نتيجة لسوء الإدارة أو الفساد إلى الحدود الدنيا وتعظيم الثروة إلى أقصى حد ممكن.

واقع الأزمة الحالية يفضح هذه الخرافة بما لا يدع مجالا لأي شك إلا لدى هؤلاء الذين لا ينطلقون في فهم الأمور من دراسة الواقع الموضوعي وإنما تحركهم مصالحهم ومصالح الطبقة التي يمثلونها فيتجاهلون الوقائع الصارخة تحت تأثيرها – تماما مثل العاشق المراهق الذي يصنع هالة من الأوهام الوضيئة حول معشوقته فلا يرى إلا صورا لأوهامه.

وأهم مظاهر غياب الكفاءة والتبديد في الأزمة الحالية يتمثل في كمية العقارات التي أنشئت في الولايات المتحدة بما يتجاوز الطلب الفعلي عليها وقد تكلفت مليارات الدولارات ومازالت حتى الآن فارغة مثل بيوت الأشباح حتى وأن كانت شوارع المدن الكبرى مليئة بالمشردين.

هذه العقارات سارعت شركات البناء في إنشائها مدفوعة بالطمع والرغبة العارمة في جني الأرباح بعد أن ارتفعت أسعارها بمعدلات كبيرة رغم أن الطلب عليها كان ممولا بالقروض الرديئة لتفتح مجالا لنوع آخر من التبديد الهائل للثروة. فقد دفعت شهوة الأرباح السريعة والفائقة بنوك الولايات المتحدة وشركات التمويل العقاري إلى ضخ مليارات الدولارات في صورة قروض عقارية رديئة، تقدر قيمتها حاليا بحوالي تريليون دولار رغم أن القيمة الحقيقية لها غير معروفة حتى الآن، مراهنة بذلك على استمرار الارتفاع في أسعار العقارات. فحتى إن فشل العميل في سداد قيمة القرض سوف تصادر شقته وتباع بسعر أعلى بمنتهى السهولة!

هكذا عندما انهارت أسعار العقارات انكشفت فضيحة التبديد في قروض الرهن العقاري حتى خصصت الولايات المتحدة من أموال دافعي الضرائب 700 مليار دولار لشراء جانب من سندات الرهن العقاري مرتفعة المخاطر، وهي السندات التي حصلت على أعلى تقييم ائتماني قبل أن تتضح الأزمة لتكشف أيضا عن غياب الكفاءة في مؤسسات التقييم الائتماني التي يعتمد عليها النظام المصرفي، بل وتعتمد عليها الدول، في معرفة الجدارة الائتمانية للعميل وجودة السندات.

النموذج الثالث لغياب الكفاءة – أو لخرافة الكفاءة في اقتصاد السوق – يتضح في انهيار الثقة في القطاع المالي كله نتيجة لهذه الأزمة مما أدى إلى تفاقمها وفشل محاولات الدولة والبنوك المركزية في مواجهتها. وتجلى هذا الانهيار في تردد البنوك وإحجامها عن الإقراض لأنها لا تعرف حجم أزمة القروض الرديئة بالتحديد وعجز البنوك عن الحصول على السيولة اللازمة لإدارة نشاطها بسبب امتناع البنوك الأخرى عن إقراضها أو شراء سنداتها خوفا من أن تكون متورطة في سوق الرهن العقاري. أدى ذلك إلى إفلاس بنوك عملاقة مثل بيرستيرنز وليمان براذرز في الولايات المتحدة وبنك نورثرن روك في بريطانيا، علاوة على بنوك أخرى مثل سيتي جروب – أكبر بنك في العالم – تدخلت الحكومة الأمريكية بخطة لإنقاذه من الإفلاس.

ورغم ضخ مليارات الدولارات في القطاع المصرفي وتأميم البنوك جزئيا، استمرت أزمة الائتمان ليمتد تأثيرها إلى جميع القطاعات الاقتصادية الأخرى نظرا لمحورية دور البنوك في النظام الاقتصادي. وهنا تكمن الطامة الكبرى لغياب الكفاءة في هذه النظام، حيث يمكن أن تنتشر الأزمة مثل النار في الهشيم ليتجاوز حجم الإهدار في الثروة حدود الخيال. شركات لا تستطيع أن تجد التمويل اللازم لأنشطتها فتلجأ إلى إغلاق المصانع التي تتحول بمرور الزمن إلى خردة لا قيمة لها، وتطرد العمال الذين يصبحون طاقة مهدرة تتحول من قوى إنتاجية إلى أياد متسولة، فينخفض الطلب على منتجات الشركات الأخرى ويدخل النظام الاقتصادي في دائرة الركود الجهنمية. تزاداد البطالة والطاقة الإنتاجية المعطلة إن لم يتطور الأمر إلى التدمير المباشر للثروة المادية والبشرية للحفاظ على النظام.

أين هي إذن الكفاءة التي يزعمون؟ إن بنوكا أهدرت مليارات الدولارات سوف يتم إنقاذها بمليارات أخرى حتى لا يؤدي إفلاسها إلى شلل كامل في النظام الاقتصادي، وشركات مثل شركات السيارات الأمريكية العملاقة تغلق مصانعها وتطرد العمال لأنها أنتجت كميات هائلة من السيارات التي لا تجد من يشتريها وأهدرت موارد طبيعية ومالية وبشرية هائلة في إنتاجها. أي كفاءة في نظام يحول ثروة المجتمع وجهد أبنائه إلى كتل أسمنتية تسكنها الأشباح والخفافيش بينما ينتشر المشردون على أرصفة الشوارع؟ أي نظام هذا وأي كفاءة هذه التي تعطل الإنتاج والنشاط الاقتصادي للمجتمع إن لم يكن في هذا الإنتاج وذلك النشاط نصيب الأسد لمن لا ينتجون ولا يعملون؟

حقيقة الأمر أن الكفاءة هنا تعرف من منطلق الانحياز لمصالح رجال الأعمال، فيصبح معناها فقط تعظيم أرباحهم بغض النظر عن تخصيص أمثل للموارد أو إدارة النشاط الاقتصادي بهدف تعظيم ثروة المجتمع وتحقيق الرفاهية لأفراده.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الجمعة 10-5-2024 بالصاغة بعد


.. خبراء: الحكومة الفلسطينية الجديدة تواجه أزمة اقتصادية متراكم




.. ما تداعيات تهديد بايدن بوقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل على ع


.. الحرب على قطاع غزة تدفع إسرائيل لزيادة الضرائب على مواطنيها




.. «فريزونر» تنظم مؤتمر -الاستثمار في المثلث الذهبي- لمناقشة فر