الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دكتور القرية

شاكر خصباك

2008 / 12 / 2
الادب والفن



كان المطر يهطل بغزارة ، والرعد يقصف مدوّيا ، والبرق ينير لي الأزقة المظلمة الموحلة التي خبت ذبالات فوانيسها فلم تعد تنير غير زجاجها المحطم القذر . وكانت قدماي تغوصان في الأوحال فيتعذر عليّ السير . وأخيرا بلغت مسكن الدكتور . وكانت دار الدكتور قائمة في طرف القرية بجوار المستوصف الحكومي يحيط بها فضاء واسع يترامي على مدّ البصر . فكانت منعزلة عن بيوت قرية المحاويل كأنها تترفع عن مجاورة بيوت مبنية من الطين وهي المشيدة بالحجارة الصلدة .
طرقت الباب بالمطرقة الحديد فلم يجبني أحد . فكررت الطرق حتى تناهى إلى سمعي صوت يهتف مغيظا : من أنت ؟
فهتفت : افتح لي الباب يا دكتور .
وسمعت سيلا من اللعنات ثم فتح الباب وظهر الدكتور وهو يحمل مصباحاً زيتيا ينير المدخل . وما أن لمحني على ضوء مصباحه الخافت حتى قال في امتعاض : أدخل .
خطوت إلى داخل المنزل وأنا أمسح عن ثيابي ما تجمع عليها من قطرات المطر . نظر إليّ الدكتور باستياء وتساءل بجفاف : ماذا تريد ؟
فقلت : توجد فتاة على فراش الموت وهي في حاجة إلى مساعدتك يا دكتور . فهل ستصحبني لنجدتها ؟
_أصحبك لنجدتها ؟ سأكون حمارا لو خرجت معك في مثل هذا الجو .
_عفوا يا دكتور . أنت مجنّد لخدمة الإنسانية ولا يصح أن تتخلى عن واجبك المقدس في إنقاذ نفس مشرفة على الهلاك 0
-قلت لك لن أذهب .
_لكن ذلك غير ممكن يا دكتور . فالفتاة ..
قاطعني الدكتور في عصبية : الفتاة حمار 0
قلت مغيظا : ما هذا يا دكتور ؟! أكل شيء حمار في نظرك ؟
-نعم ، عندما يستثيرني حمار مثلك .
وصمت لحظات ثم قال : لماذا وقفت هنا ولم تدخل الغرفة ؟! حمار !
تقدمني إلى باب على الجانب الأيسر من الرواق ودفعه ودخل أمامي فتبعته . وانتبذت مقعدا في ركن من الغرفة وجلس هو قبالتي وأشعل سيجارة وراح يدخن صامتا وكأنه نسي وجودي !
- أرجوك يا دكتور .. الأمر خطير . حرام عليك أن تترك للموت شابة في عزّ شبابها .
- أهي شابة ؟ إني أعطف على الشابات . كانت لي بنت شابة وماتت .
- إذن لا شك أنك ترأف بحالها . فلنذهب الآن فربما ماتت إذا تأخرنا .
- إذا ماتت فالله يرحمها .. ولكن من قال إن موتها سيغيرّ في الأمر شيئا ؟ فالأمر سواء بالنسبة لأهالي هذه القرية الحقيرة أعاشوا أم ماتوا !
- بربك عجّل يا دكتور .. إنني تركتها في حالة خطيرة .
- لا داعي للعجلة أيها الشاب . إذا كان مقدّرا لها أن تموت فستموت صحبتك أم لم أصحبك . ويجب أن ننتظر انقطاع المطر فلا يمكن التنقل في أزقّة القرية في هذا المطر اللعين .
- وهل سنضيع الوقت هكذا إذن ؟
- لا , لن نضيع الوقت . سأروي لك قصة حياتي لتكون عبرة لك .وسأحكي لك كيف أصبحت دكتورا تتوقف حياة أهل المحاويل على براعته . واعلم أيها الشاب أنني ابتدأت عملي في مهنة الطب كمتدرب في مستوصف الحلة . ونبغت في عملي حتى أصبحت شخصا يشار إليه بالبنان . لا تيأس أيها الشاب إن أصابك الخذلان وشمّر عن ساعد الجدّ وخض غمار الحياة معتمدا على ذكائك . إن ذكاء الإنسان سلاحه الثمين في معركة الحياة . خذ من حاضري قدوة لك . فإن صبري واعتمادي على ذكائي أوصلاني إلى هذه المكانة المرموقة . وقد نلت لقب دكتور بجدارة يشهد لها الجميع . فأنا لا أمتنع عن معاجلة مريض مهما يكن مرضه معتمدا على القول المأثور " الحياة تجارب " .
قاطعت الدكتور في توسل : إذا كنت تدرك واجبك فلماذا تتباطأ في الذهاب معي ؟ دكتور .. قد يكون الموت اختطف الفتاة الآن .. حاول أن تنجدها قبل أن يضيع الأمل .
- لماذا تتعجل الأمور أيها الشاب ؟ ما زال أمامنا وقت كاف . وكما قلت لك إذا كان مقدرا لها أن تموت فستموت صحبتك أم لم أصحبك . لا تقلق ، فسأصحبك حالما ينقطع المطر .. ولكن تمهل فلعل المطر انقطع الآن .
نهض الدكتور إلى النافذة المطلة على الطريق وأزاح الستارة عن الزجاج وألصق به أذنه يتسمع في انتباه . ثم فتحها ومدّ يدا مبسوطة في الفضاء وهز رأسه قائلا : أعتقد أن المطر انقطع .
ثم التفت إليّ وأضاف : سأرتدي ملابسي وأرجع إليك فما زال عندي كلام كثير ويسرني أن أعثر على شاب يحسن الإصغاء مثلك .
ما كاد الباب يغّيب الدكتور حتى تنفست الصعداء كأنني ألقيت عبئا ثقيلا عن كاهلي . ونهضت أذرع الغرفة وصدري يكاد ينفجر ضيقا . وانقضت دقائق ثم ظهر الدكتور وهو يحمل حقيبته الطبية . وهتف بي متعجلا : هيا أيها الشاب .
غادرنا المنزل بخطى سريعة ، لكن الأوحال خففت من سرعتنا ، وإذا بنا نسير ببطء وأحدنا يمسك بيد الثاني ويسنده إن زلقت قدمه . والتفت إليّ الدكتور بعد حين وقال : أنت شاب وقوي أيها الفتى ومع ذلك تعجز عن مغالبة هذه الأوحال . فكيف بي أنا الذي قد أكون في سن أبيك ؟ لكنني على أية حال تعودت مصارعة الحياة في هذه القرية البائسة . ولا تسلني عن المتاعب التي عانيتها فيها . لا.لا. لن أحدثك عنها . كفاك علماً أنني أدير مستوصف القرية وحدي ، إلا إذا حسبت مساعدي الخائب إنساناً يعتمد عليه . وفي كل يوم يزور المستوصف أعداد كبيرة من القرويين تزدحم بهم البناية ولا ينفع معهم الطرد . ومهما صرخت وهددت فلن يؤثر فيهم ذلك . ولا أدري كم كان سيكون عددهم لو لم يكونوا يخشونني0 فهيبتي عظيمة عندهم ، والبعض منهم يقف أمامي وهو يرتعد خوفاً . لكنني على أية حال اتبعت طريقة مختصرة في فحص المرضى وإلا ما كان بمقدوري علاجهم . فما أن يقف المريض أمامي حتى أساله : " ماذا بك ؟ " فإذا أجابني : " عندي حمىّ يا دكتور " ناولته حبوب الأسبرين . وإن أجابني : " أكح يا دكتور " ناولته شرابا خاصا بالسعال . وأصارحك أيها الشاب أن مهنة الطب ليست صعبة لولا ان الناس هنا حمير لا يفهمون 0 غير أن أرباحها شحيحة 0 فالقليلون ممن أشفيهم يحضرون إلى بيتي هداياهم من الدجاج والبيض والخضر والفاكهة ، ونادراً ما حضروا لي خروفاً ..
قاطعت الدكتور برفق: لكنك تعلم يا دكتور أن الفلاحين أناس فقراء مسحوقون وبالكاد يدبرون لقمة العيش 0 وأنت لست محتاجا لهداياهم فلك راتبك من الحكومة .
فلوح الدكتور بذراعيه في الهواء محنقاً وهو يهتف : وهل تتصور أن راتب الحكومة يشُبع.
وقبل أن يتم عبارته ترنح بشدة، وحاولت أن أسنده لكنني انزلقت معه وهوينا معاً في الوحل. فانطلق يسبّ ويشتم . فساعدته على النهوض ومسحت عن بدلته ما تراكم عليها من وحل . وتفقد حقيبته فإذا بها تطفو في وحل متجمع على بعد أمتار . التقط الحقيبة حانقاً وبصق أمامه وهو يدمدم : لعنة الله على المرضى والممرضين والدكاترة أجمعين .
واصلنا المسير والدكتور يعرج عرجاً خفيفاً ، واستمسك بصمته وهو عابس الوجه . وسرني صمته وحسبت أنني قد تخلصت من ثرثرته . لكنه رمقني بعد حين متفحصاً وتساءل:مظهرك لا يبدو قرويا أيها الشاب . أليس كذلك ؟
-فعلا يا دكتور .
_حمار ! ما الذي أتى بك إلى هذه القرية البائسة إذن ؟
- لي أقرباء هنا هم أهل الفتاة المريضة . وقد جئت أمضي معهم بعض الأيام ترويحاً عن النفس فوجدت فتاتهم مريضة جداً . وأخبروني أن طبيبها هو سيد محيسن 00
قاطعني الدكتور مغيظاً : تصور أن سيد محيسن هو منافسي في المحاويل .. تصور ! شخص جاهل لا يعرف من الأدوية سوى التعاويذ وأكياس الحرمل ينافسني ! ألم أقل لك إن أهل المحاويل حمير لا يفهمون ؟
قلت برفق : أعذرهم يا دكتور فأنت تعاملهم بشدة وهم يتهيبون لقاءك .
_وماذا افعل لهم إذا كانوا حميراً ؟ الشدة ضرورية معهم وإلاّ فلت الزمام مني.
-على كل حال كان لابد لي من الحضور إليك يا دكتور فلعلك تنقذ حياتها قبل فوات الأوان .
_أحسنت صنعاً أيها الشاب في الاستعانة بي ، وسيتم شفاؤها على يدي إن شاء الله.
وكنا قد اقتربنا من الدار فترامى إلى مسامعنا ضجيج بكاء وعويل ، فارتجفت خشية أن يكون المحضور قد وقع . والتفت إلى الدكتور فقرأ في نظراتي مخاوفي فقال في ثقة : اطمئن .. اطمئن .
وبلغنا الدار فملا أسماعنا الصوات والنحيب . فالتفتّ إلى الدكتور وقلت غاضباً : إن خوفك من المطر وثرثرتك عن تجاربك قد ضيعا على الفتاة حياتها .
فرمقني في استعلاء وقال: من يدري ؟ لعل قيمة هذه التجارب أنفع لك من حياة المرحومة. وعدا ذلك فكلنا للموت ولا ينفع طب إذا حضر الأجل .. البقية في حياتك .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من


.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري




.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب


.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس




.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد