الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القصيدة الأخيرة

جهاد صالح

2008 / 12 / 3
الادب والفن


عام ونصف العام مضى ،حين كُتب على الجبين الرحيل القسري، وأصبحت أوراقي المترعة بالحزن تحملها الريح من منفى إلى منفى، حيث كانت حكايات وقصص وأحلام اصطدمت بالجدار قبل أوان الرحيل من جديد.
ها أنا ذا انكسر كالمطر حين يرمي بجسده إلى الأرض لينشطر جزيئات جزيئات، ويختفي كل شيء في هوّة الصلصال وعمق الألم النازف، ليتحول المشهد إلى مأساة بلا وطن، ولا عنوان، ولا نهايات......
لكم كنت مثقلة يا بيروت، والحرية لطمتنا دائما نحن السوريون أيتام الكون، لم تستهويني بأي شيء، سوى الدهشة والغرابة، في أرض هي مملكة الطوائف والقبائل والبرجوازيات الطفيلية، وحديثوا النعمة وجنرالات الحرب الجشعون، والقتلة الذين تحولوا لساسة على مائدة الكعكة الشهية. بيروت جميلة بأزقتها وشوارعها وحزنها الأزلي وبحرها الذي يخفي سرّه، والكلمة التي اشرأبت في نار الملوك وفقدت أجنحتها، ولم يبقى في تلك الساحة إلا تمثال برونزي لشهيدها الذي اختفى في حلمه وتدثر بحبر القلم، وما زال الحلم يركض وراء الحرية وخبز الدولة.
شهور كانت طويلة جدا، وأمل ظل ينقر نافذتي ويمسح عن زجاج العين كل غبار الطغيان، وإن النهاية قادمة لا محالة.
لكم كان الزمن والمكان أسيران تحت الجلد،والدم مستنفر اللحظة والوهلة، والخوف هائم في جلبابه وراء ظلالي المنكسرة، والريح سيوف تشتهي قطع الرقاب والأصوات، التي نادت وصرخت الحرية والوطن والإنسان والشعر والحب وشجر الرمان والياسمين الأبيض،وطفولة لا بد أن تعود ببراءة، ورعشة فرح شاعر تحت الوارف من ظلال التفاح الأحمر والأخضر، وزهر الليمون ،ونفحة العنب عبر سهول الجزيرة،وسحب تحملك على ظهرها بجسارة الآباء الغيارى.
في بيروت كان الوطن وراء الأسلاك صامت في نزيف الجرح، والكأس تمتلأ بنبيذ النزعة الأولى والأخيرة، والحبر في شريان القلم كان دائما يرتعش في حضور الفكرة ووجع الورق، حين احتراق الروح في سبيل غاية بعيدة. أما القلب اليتيم الذي تهاوى منذ زمن في انكسارات متتالية، منذ الطفولة وحتى آخر نظرة من السماء على جغرافيا الجذور، كان الجرح في وريدي ينادي،سنرجع يوما مهما مر الزمان، فهل سنعود؟ والقلب يغني : أهواك بلا أمل وعيونك تبسم لي.
واصرخ في القلب مهلا لاتركض ، هناك صوت أنثوي عذب ( لغزالة) تناديك من وراء المجرات، يرسم لك حلما يختصر المسافات والسنين، وفجأة ترتعش رعشتك الأخيرة وتكتشف انك تحلم،كابوس،سراب، ولعبة كانت بريئة،وطفلة تعبث بالأعماق وتضغط على الجرح،ولكن لن يتوقف النزيف، وتبقى اللوحة صامتة حيث النهر والحمامات ومشهد الكوخ الأبيض من نافذة تطل على العالم كله، وتتوه القصائد والأماني في غيمة كانت نجمة ورحلت في ضوضاء الروح، ولنظل ننتظر ذلك الحلم الجميل القادم من وراء البرّ والبحر والمحيط، ولكن كانت الأقدام والقلب والذاكرة تسير إليها،إليه،إليهم بصوت ينادي في همس ارجواني، قد تكون هناك مفاجأة وشجرة ميلاد جديدة،وهدية بورق جميل وشرائط ملونة ،وحب كبير،وبراءة في شتاء قارس،حينها قد تنسى بعض النزيف وبعض الجراح، وتكتب أول قصيدة في وطنك الجديد .
الكبرياء ونزق الرجولة وجلجلة القوة في أن تغير العالم، فقد أحرقت أزمانا وأمكنة،وحطمت متاهات الخوف،ومرّغت أنف الطغاة وجلادي الشعوب في الوحل، فكيف لك أن تخشى الأرض الجديدة،والسماء الكبيرة، والحرية التي تناطح الرؤوس الكثيرة، إلى جانب حمامة بيضاء تحمل سنبلة وزيتونة لا شرقية ولا غربية، وشعر وقصائد من زمن الأنبياء، ستهمس في روحك من الحين إلى الحين. كل هذا يجعلني فارس من هذا الزمان.
لا أستطيع أن أخفي الدمع والألم وانكسارات الظلال حين الرحيل، فالمرء يصبح كتلة من المأساة الإنسانية،حين لا تجد مع حقيبتك، وقريبا من الطائرة إلا الفراغ والعدم، حين يختزل المشهد كل التعابير والأحباء في جملة واحدة( الوطن المختار)، وأقسى النزوع حين تقف في منتصف المطار وحيدا،يتيما،شريدا،محطما،بائسا،طفلا صغيرا بحاجة إلى ابتسامة، وقصيدة لا تعرف كيف تصوغها، في رجفة الجسد،ورفة الروح،وهدير الوحدة،ورجفان القلب ،وارتجال الغربة والمنفى المختار،تلوح بيديك ، تحمل المناديل المثقلة بشهوة الدموع،لا تجد أمّا تبكيك،ولا أبا يوصيك بوصاياه الهادئة، ولا ابتسامات الإخوة والأخوات،ومحبة الأصدقاء، ليس هناك سوى صرخة صامتة وجرح يفتح فمه في أوسع امتداده.
مؤلم حين تنشطر نصفين في لحظة واحدة،لتصبح جسدين وروحين، حين تحلّق بأجنحتك الكبيرة والخاملة، دون أن تحظى بالمحبة ورائحتها وطعمها وتجلّياتها، انكسرت كعصفور صغير في روحي البيضاء، داخل قفص غير مرئي، ما بين حمامة تعششت في أزمنتي وتركتها في سحر القاهرة،ولم أسمع من صوتها الهادر، إلا كلمات ودموع هطلت بغزارة المطر،وأمنيتي في أن التقيها يوما في ارض وزمن ما، وحمامة أخرى تعشش في روحي وتنبعث من زغبها حكاية وطن ورائحة طفولة، اخجل من دمعي أمامها،حتى لا تشعر بانكساراتي، وتمسح عن كبريائي كل الحزن المتراكم، فهي كانت وستظل حمامة الحرية والحب والياسمين والجذور الأولى والأمل اللامتناهي............. في الوطن..
ها أنا ذا استجمع ما تبقى من ظلال ارتعشت في برد المنفى، واكتب على الأرصفة حكاياتي، وصوت فيروز يغني ليهدأ من لوعتي في البحث عن طريق جديدة، أسير فيها دون معرفة بالاتجاهات والعناوين وطقوس المكان، وما يشعرني بالدفء هي الذكريات والأمنية الواسعة.
أبتعد عن الجذور، عن لمسات الطفولة، عن رائحة أمّي، وغياب أبي الطويل،ومشاكسات الإخوة اللذيذة، ووجوه البائسين ممن يهتفون للنهايات في مسافات البلاد البعيدة، وتتساقط الدموع على مفاتيح اللوحة،ولا تجد من حولك من يأخذك بالأحضان لتخفي وجعك الإلهي في لمسة الحب والحنان، وتتسارع الصور والمشاهد كشريط سينمائي سريعا من الطفولة إلى اللحظة المؤلمة، لكم تمنيت أن أرمي بنفسي في طين الموت وأختفي عن العالم، لأنني أخجل من دمع أمي وأبي وإخوتي وأصدقائي وأعز الناس عندي أن يشهدوا انكساراتي وضعفي في منتصف الطريق.
لقد أعلنت عن موتي وقيامتي، وحين أبتعد عن بيروت أكون رجلا أخر وظلا جديدا، وأركض مع أحصنتي إلى بلاد الإنسان والحرية، لأنسج حلمي في محبة وحنان.. صديقة.. صديق... أمل...إرادة، وأزرع في الإسفلت زهرة، وأرسم بإصبعي وجه محبوبتي على الزجاج، وأكتب القصيدة الأولى بعيدا عن القصيدة الأخيرة، لأصرخ في العدم، هكذا أنا إنسان طيب، وقلب يحلم بالوطن والحرية والحب والتفاح والزهر بصوت عالي وصخب بريء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم


.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في




.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش