الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايات من بلدتنا

شاكر خصباك

2008 / 12 / 4
الادب والفن


رواية
الطبعة الأولى 1967
مقدمة
الرواية الشظية
بقلم: غسان كنفاني
من الذي يجرؤ على القول أن بعض الكتب ليست في الواقع إلا مخالب تنبثق من المجهول، تمزق وتجذب وتقلب، وتحوّل وتسحق وتنهش كأن القارئ قد خُطف فجأة إلى عالم من الزلزال لا حدود له؟
أجل بعض الكتب ليست إلا مخالب وثغرات ولعنات تدخل إلى الصميم وإلى الأعماق، تبدو أحياناً وكأنها رسالة شخصية من رجل يعرفك حق المعرفة، وكان طول الأعوام التي مضت يراقبك عن كثب كأنه ضميرك المستتر. وفجأة حين تحسب أنك في منجى من الحساب تصلك منه رسالة شخصية يفتح داخلها دفتر الحساب من أول صفحاته إلى آخرها ويصفعك.
هذا ما يمكن أن يوصف به كتاب الدكتور شاكر خصباك "حكايات من بلدتنا". إنه قصة بلدة يعيش شبانها على انتفاخات الكبرياء والأوهام الأقرب إلى الأحلام. وفجأة يغتصب البرابرة البلدة وراء زئير رشاشاتهم وينتهكون كل قيمها دون أن يتصدى رجال البلدة للدفاع عنها. ويوماً بعد يوم تمتد مخالب البرابرة لتدمر قيمة وراء قيمة في حياة البلدة. ويحفل السجن الكبير الذي يبنيه الطغاة فوق تلة تشرف على البلدة بالمعتقلين من شبان البلدة وشاباتها الشجعان يلاقون داخل جدرانه الغامضة مصائر هي كل شيء إلا العودة إلى البلدة.
تحت سياط وأحذية الاستخذاء تنسحق كرامة البلدة وتزهر في كيانات سكانها زهور الجبن والخوف. ومع غياب كل شمس يحتل البرابرة مساحة جديدة من كبرياء سكان البلدة وأحلامهم وكرامتهم وقيمهم.
إن الرجال الذين يسوقهم البرابرة إلى الموت كل يوم في الواقع تكوينات من لحم ودم ولكنهم جزء من كفاءة البلدة على التمسك بقيمها ومطامحها وحريتها. الاسم عند شاكر خصباك ليس هدية شخصية ولكنه قيمة إنسانية ووطنية. ولذلك فحين يطلق البرابرة رصاص رشاشاتهم على رجل ما فإنهم إنما يغتالون مساحة من تاريخ البلدة ومن مبادئها.
وتمضي الرواية من فصل إلى فصل في عرض عتوّ البرابرة المتزايد أمام تراجع الكرامة المتزايد. وفي مكان ما من الرواية يحس القارئ أن شيئاً ما قد انكسر، ووصلت الأحداث إلى "ذروة" غريبة هي مفترق مرير بين أن يقبل سكان البلدة مبدأ قبول الطغاة، وبين أن يتجاوزوا رفضه إلى مستوى التعبير عن هذا الرفض.
ولكن الرواية تتركنا في كلماتها الأخيرة معلّقين على ذلك المنعطف المر. تتركنا؟ كلا! إنها تترك فينا ذلك الوخز العميق الذي يشبه الشظية.
ما الذي حدث في السجن الكبير فوق التل؟ حتى متى سيظل شبان تلك البلدة يساقون إلى العذاب وإلى الموت، أو إلى الخضوع والخوف؟ حتى متى سيظل المنطق الأقوى هو منطق الرشاش؟ متى سيهزم رجال البلدة المسحوقة أسوار خوفهم وأسوار السجن ويكفوا عن الاحتماء بملاجئ وهمية يسمّونها الانتظار حينا ورأفة القدر حينا؟ أية بلدة هذه التي يستكشفها الدكتور شاكر خصباك؟ جغرافيا يبدو أنها العراق.. سياسياً ليست إلا فلسطين. إنسانياً ليست أبعد من ذلك الصراع المرير الذي يجري داخل مطلق الإنسان. تاريخياً ليست إلا سؤالاً فنيا00ً هي في الواقع عمل جيد. ولكن الحقيقة هي أنها كل ذلك معاً.
إن العمل الفني -استطرادا- هو محصلة الفعل وردة الفعل، فعل العمل الفني ذاته وردّة فعل قارئه. في أحيان كثيرة يدخل عنصر ثالث إلى هذه المعادلة المبسطة وهو عنصر "الجو الزماني والمكاني" الذي تجري من خلاله عملية التزاوج بين الفعل وردّة الفعل. بالنسبة للرواية التي بين أيدينا الآن تتفاعل هذه العناصر الثلاثة باتساق ممتاز. فبين الفعل وردة الفعل يوجد عنصر التوقيت الذي يعطي العمل الفني قيمته واستجاباته. لقد وجه الدكتور شاكر خصباك مخالب روايته إلى كتلة نفسية حساسة يسهل الغوص فيها وشقها. هذه الملاحظة ترمي إلى القول بأن الرواية قد تكون محط خلاف في بعض الجوانب. ولكن الحقيقة هي أنه يجب أن نجرؤ على القول بأنه لا يوجد شيء اسمه عمل فني مطلق. فما هي القيمة الفنية المجردة مثلاً لخطاب الحجاج بن يوسف "أنا ابن جلا وطلاع الثنايا" إن لم تنزل في مكانها من الجو الزماني والمكاني الذي أعطاها رنينها وعناصرها المعنوية وكساها بمعناها الأعمق من مجرد مستواها الفني؟
ولذلك فإن رواية "حكايات من بلدتنا" رواية ناجحة نتيجة لقياس معين ولكنه واقعي وثقيل ولا يمكن تجاهله. فلو نشرت وقرأت عام 1940 لكانت ربما أقل قيمة، ولكن حين تقرأ الآن فإنها ليست أقل من كأس من الكحول تفرغ فجأة فوق جرح جديد. وثمة فارق كبير لو أن تلك الكأس دلقت فوق جسد مجروح.
إنها رواية – مخلب، كفّ يصفع بشدة، إهانة، دعوة، علامة استفهام حادة مثل عقفة السكين. وفي الفصل الأخير منها، حين يضحى "الانتظار" كابوساً معيناً لا قدرة له على الفداء ولا على النوم، يشعر القارئ بالدموع تملأ حنجرته، ولكن – أيضاً – بأن الفصل الحادي عشر في حكايات بلدتنا لم يكتب بعد.
1967
غسان كنفاني

الحكاية الأولى
البرابرة يغتصبون بلدتنا
كانت بلدتنا وادعة وكان حبها يعمر قلوبنا. وكثيراً ما هتفنا ونحن نخترق شارعها العام المظلل بأشجار النخيل: "ما أحلى بلدتنا!". فالنهر يقدم من أعلى الجبال غاضباً هادراً وما أن يشارف بلدتنا حتى ينساب بهدوء وكأنه يستلقي على صدر أم رؤوم!.
وكانت بلدتنا تبدو في أجمل أوقاتها قبيل الغروب. فقد كانت فتياتها يتهادى في الشارع العام بوجوه مشرقة وبسمات خفرة. وكان الشارع يزدحم بنا – نحن الشبان – ونحن نتنزه جماعات جماعات. وكنا نختلس منهن نظرات عجلى هي كل زادنا في الحب! وكنّ يتبادلن الهمس كلما تلاقت عيوننا وعيونهن. لم تكن همساتهن تبلغ مسامعنا لكننا كنا نطرب لها.
وحين يتعالى آذان الغروب ويتردد صداه في أرجاء البلدة تفيض الطرقات والأزقة بسيل الصبيان العائدين إلى منازلهم بعد أن فرغوا من لهوهم.
وتنقطع أحاديث العجائز اللواتي كنّ يتحلّقن أمام بيوتهن منذ العصر ويرددن الآذان بأصوات خفيضة. ويتبادلن تحيات الوداع ويتوارين في دورهن. لكن الحاجة أم مهدي كانت تظل واقفة حينما تلمحني مقبلاً . وكانت نظراتها المحبة تصاحبني حتى مسكني، ثم تهتف بحرارة وهي تدخل منزلها: "محروس بسور سليمان". فالحاجة أم مهدي صديقة حميمة لجدتي.
وعند حلول الظلام تصمت أسواق بلدتنا وتغلق حوانيتها وتدب الحياة في مقاهيها. وتكتظ المقاهي على ضفة النهر والشارع العام بأبناء بلدتنا. وفي مقهى شلتاغ كان العوام يتبادلون الحديث عن أعمالهم وعن مصاعبهم الحياتية. وكان عبد العباس الخبّاز يتصدر دائما المقعد الطويل أمام باب المقهى يحيط به جماعة لا ينقطع ضجيجهم وهم عاكفون على الطاولي و"الدومينو".
وفي قهوة الشمس كانت صيحات شبان بلدتنا تتعالى وهم يتناقشون في السياسة. وكانوا يؤكدون لبعضهم بعضا أنهم سيحمون بلدتهم من المعتدين إلى آخر رمق. لكن صخبهم ما يلبث أن يخفت حينما يتبادلون الأسئلة عما إذا كانت ليلى قد ردت على بسمة محمود؟ وهناء.. هل بادلت خليل النظرات؟ وزهراء .. أتحب سالم حقاً؟
كان ذلك قبل أن يغتصب البرابرة الطغاة بلدتنا. وكان البرابرة الطغاة يهددون بلدتنا بالويل والثبور منذ استعاد العوام كرامتهم . وكنا نقهقه عالياً كلما تناهت إلينا تهديداتهم. كنا واثقين أننا سنسحقهم لو تجرؤا على مس بلدتنا بأي أذى. كان كل واحد منا يؤكد للآخر أنهم لن يفلحوا في قهر بلدتنا إلا على أشلاء جسده !
وذات صباح دوّت شوارع بلدتنا بأزيز الرصاص وعجّت بزئير البنادق. فترددت بيننا همهمات فزعة: "لقد اغتصب البرابرة بلدتنا".
وهرع إلى الشوارع نفر قليل من الشبان الشجعان لمواجهة البرابرة الطغاة فتساقطوا صرعى برصاصهم. وسرعان ما لاذ الجميع ببيوتهم وأوصدوا أبوابها. وخرج الأعيان إلى الشوارع يهزجون طرباً ويعانقون البرابرة ويشدون على أيديهم فرحين مستبشرين.
وخيم على بلدتنا صمت حزين. سكنت أزقتها من صخب الصغار اللاهين. أقفر شارعها العام من الفتيات والفتيان المتنزهين. خلت مقاهيها من الرجال والشبان المرحين. وانبث البرابرة الطغاة في أرجاء بلدتنا، واحتلوا رؤوس الأزقة ونواصي الشوارع وقلوب الميادين. وكانوا يتنكبون بنادقهم ويسددونها إلى صدورنا!
وقال حكماء بلدتنا: "ما لنا والبرابرة إن لم يتعرضوا لنا بسوء؟".
وعاود الجميع في الأيام التالية أعمالهم في الأسواق والدوائر الحكومية والمدارس. وتظاهروا كأن شيئاً لم يحدث وكأن البرابرة الطغاة لم يغتصبوا البلدة! وكان يمكن أن يقنعنا حكماء بلدتنا أن البرابرة ليسوا برابرة بعد كل شيء لو لم يقع ذلك الحادث لحطحوط الأهبل. وكان حطحوط الأهبل مَعلَماً من معالم السوق الكبير. فكلما مرّ في السوق تراكض وراءه الأطفال مرددين: "هوب.. هوب" فيجري أمامهم مهرولاً لا يلوي على شيء. وفي ذلك الصباح هرول حطحوط الأهبل كعادته أمام الأطفال وهو يستمع إلى هتافهم. وصاح به البرابرة : "قف" لكنه لم يقف، فليس من عادته أن يتوقف طالما تردد في سمعه هتاف الأطفال. وإذا بسيل من الرصاص ينهمر عليه فيخر صريعاً. وقال البرابرة متوعدين: "سيلقى كل من تحدثه نفسه بالهرب نفس المصير".
وقال حكماء بلدتنا: "البرابرة الطغاة لا يحبذون السير السريع وسنتجنب أذاهم لو امتثلنا لأوامرهم".
وعند الغد أخذ أبناء بلدتنا يمشون الهوينا في الشوارع والأسواق والميادين. كان في الحق مشهداً مضحكاً، غير أننا فقدنا القدرة على الضحك. فلقد بدا كأن أبناء بلدتنا يتسكعون بينما كانوا ماضين في الحقيقة لإنجاز أعمالهم المستعجلة! لكن البرابرة الطغاة غضبوا لهذا التصرف وصرخوا في وجوهنا: "لماذا لا تسرعون في سيركم أيها الجبناء؟" ودفعوا بعضنا بأعقاب بنادقهم ليسرعوا في سيرهم.
وأدرك أبناء بلدتنا بعد حين أن البرابرة برابرة وأنهم لم يسلموا من أذاهم حتى وإن دانوا لهم بالطاعة. فقد أعلنوا ذات يوم أنهم اكتشفوا مؤامرة ضدهم وأنهم سيعتقلون المشتبه بهم في البيت فوق التل.
وكان البرابرة الطغاة قد اتخذوا البيت فوق التل الذي كان مثار إعجابنا مقراً لهم. ومنذ أغتصب البرابرة الطغاة بلدتنا كان البناءون يتسلقون التل كل صباح وينهمكون في عمل متواصل. ولم تنقضِ أسابيع حتى تشامخ بناء قبيح ذو جدران سود ونوافذ حديد بدلاً من البيت الجميل. كانت نوافذه العالية الضيقة كأنها أحداق الشياطين تتشوف إلينا من عل. وكانت أبوابه السود الضخمة تتراءى كأشداق هائلة تتحفز لابتلاعنا. وتهامس البناءون بأنهم حفروا في البيت سراديب عميقة، ودقّوا في الجدران مسامير ضخمة، وثبتوا في السقوف كلاليب كثيرة.
وبدأ البيت الجديد يبتلع شبان بلدتنا الشجعان واحداً بعد الآخر. كنا نجهل ماذا يجري لهم في جوفه فلم يخرج منهم أحد ليكشف عن أسراره. ثم دق ناقوس الإنذار عما يحدث وراء أسواره حينما ذاعت في البلدة حكاية خضير ابن عبد العباس الخباز.
وكان البرابرة الطغاة قد اعتقلوا خضير في البيت فوق التل فجنّ جنون أبيه. وراح يلاحقهم في كل مكان، يتوسل إليهم تارة ويصرخ أخرى ويعول ثالثة حتى ضاقوا به ذرعاً. وذات ليلة أفاق أبناء بلدتنا على صراخ مدوّ ينبعث من منزل عبد العباس الخباز. وتراكضنا إليه فإذا بعبد العباس الخباز يحتضن جثة ولده خضير وهو يطلق صرخاته المحمومة.
في الصباح التالي روى عبد العباس الخباز لكل فرد في بلدتنا ما جرى لولده خضير في البيت فوق التل. واحتار أبناء بلدتنا في أمره. هل جنّ حتى يتحدى البرابرة؟! كان يروي حكايته بصوت مرتفع يسمعه حتى البرابرة الطغاة أنفسهم! وكان أمراً غريباً أن يعلو صوت عبد العباس الخباز، فقد اعتاد أبناء بلدتنا أن يتحدثوا همساً منذ اغتصب البرابرة الطغاة بلدتنا. حكى عبد العباس الخباز أن ظهر ولده خضير قد تخطط بخطوط زرق، وأن صدره تخددّ بالجروح العميقة، وأن آثار الحبال ظاهرة في معصميه وكاحليه، وأن إحدى أذنيه مقطوعة، وأن عينا من عينيه مفقوءة. وكان يهتف بعد أن يتم حكايته: "هل تفهمون ماذا يجري في البيت فوق التل؟ إنهم يعذبون أبناءكم حتى الموت". وكان الواحد من أبناء بلدتنا يتلفت حواليه وجلاً ويهمس لعبد العباس الخباز: "أخفض صوتك يا أبا خضير لئلا يسمعك البرابرة". لكن صوت عبد العباس الخباز كان يعلو هادراً: "عجيب أمركم! يعذبون أولادكم حتى الموت وأنتم خائفون!".
لكن أبناء بلدتنا كانوا يزدادون خوفاً. وصاروا يفرون من عبد العباس الخباز كلما لاح لهم من بعيد. وقال حكماء بلدتنا: "إن عبد العباس الخباز فقد عقله ويا للأسف!". لكن شبان بلدتنا قالوا خجلين: "إن عبد العباس الخباز لم يفقد عقله بل نحن الذين فقدنا كرامتنا".
وأدرك عبد العباس الخباز أن أبناء بلدتنا ينفرون من حكايته فتولّى عنهم. وجعل يمضي النهار وهو يطوي شوارع البلدة طولاً وعرضاً. كان يمشي وهو حاسر الرأس حافي القدمين يتجلبب بقميص مفتوح واسع الصدر بالرغم من قسوة البرد. وكان شعر رأسه الأشيب أشعث وشعر لحيته البيضاء مرسلاً. ولم يكن يكفّ عن الكلام. كان يشتم البرابرة على ما اقترفوه بحق البلدة من آثام. وكان يحكي بعبارات مؤثرة ما جرى لولده خضير في البيت فوق التل. ثم يردف حكايته بكلمات رقيقة يبث فيها ولده لوعته لفراقه وشوقه إليه. وردعه البرابرة عن شتمهم فلم يرتدع . وضربوه ضربا مبرحا فلم يجد معه نفعا . واعتاد أبناء بلدتنا أن يرمقوه من بعيد والأسى يمزق قلوبهم.
وخرج أبناء بلدتنا إلى أعمالهم ذات صباح فلم تقع أعينهم على عبد العباس الخباز. وتساءلوا عنه لكنهم لم يحظوا بجواب. وقال بعضهم: "لعل البرابرة الطغاة ضاقوا ذرعاً بعبد العباس الخباز فألقوا به في النهر" . لكن آخرين قالوا " لقد هجر عبد العباس الخباز بلدتنا المهانة التي لم تثأر لكرامتها ". وكان عبد العباس الخباز على أية حال ناقوس الإنذار الذي قرع ليعلن لأبناء بلدتنا ما يجري وراء أسوار البيت فوق التل.

الحكاية الثانية
رسالة من البيت فوق التل
كلنا يجهل كيف وصلت تلك الرسالة إلى الحاج عبد الرزاق العلوجي من ولده هاتف. كانت أول رسالة تصدر عن البيت فوق التل.ولقد سرى خبرها بين أبناء بلدتنا كما تسري النار في الحطب الجاف. وتهافتنا جميعاً على دكان الحاج عبد الرزاق نتسابق على قراءتها. وتناهى نبأ الرسالة إلى البرابرة الطغاة فصمّموا على انتزاعها بأي ثمن.
و كان الحاج عبد الرزاق معتاداً على نوم القيلولة في دكانه. كان يفترش حصيرة في أعماق الدكان وينام مواجهاً الحائط. وكان يترك الدكان بلا حراسة. وكثيراً ما حذره أهل السوق من اللصوص. إلا أنه كان يرد عليهم بلهجته الوادعة: "أبويه.. حلال على كل من يسرق .. إنه ليس مالي .. إنه مال الله.
ولم يكن خطر السرقة قائماً من قبل. فقد كان ولده هاتف يقوم مقامه عند عودته من المدرسة. أما اليوم، بعد أن اقتيد هاتف إلى البيت فوق التل، فقد بدا المقعد القائم في صدر الدكان خالياً أغلب الأوقات. وامتدت الساعات التي يواجه فيها الحاج عبد الرزاق الحائط نائماً أو متناوماً. وأدرك أهل السوق أن الحاج عبد الرزاق يعبّر بنومه الطويل عن حزنه الهادئ الصبور على ولده هاتف، فتركوه وشأنه.
عاد الحاج عبد الرزاق من صلاة الغروب يوماً قوجد أدراج الخزانة الخشبية مفتوحة. سأل جاره سيد هاشم العطار : أبويه هاشم.. هل دخل أحد الدكان في غيابي؟
أجاب سيد هاشم: لم أرَ أحداً يا حاج عبد الرزاق. لماذا ؟!
قال الحاج عبد الرزاق : أخذ أحدهم الأوراق من الخزانة أثناء غيابي.
فهتف سيد هاشم جزعاً: هل سًرِقت يا حاج عبد الرزاق؟ لطالما حذرناك. هل سرقت جميع النقود؟
فتح الحاج عبد الرزاق درج النقود المغلق وعدّ النقود في اطمئنان، ثم قال: لا لم يسرق شيء.
فقال سيد هاشم في أسف: إذن سرقوا الرسالة.
فرفع الحاج عبد الرزاق رأسه وقال : أبويه.. لن يسرقوا الرسالة قبل أن يسرقوا روحي.
وتناقل أبناء بلدتنا هذا الحدث فأثار حماسهم لقراءة الرسالة. وغدا دكان الحاج عبد الرزاق مزاراً لأبناء بلدتنا. كان لا بد لكل منا أن يعرج عليه ويطمئن على الرسالة. وكان كل واحد من أبناء بلدتنا يستوقف الآخر في الطريق ويسأله هامساً: "هل قرأت رسالة هاتف ابن الحاج عبد الرزاق العلوجي؟".
فيردّ البعض خزياناً: "نعم قرأتها.. إنها وصمة عار في جبيننا".
وشدد البرابرة الطغاة الحصار على دكان الحاج عبد الرزاق. وأقاموا نقطة للمراقبة في تقاطع سوق العلوجية بسوق الخضار. لكن أبناء بلدتنا كانوا يحسنون الإفلات من ذلك الحصار. كانوا يوهمون الحراس أنهم يبتاعون بضائع من الدكان، وكانت الرسالة تُدسّ في لحظة خاطفة مع البضاعة. و كان دكان الحاج عبد الرزاق يغصّ بالبضائع من رزّ وسمن وسكر وشاي وسرعان ما يفرغ من جديد.
وذات مساء أغلق الحاج عبد الرزاق دكانه وسلك شارع البلدة العام عائداً إلى منزله. وفجأة طوقته ثلة من البرابرة وسددوا بنادقهم إلى صدره، وصرخ رئيسهم: أعطنا الرسالة يا حاج عبد الرزاق.. نحن نعلم أنها معك.
أيقن أبناء بلدتنا أن الرسالة ضاعت من أيديهم فهي لا تفارق الحاج عبد الرزاق لحظة واحدة، ولابد أنه سيسلمها الآن، فالحاج عبد الرزاق لا يحسن الكذب. وتملكهم الجزع. لكنهم دهشوا حينما بلغهم صوت الحاج عبد الرزاق الهادئ الوقور وهو يتساءل: أبويه.. أية رسالة؟
قال رئيسهم: رسالة ابنك هاتف.
فرد الحاج عبد الرزاق بلهجته الوقور: ابني هاتف محبوس في البيت فوق التل ولا أعرف عنه شيئاً.
قال رئيسهم بغضب: نحن نعرف كل شيء عن الرسالة يا حاج عبد الرزاق فلا تكذب علينا.
قال الحاج عبد الرزاق بصوته الوقور: أبويه.. ولدي هاتف لم يرسل لنا أية رسالة منذ حبستموه ظلما وعدوانا .
تبادل أبناء بلدتنا نظرات مذهولة. وطفحت قلوبهم بالفرح. إن الحاج عبد الرزاق يكذب على البرابرة! يكذب ربما لأول مرة في حياته!
صرخ رئيسهم غاضباً: أنت تكذب يا حاج عبد الرزاق.
وبدا الحاج عبد الرزاق واثقاً من نفسه تجلله الهيبة ويحوطه الوقار. وشعّت عيناه بنظرات قوية نفاذة. قال بصوته الوقور: أبويه.. أنا لا أكذب. أنتم الكذابون.
تقدم منه رئيسهم ولطمه على وجهه. ودنا منه أحد البرابرة وبصق في وجهه فعلق البصاق بلحيته البيضاء. زمجر رئيسهم : سنفتشك الآن لتعرف من منا الكذاب.
انقضّ البرابرة على الحاج عبد الرزاق وجردوه من ملابسه وفتشوها قطعة قطعة. واختطف أحدهم كشيدته من فوق رأسه وألقاها على الأرض فتدحرجت بعيداً. ولكن الحاج عبد الرزاق ظل منصوب القامة مرفوع الرأس وكأنه استحال إلى تمثال. واضطربت قلوب أبناء بلدتنا جزعاً. كانوا يتوقعون أن يلوّح البرابرة بالرسالة بين لحظة وأخرى.
وأخيراً جمع رئيسهم ملابس الحاج عبد الرزاق وقذفها في وجهه وزمجر: سنعرف كيف نعثر على الرسالة في المرة القادمة يا حاج عبد الرزاق.
قال الحاج عبد الرزاق بصوته الوقور وهو يرتدي ملابسه متمهلاً ويسوي "كشيدته" فوق رأسه: الآن عرف من منا الكاذب يا من ظلمتم أبناءنا .
انصرف البرابرة محنقين. وأتم الحاج عبد الرزاق ارتداء ملابسه ثم تابع طريقه وعلى شفتيه بسمة وقور.
كانت الدهشة قد عقدت ألسنة أبناء بلدتنا. وما أن أفاقوا من دهشتهم حتى راح يعانق بعضهم بعضاً. وقال سيد هاشم العطار بذهول: أؤكد لكم أنني رأيت الحاج عبد الرزاق يستل الرسالة من صدره ويقبلها ثم يخفيها بين طيات ملابسه!
وكرر البرابرة الطغاة محاولاتهم المرة تلو المرة للظفر بالرسالة. لكن محاولاتهم منيت بالفشل. ففي إحدى الأماسي كان الحاج عبد الرزاق يؤدي صلاة العشاء في منزله وإذا بالزقاق يضج بصخب البرابرة. وارتعدت أجساد الصغار فرقاً وخفقت قلوب الكبار جزعاً. انهالت الطرقات على باب منزل الحاج عبد الرزاق عالية لجوجة. وما أن فتح الحاج عبد الرزاق الباب حتى اندفعوا إلى الداخل كالعاصفة وهم يسددون رشاشاتهم إلى الصدور. كانت امرأة الحاج عبد الرزاق مشغولة في المطبخ. وكانت ابنته الكبرى تلاعب أخاها الصغير في الفناء. وأصيبت امرأة الحاج عبد الرزاق بالذعر وهوت فاقدة الوعي. وهرولت ابتنه فزعة وهي تحمل الصغير وتوارت في المرحاض. وشده الحاج عبد الرزاق ولم يدرِ ماذا يفعل. وفارقه هدوؤه المعهود فصاح محنقاً: أيها الكفرة.. ألا تستأذنون عند دخول بيوت المسلمين؟!
أزاحه البرابرة عن طريقهم وهرعوا إلى حجرات الدار. وفي لحظة حولوها إلى شذر مذر. بعثروا الملابس وقلبوا الخزانات ومزقوا كتب هاتف. ودسّوا أيديهم في كل زاوية وفي كل مخبأ. وتكوّم الحاج عبد الرزاق بجوار امرأته وتحلق حوله الصغار باكين. وراح يصرخ مزمجرا : لعن الله الظلمة . . لعن الله لعن الله الظلمة . .لعن الله الظلمة
عجز البرابرة الطغاة عن اقتناص الرسالة فتأجج حنقهم وحطموا كل ما طالته أيديهم. ثم غادروا المنزل بعد أن أشاعوا فيه الفوضى والرعب.
ذاع في البلدة نبأ اخفاق البرابرة الطغاة في الظفر بالرسالة فاستقبلناه بحماسة عظيمة. وقال حكماء بلدتنا: "إنها معجزة فقد شاء الله أن ينقذ الحاج عبد الرزاق من أذى البرابرة". لكن شبان بلدتنا قالوا: "إنها إرادة الله أن تبقى الرسالة بحوزة الحاج عبد الرزاق لتكون دليلاً على جبننا وشاهداً على وحشية البرابرة".
وتوقدت حماسة أبناء بلدتنا لقراءة الرسالة. وبلغت لهفة بعضهم حد الهوس. وكنت قد صبرت طوال الأسابيع الفائتة على الحرمان منها. كنت أواجه دائماً بمن يزاحمني عليها. لكنني صممت هذه المرة أن أحقق بغيتي. همس الحاج عبد الرزاق وهو يدس الرسالة في مشترياتي: "أبويه.. عجل بقراءتها قبل أن يفاجئنا البرابرة".
بسطت الرسالة بأصابع مرتعشة وجرت أنظاري بلهفة تلتهم السطور.
" سيدي الوالد العزيز
بعد تقبيل أياديكم الكريمة وتقديم وافر الاحترام. ترددت يا والدي قبل أن أكتب إليك هذه الرسالة لئلا أقلقك بأخباري المحزنة. لكن الواجب تغلب أخيراً على عواطفي الذاتية، خاصة وقد هيأ لي الله من تعهد بإيصال الرسالة إليكم. فأبناء بلدتنا يجهلون ما يجري وراء أسوار البيت فوق التل، ولم يصدقوا حكاية عبد العباس الخباز. فأرجوك يا والدي العزيز أن تطلع عليها أبناء بلدتنا جميعاً.
نحن يا أبي نعيش في البيت فوق التل في أسوأ حال. فنحن نحشر في الغرف حشراً حتى لا نكاد نظفر بموضع للجلوس أو النوم. ولا يسمح لنا بقضاء حاجتنا سوى مرة واحدة في اليوم فيضطر البعض منا لأن يوسخ ملابسه. أما طعامنا فهو خبز حامض ونوع من مرق الخضار تعافه حتى الكلاب.
نحن يا أبي نحيا في جحيم مقيم ورعب دائم. فنحن مهددون بالاستدعاء للتحقيق في أية لحظة. إنهم يسمونه (تحقيق) لكنه في الحقيقة (تعذيب). فالأسئلة والأجوبة ليست سوى مقدمة للتعذيب بحجة انتزاع (الاعترافات). وكثيراً ما ينتهي هذا (التحقيق) بالموت. لقد استدعوني للتحقيق مرتين حتى الآن. أما المرة الأولى فقد كان هدفها الإرهاب. ويا لهول ما شهدت عيناي! رأيت أحد رفاقي معلقاً من يديه الموثقتين إلى الخلف وقدماه ترفسان في الهواء. ورأيت الثاني مربوطاً من قدميه ورأسه مدلّى. وبدا الثالث مثبتاً من وسطه في كلّاب بالسقف. وكانت خراطيم المياه والهراوات والسياط تلهب أجسادهم العارية فتنزّ الدماء من كل موضع فيها.
وفي المرة التالية قادوني إلى غرفة التحقيق، وهي غرفة ثبّتت كلاليب عديدة في سقفها ودقت مسامير ضخمة في جدرانها، واصطبغ سقفها وبلاطها بالدماء. وما أن مثلت أمام هيئة التحقيق حتى طلبوا مني تسجيل اعترافاتي فرفضت ذلك. فجردت من ملابسي وأوثقت إحدى يدي في السقف، فتأرجحت يدي الثانية وساقي الأخرى في الهواء. وتسابقت على جسدي الهراوات والعصيّ وخراطيم الماء. وشعرت للحظات كأنني ألقيت في نار جهنم، وسرعان ما فقدت الوعي.
واستأنفوا التحقيق معي ثانية حالما استعدت وعيي، ولما رفضت أوامرهم علقوني مرة أخرى وتوالت على جسدي العصيّ والهراوات والسياط. ولقد كرروا معي هذا (التحقيق) ثلاث مرات في ذلك اليوم. ثم جروني إلى غرفتي وقد خدر جسدي ولم يسلم فيه موضع واحد من الجراح. وقالوا لي: "هذه هي المرحلة الأولى من التحقيق، فإن لم تعترف جربنا معك الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة، فإما الاعتراف أو الموت".
وليس قولهم هذا من باب التهديد يا والدي. لقد مات العديد من رفاقي أثناء التعذيب وألقيت جثثهم في بئر البيت، ويبدو أنني لم أشهد حتى الآن سوى التعذيب البسيط. فرفاقي يروون أخباراً عن التعذيب يشيب لهولها الشعر.
والدي العزيز. نحن جميعاً – أبناء البلدة الشجعان – صامدون ونتسلح بمعنويات عالية، ولا يرهبنا التعذيب الوحشي ولا التهديد بالموت في سبيل عز بلدتنا. ونودّ أن يعلم أبناء بلدتنا كيف نعيش في البيت فوق التل علّهم يهبّون لنصرتنا ويخلصون بلدتنا من قبضتهم
أنا شديد الشوق إليكم جميعاً، أنت والوالدة العزيزة والأخوة والأخوات. وكثيراً ما هزني الشوق إلى الدكان والسوق وأهله فسلامي للجميع. ختاماً أدعو لك يا سيدي الوالد بالعمر المديد وأودعك إلى حين وربما إلى الأبد".
ولدك المحب هاتف
رفعت عينيّ عن الرسالة وقد سحقني الذهول والخزي. وطالعني الحاج عبد الرزاق بعينين حزينتين ووجه يشعَ جلالاً. اختطف الرسالة من يدي ودسها بين طيات "كشيدته" وابتسامة وادعة ترف على شفتيه.
نهضت متحاملاً على نفسي ومضيت في طريقي واجماً. وتشبت سؤال ملح بذهني: "كيف يصبر أبناء بلدتنا على حكم البرابرة الطغاة وهم يقرؤون هذه الرسالة؟".

الحكاية الثالثة
أم حسين
أم حسين شخصية متميزة في بلدتنا. لم يحدث لها أن غابت عن دكّـتها القائمة على ناصية الشارع العام قرب السوق الكبير وبجوارها قدر الباقلاء يتصاعد منه البخار. ولا أعلم متى اتخذت أم حسين موضعها على تلك الدكّة. اعتدت أن أشاهدها في ذلك المكان منذ كنت طفلاً صغيراً. وكانت رائحة الباقلاء تفعم أنفي كلما مررت بها فتتثاقل خطاي فيضطر أبي إلى أن يجرني جرّاً. وكان يرفض شراء صحن لي إلا إذا لعلع صوتي بالبكاء. وحينئذ يلعن الشيطان ويغمغم وهو يناولني الفلوس: "لا أدري لماذا تحب هذه الباقلاء الوسخة!". لكنني لم أكن أجدها وسخة. كنت أقبل عليها في نهم وألتهمها التهاما بينما تراقبني أم حسين وهي تردد ووجهها يتهلل بشراً: "كل يا ابني.. كل .. محروس بالحسن والحسين".
كانت أم حسين تعتبرني زبوناً مفضلاً. كانت تملأ لي الصحن حتى يفيض على جوانبه. وكثيراً ما نادتني وأنا أجتازها وحيداً وعيناي مسمرتان في حسرة بقدر الباقلاء. وتلحف عليّ بالنداء حتى أستجيب لها فتدفع لي صحناً مليئاً بالباقلاء وهي تقول بحنوّ: "كل يا إبني.. كل.. محروس بالحسن والحسين". كانت تلك المعاملة الخاصة تدهشني وتثير مخاوفي. واحترت في تعليلها. وكثيراً ما قلّبت الأمر على وجوهه وأنا لائذ في فراشي ليلاً فطفح قلبي ريبة وخوفاً. وخطر لي مراراً أن أم حسين تضمر لي شراً. لعلها تنوي أن تخطفني يوما وتبيعني إلى الكاولية أو شكاكي البطون . وكانت هذه الخيالات ترعبني فأدفن راسي تحت الغطاء وجسمي يرتعد فرقا . وكنت أقسم بالبراءة التي تكسر الظهر ألاّ أستجيب إلى ندائها مرة أخرى . و ما أن يصبح الصباح حتى أنسى قسمي وأنساق إليها بإغراء الباقلاء . ثم انجلى لي ذات يوم سر محبة أم حسين لي . كنت ماضيا إلى السوق الكبير فشاهدت صبياً في سني يلعب بجوارها وهي مقبلة عليه في حنوّ ووجهها يترقرق بشرا. انتابتني غيرة حادة والتقطت حجراً لأقذف به الصبي فلمحتني تلك اللحظة ونادتني: تعال يا ولدي.. تعال.
دنوت منها فالتفتت إلى الصبي قائلة: "ألا تريد أن تلعب مع هذا الولد العاقل يا حسّوني؟".
منذ ذلك اليوم انعقدت أواصر الصداقة بيني وبين حسين. كانت صداقة عامرة بصحون الباقلاء المرشوشة بـ "البطنج" والحامض. وكنا نلعب بجوار الدّكة دون أن ننحدر إلى الشارع، فأم حسين ترتجف رعباً من السيارات والعربات.
نمت صداقتنا أنا وحسين بتوالي الشهور والأعوام. وانتظمنا في المدرسة وارتقينا في مدارجها معاً. وكنا نتنافس على "الأولوية" من دون أن يثير ذلك غيّرتنا. كنا صديقين حميمين. وكان يدهشني حب حسين لأمه. وكثيراً ما تجادلنا فيمن يحب أمه أكثر من الآخر ففاز عليّ بالجدل. كان يواجهني ببراهين داحضة. وقد سألني مرة: "هل ترمي نفسك في الشط إذا طلبت منك أمك ذلك؟" ولما لم أكن أحسن السباحة قلت له: "لا، لن أفعل لأنني سأغرق". فهز رأسه تيهاً وقال: "أنا أفعل ذلك". فلم أعد إلى مجادلته في الموضوع. وكانت أمه مولعة به ولعاً عظيماً. وكلما عدنا من المدرسة استقبلته بلهفة وكأنه كان غائباً عنها من وقت طويل! وحين تخاطبه تستحيل إلى شعلة تتوهج رقة وحناناً وحباً. كنت أحسده في أعماقي على حب أمه. وتمنيت لو كنت وحيد أمي لتحبني كما تحب أم حسين ابنها.
ترعرع حسين وتقدم العمر بأم حسين، وأطلّت الشعرات البيض من تحت عصابتها السوداء. وحفّـت التجاعيد بعينيها السوداوين الجميلتين، لكن وجهها احتفظ بصباحته. واشتد ولهها بحسين وهو يرقى من صف إلى آخر. وصمم حسين على الانقطاع عن الدراسة حالما يفوز بشهادة البكالوريا. ولم تنجح مساعي معلميه في إقناعه بمواصلة الدراسة. كان يردد: "آن لأمي أن تستريح، وآن لي أن أقوم بإعالتها".
وذات يوم غابت أم حسين عن دكّتها المعهودة. كان ذلك إيذاناً باستلام حسين لمرتّبه الأول. ولما مررت بالدكّة ذلك اليوم هاجمني شعور بالأسى. تراءى لي أن تغييرا محزناً قد طرأ على المكان. لم يعد زاخراً بالحيوية كسابق عهده.
انقضت شهور صارت أثناءها حياة أم حسين أعياداً موصولة. ثم اغتصب البرابرة الطغاة بلدتنا فجثمت الكآبة على صدور الناس جميعاً. ولم أعد أرى (حسين) وأمه إلا لماما.
وبينما كنت أتناول غدائي يوما إذا بالطرقات المحمومة تنهمر على بابنا . وما أن فُتح حتى اندفعت أم حسين وهي زائغة البصر منكوشة الشعر، وهمهمت بصوت مبحوح: أخذوا ابني.. أخذوا حسّوني. بصّروني.. ماذا أفعل؟
هتفت مذعوراً: هل اعتقلوا (حسين) ؟
وصفقت أمي كفاً بكف وصاحت متوجعة: الله يساعدك يا أم حسين.
همهمت أم حسين بصوتها الملتاع وعيناها تدوران في محجريها بضياع: أخذوه .. أخذوا حسّوني، بصّروني، لمن أشتكي؟ أين أولّي وجهي؟
لبثت معقود اللسان وقد سحقني الألم، ولم أدرِ كيف أهوّن من مصيبتها. غمغمت في يأس: هؤلاء البرابرة الطغاة لا ينفع معهم شفيع يا خالة.
قالت أمي بلهجتها المتوجعة: الله ينتقم من الظلمة. اعتمدي على رحمة الله يا أم حسين فهو أرحم الراحمين.
قالت أم حسين بصوتها المبحوح: إنهم لا يعرفون الله يا "دادة" .. سيقتلون ولدي كما قتلوا خضير بن عبد العباس الخباز.. سيقتلون ابني حسّوني .. ابني حسّوني الذي سقيته ماء عيوني.. بصّروني.. لمن أشتكي؟‍‍.
وانطلقت تخمش خدها وتلطم وجهها. فقلت مترفقاً: اذهبي إليهم في البيت فوق التل وطالبيهم به يا خالتي ام حسين.
قالت بصوتها المبحوح وهي تهرع إلى الباب: سأنتزع منهم ولدي حتى لو ظللت أطالبهم به كل ساعات الليل والنهار.
كان البرابرة الطغاة يتربصون بنا في الميادين وعلى نواصي الشوارع وفي مفترقات الأزقة والطرق . وكانوا يحملون البنادق ويسددونها إلى صدورنا. وألف أبناء بلدتنا مشاهدة أم حسين واقفة ساعات أمام البرابرة وهي تصرخ مطالبة بابنها. لكن البرابرة الطغاة كانوا يخزرونها بتعال وكأن الأمر لا يعنيهم. فإذا سئموا صراخها نهروها بغلظة ودفعوها بعيداً. وكثيراً ما تدحرجت على الأرض وسقطت عنها عباءتها. غير أنها كانت تنهض مسرعة وتلتف بعباءتها وتستأنف صراخها من جديد.
وقال الحاج رخيّص الهبش يوماً لجاره رزوّقي الروّاف: ما ذا فعل بنا هؤلاء البرابرة الطغاة يا أبو عباس؟ كيف أمكنهم أن يخنّثونا إلى هذا الحد؟ نحن نرى أم حسين تتدحرج على الأرض بركلة من أقدامهم فنغض أبصارنا وكأننا لم نر شيئاً.
فرد عليه رزّوقي الرواف وجلا: اخفض صوتك يا أبا محمود فنحن أصبحنا صماً بكماً لا نرى ولا نسمع.
واعتاد أبناء بلدتنا أن يغضّوا الطرف كلما وقعت أبصارهم على أم حسين. غدا شعرها المنسدل من تحت عصابتها السوداء ذا لون فضي، وتخدّد وجهها بتجاعيد عميقة. وكان حكماء بلدتنا يغيرون طريقهم إذا لمحوها من بعيد. ولم أكن أنا أجسر على النظر في وجهها.
جرب البرابرة الطغاة أن يزرعوا اليأس في قلبها فلم يفلحوا. زادتها الأيام تشبثاً وإصراراً. ورابطت كل ليلة بجوار البيت فوق التل. وحينما تنبعث صرخات المعذبين من أعماق البيت يلعلع صراخها الغاضب ممزقاً سكون الليل. وتحمل الريح صراخها إلى أقصى البلدة فيهيج الشجن في قلوب العوام ويزعج الأعيان.
وتكرر هذا المشهد ليلة بعد ليلة. وكان أبناء بلدتنا يسهرون مترقبين صراخ أم حسين. وكثيراً ما تساءلوا بعجب متى تستريح، فهي تلازم موضعها بجوار التل حتى الصباح، ثم تستأنف مواجهتها للبرابرة أثناء النهار.
واحتار البرابرة الطغاة ماذا يصنعون بأم حسين. صارت مشكلة لا حل لها. كانت مصممة على انتزاع ابنها من براثنهم.

ضاق البرابرة الطغاة ذرعاً أخيراً بأم حسين فأمروها يوماً أن تلزم دارها ليلا وتنتظر ابنها . وأمضت أم حسين تلك الليلة وراء باب الدار. توقعت في كل لحظة أن يفتح الباب ويهلّ عليها حسين بقامته المديدة وطلعته البهية. ولم تكن وحدها تترقب عودة حسين. كان النبأ قد شاع في بلدتنا فسهر أبناؤها جميعاً في إنتظار عودة حسين.
وعند منتصف الليل توالى الطرق على باب منزلها. وما أن فتحته حتى هتف أحد البرابرة: خذي ابنك وحذار أن تتفوهي بكلمة واحدة.
ثم تولّى مسرعاً وغاب شبحه في ظلمة الليل. بحثت عينا أم حسين بلهفة عن إبنها، ثم استقرتا عليه وهو مكوّم بجوار الباب. ألقت بنفسها عليه وقد فاضت عيناها بالدمع وراحت تردد وكأنها تهذي: "ولدي حسّوني .. روحي حسّوني". وضمته إلى صدرها وأمطرته بقبلاتها المحمومة، لكنها سرعان ما ارتدت عنه مرتاعة وهي تطلق صراخاً مدويّاً: ماذا فعل بك البرابرة يا حسّوني ؟".
انفتحت أبواب البيوت على مصارعها، وهرع أبناء بلدتنا يستطلعون الخبر. وكنت أول من وصل إلى منزل أم حسين، وما أن وقعت عيني على حسين حتى صرخت: إنه محطم الوجه.
وصاح الحاج رخيّص الهبش: إنه مهشم الذراعين.
وهتف محمد علي الخياط: إنه مسحوق الساقين.
واختلطت أصواتنا الغاضبة. وراحت أم حسين تصرخ كاللبوة الجريحة : ماذا فعلتم بولدي يا أسفل خلق الله ؟ سيحرقكم الله بنار جهنم وسيحاسبكم حسابا عسيرا .. يا كفرة .. يا ظلمة .. يا ملعونين . وتعاونا جميعا على سحب أم حسين إلى داخل الدار وصراخها المفجع يروع الأسماع بشجنه .


الحكاية الرابعة
عائلة محسن الطيب
قالت أمي تخاطب أبي بنبرة متوجعة: هل علمت يا أبو عزوز أن صحة جارنا محسن الطيب تردّت أمس؟
أجاب أبي وهو يهز رأسه : نعم، علمت بذلك، أهل السوق جميعاً يدرون بذلك.
تساءلت أمي بعد صمت قصير: وماذا أعددتم لعائلته؟
قال أبي: لم نعدّ شيئاً. إننا ندعو الله أن يرأف به وبعائلته.
وشملهما ضمت حزين. ثم أخرج أبي حافظة نقوده وا نتزع منها ورقة بخمسة دنانير ناولها إليها قائلاً: حاولي أن تقنعي أمّ أحمد بقبول هذا المبلغ يا أم عزيز فلا شك أنهم محتاجون للمال.
أخفت أمي الورقة في صدرها وهي تقول: سأحاول، ولكنهم أباة ولا يقبلون مساعدة من أحد.
وترقرقت الدموع فجأة في عينيها فمسحت دموعها بفوطتها وهي تتمتم: كيف يعيش ذلك الجيش من الأطفال إذا مات أبو أحمد لا قدر الله؟ الله ينتقم من الظلمة.
فقال أبي: لا أدري كيف يعيشون الآن. انقضى على أبو أحمد شهر وهو طريح الفراش، فكيف يوفر الطعام لهذه العائلة الكبيرة ودكانه مغلق منذ شهر؟‍.
قالت أمي: جربت مراراً أن أقنع أم احمد بقبول مبلغ من المال ففشلت. ومرة أخفيت ورقة بخمسة دنانير تحت الوسادة فأعادتها إلىّ في اليوم التالي قائلة: "سقطت منك هذه الورقة يا أم عزيز".
فقال أبي وهو يهز رأسه: كان الله في عونهم.
في فجر اليوم التالي ضجّ منزل محسن الطيب باالعويل، فضرب أبي كفاً بكف وهتف: رحمة الله على روحك يا محسن الطيب ولعنة الله على أرواح البرابرة الطغاة. . ما أعظم نكبتك على أيديهم.
وكان البرابرة قد اعتقلوا ابن محسن الطيب الوحيد . ومنذ ذلك اليوم تدهورت صحته وتعاقبت عليه العلل. ثم انهارت مقاومته أخيراً فلزم الفراش. وتوالت عليه النكبات فطُرد أزواج بناته الثلاث من أعمالهم واقتيدوا إلى البيت فوق التل . ووجد محسن الطيب نفسه مسؤولاً عن أُسر ثلاث بالإضافة إلى أسرته. وحزن أهل السوق لأعبائه الجديدة. كانت حالته المالية سيئة ولم يكن مقتدراً على إعالة أسرته المتضخمة. وكان الكساد قد شمل الأسواق منذ اغتصب البرابرة الطغاة البلدة. وتعذر على العوام أن يكسبوا قوتهم اليومي. وبينما كان أهل السوق يفكرون بطريقة لإعانته إذا به يُتوفى ويترك أربع أسر بلا معيل.
اجتمع أهل السوق في الجامع المجاور بعد صلاة الظهر وتدارسوا المشكلة. واقترح محمد علي الخياط أن يُخصّص راتب شهري لعائلة محسن الطيب يسهم فيه أهل السوق جميعاً. فلقي الاقتراح موافقة اجماعية. وتحمس له عبد الحسين العبايجي وهتف بصوته الأجش: أحسنت يا أبو سلمى .. جزاك الله خيراً.
وقال الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة: سنوكل إلى الحاج عبد الله الصباغ أمر تسليم المبلغ إلى أسرة المرحوم فهو خير من يقوم بهذه المهمة.
وأيّد أهل السوق الاقتراح. في عصر اليوم نفسه حملت أمي المال إلى عائلة محسن الطيب.وترقبنا عودتها بقلق. وما أن أطلّت علينا بوجه متجهّم حتى تبادلنا نظرات يائسة. لم تكن بنا حاجة إلى سؤالها عن نتيجة مسعاها. تهالكت أمي على الحصيرة وألقت بجوارها صرة المال وغمغمت: هذه هي الفلوس.. عدت بها بكاملها.
ثم نادت أختي الصغيرة لتحضر لها قدحا من الماء وهي تغمغم: "ريقي نشف". وجرعت الكأس دفعة واحدة وقالت وهي تزفر: ابحثوا عن طريقة أخرى لإغاثة هذه العائلة المنكوبة.
وصمتت لحظة وقد غام وجهها بالحزن وترقرقت الدموع في عينيها. ثم همست بنبرة متوجعة: الله ينتقم من الظلمة.. حالة الأطفال تفتت الصخر.
تساءل أبي: وماذا بوسعنا أن نفعل يا أم عزيز ما داموا يرفضون كل مساعدة؟
قالت أمي: يمكنكم أن تسعوا لإطلاق سراح أحد أزواج البنات فيحل محل المرحوم في إعالة العائلة. هذا رأي أم أحمد.
قال أبي في تهكم مر: ما أسهل تحقيق هذا الطلب .
ثم أضاف : متى استجاب الطاغية الأكبر لالتماسات أبناء بلدتنا ؟
وكنا ندرك انه أشد البرابرة الطغاة حقدا وأكثرهم لؤما . لذلك ظل أهل السوق يتجادلون طويلا في امر مقابلته . ثم استقر رأيهم أخيرا على القيام بالمحاولة جبرا لخاطر أم أحمد . واختاروا وفدا من حكماء بلدتنا يضم الصيدلي لطفي العبد والشيخ جواد الحسن والحاج محمد الدّهان ليتولوا المهمة. ومضى الوفد لمقابلة الطاعة الأكبر. وعند العصر عاد الوفد وهو يجرّ أذيال الخيبة. قال الحاج محمد الدّهان في مرارة: ما كان أغنانا عن هذه المحاولة‍.
فرد عليه حميد العلوان: قمتم بفعل خير على كل حال يا حاج محمد، وسيقنع فشلكم عائلة محسن الطيب بقبول التبرع.
قال محمد علي الخياط وهو يهز رأسه: نحن لا نتعظ بالدروس فكيف رجونا خيراً من طاغيتهم الأكبر؟!
قال الحاج محمد الدّهان: فعلاً. إنه ألقى فينا خطبة مليئة بشتمنا وإهانتنا ثم ختمها بقوله: "من قال لكم إن مصير عائلة الطبيب يهمنا؟ من الخير أن يموت أطفال هذه العائلة اليوم قبل أن يكبروا ويحاولوا أن يلدغونا كما فعل آباؤهم فلا تلد الحية إلا الحية".
هيمن على الجميع صمت حزين. ثم قال الملاّ فرهود صبّاغ المطية: أدينا واجبنا تجاه المرحوم محسن الطيب وبقي علينا أن نكرر محاولتنا الأولى.
وكُلّف أبي ثانية بالاتصال بعائلة محسن الطيب وتكرار العرض عليها. وبذلت أمي محاولات يائسة لإقناع أم أحمد بقبول المال. لكن محاولتها منيت بالفشل.
وسمع صراخ الأطفال في منزل محسن الطيب أثناء الليل فأثار ذلك قلق أهل السوق. ولم تكن دار محسن الطيب هي الوحيدة التي تضج بصراخ الأطفال من الجوع. كان ثمة آلاف من البيوت في بلدتنا تضج بهذا الصراخ. فقد طرد البرابرة الطغاة الألوف من أبناء بلدتنا من أعمالهم فانقطعت أرزاقهم وافترس الجوع أسرهم. وغدت آلاف أخرى من الأسر بدون مورد بعد أن اقتيد معيلوها إلى البيت فوق التل. وكان حكماء بلدتنا يصمّون آذانهم عن ذلك الصراخ. لم يحاول أحد منهم أن يمد يد المعونة إلى الجائعين. وقد بدا أمراً غريباً اهتمام أهل السوق بمصير عائلة محسن الطيب!
اجتمع أهل السوق في الجامع المجاور بعد صلاة الظهر ليتدارسوا المشكلة من جديد. وقال محمد علي الخياط بلهجة خطيرة: يجب أن نتذكر أن خمسة عشر طفلاً مهددون بالموت جوعاً.
فأطرق الجميع واجمين. وفجأة رفع الشاب عبد الرضا ابن سيد هاشم العطار رأسه وقال: أتعلمون أن للمرحوم بنتاً في سن الزواج؟!
فخزره الجميع في استنكار. وعجبت كيف يطرق عبد الرضا الشاب الخجول هذا الموضوع في مثل هذا المقام. قال أبوه سيد هاشم معاتباً: ماذا دهاك يا عبد الرضا؟ أترانا في ظرف مناسب لهذا الكلام؟
أجاب عبد الرضا بلهجة ثابتة: نعم، فإنني نويت أن أطلب يدها.
ارتسمت الدهشة على وجوه الجميع. ورفع البعض حاجبيه استنكارا. لكن عبد الحسين العبايجي هتف بصوته الأجش: بارك الله فيك يا بني.
وفارقت الدهشة وجوه الآخرين فجعلوا يهزّون رؤوسهم استحسانا. قال عبد الرضا وهو يتجنب النظر في الوجوه: سأكون معيلهم الشرعي وسيكون من واجبي رعايتهم جميعاً.
تساءل أبوه في تردد: ولكن هل نسيت أنها عرجاء يا ولدي عبد الرضا؟
أجاب عبد الرضا بثبات: كلا، لم أنسَ لكنني راض بها.
فقال الحاج رخيّص الهبش بحماسة: إذا كان القاضي راضياً فما دخل المفتي؟
هلل الجميع لاقتراح عبد الرضا وأقبلوا عليه يهنئونه ويشدّون على يديه. واحتضنه أبوه وقبّله في جبينه وهو يقول: بورك فيك يا ولدي.
شيء واحد أثار إعجابي الشديد في اقتراح عبد الرضا. فقد كنت أعلم أنه يحس بحرج شديد من عرج في قدمه اليسرى، وأنه كان يكره كل ما يذكره بذلك العرج.


الحكاية الخامسة
الكوخ على النهر
كل شخص في بلدتنا كان عارفاً بقصة الكوخ على النهر. لكن أحداً لم يجرؤ على روايتها حتى لنفسه. فقد كانت ميسماً وسم بلدتنا بالخزي والعار. ومنذ اغتصب البرابرة الطغاة بلدتنا وهي تتلطخ كل يوم بعار جديد وتمرغت كرامتنا في التراب. لكن البنادق كانت مصوّبة أبداً إلى صدورنا . فلم يكن بوسعنا إلا أن نهزّ رؤوسنا ونردد بتصبر: "الله كريم" . وأصبحت هذه العبارة شعار الكبار والصغار والنساء والرجال. وكان البرابرة يطربون لها ويرتبون على بنادقهم باعتزاز.
ولم نكن نتخيل يوماً أن يبلغ التخاذل بنا إلى هذا الحد! كنا نعتز بأنفسنا أيما اعتزاز! كنا نقول لبعضنا بعضا : "إن بلدتنا تحتضن أكبر عدد من الشبان الشجعان". فيرد بعضهم الآخر: "إن بلدتنا قلعة حصينة تقاوم كل طغيان". لكننا أدركنا بعد أن اغتصب البرابرة الطغاة بلدتنا أننا كنا نفاخر بأنفسنا بدون حق. كنا كالطبل الأجوف الذي يزحم الفضاء بضجيجه فإذا بقر بطنه وُجد فارغاً! فحينما اغتصب البرابرة الطغاة بلدتنا لم يتصدّ لهم إلا نفر قليل من الشبان الشجعان، وفرّ الباقون أمام زئير البنادق!
ومنذ ذلك اليوم بات من اليسير على البرابرة أن يحكموا البلدة، وتفشّي الرعب بين أبناء بلدتنا حتى صار كل فرد ينشد النجاة بنفسه. لم يكن أي واحد منّا راغباً في مواجهة البرابرة. وأمعن البرابرة قتلاً بشبان بلدتنا الشجعان فلم يجسر أحد على التدخل. كان الجميع يوّلون فراراً وكأنهم لم يشهدوا جرماً! وفي كل صباح كنا نسمع بغارات البرابرة على المنازل المروّعة فنهز رؤوسنا أسفاً ونردد : "الله كريم".
وشجع تخاذلنا البرابرة الطغاة فتمادوا في تعسفهم وصاروا يلوثون بلدتنا كل يوم بعار جديد. لكن حكاية الكوخ على النهر فاقت بعارها كل حكاية سابقة. وكان لا بد لأبناء بلدتنا أن يؤدوا بعض الدين لملوكي الرّكاع الذي ذهب الحزن بعقله. فاتفقنا على أن يتولى واحد منا كل يوم حمل الطعام إليه في كوخه الذي أقامه على ضفة النهر. وكنت أمضي وقتا برفقته حينما يحين دوري. وأبتدره بالتحية قائلاً: "صباح الخير يا أبا شهاب، كيف حالك؟" فيتفرّس في وجهي وقد شملته كآبة هادئة. ثم يتمتم وابتسامة وادعة ترف على شفتيه: "أهلاً بنور عيني.. أهلاً بصديق ولدي شهاب. كل أصدقاء ولدي شهاب هم نور عيني".
وأقتعد الأرض بجواره فيعكف على عمله وكأنه نسى وجودي. .وتنساب الدقائق وهو منهمك في عمله وأنا غارق في خواطري الحزينة. وأطيل التأمل في وجهه المخدد وعينيه الصغيرتين الكليلتين وجناحيّ أنفه المرتجفين أبداً. ويختلط في ذهني الخيال بالواقع فأتمثل ملّوكي شاباً في العشرين من عمره فلا أكاد أميزه عن ولده شهاب. فشهاب ذو وجه صغير وأنف أشم مرتجف الجناحين وعينين لامعتين ذكيتين. كان صورة مصغرة من أبيه.
ويرفع ملّوكي رأسه فجأة عن حذاء بين يديه ويسألني برقة: هل تريد أن أصلح لك حذاءك يا نور عيني؟
ثم يقبل على حذائي يفحصه بدقة ويهز رأسه بإعجاب ويقول: منتوجات معمل الشرق.. صناعة مفتخرة لا عيب فيها.
فأرد عليه: إنه لا يحتاج إلى إصلاح يا عمي.
فيقول: كما تحب يا نور عيني. أنا خادم جميع أصدقاء ولدي شهاب.
وينصرف إلى عمله ويغرق فيه. وتمر الدقائق بطيئة ثم أسأله : متى يعود شهاب يا عمي؟
فيرفع رأسه وقد أشرق وجهه وومضت عيناه، ثم يتمتم بلطف: قريباً إن شاء الله يا نور عيني.
لم يكن ملّوكي يتحدث عن ابنه إلا إذا سئل عنه. لكنه كان يبدو مشغولاً بالتفكير فيه طوال الوقت. ولم أكن أغفل مرة عن سؤاله عن شهاب. ويغرق ملّوكي في صمته وهو عاكف على عمله، ثم يطالعني بنظرات رقيقة ويقول: أنت صديق ولدي شهاب يا نور عيني وتدري أنه يحب عروسه كثيراً. إنهما سافرا وسيرجعان قريباً إن شاء الله.
لم أكن صديق شهاب في الحقيقة وإن كنا معلمين في مدرسة واحدة. كانت تربطنا زمالة سطحية. غير أنني مطّلع على قصة غرامه وزواجه من أمل الجلبي. وجميع شبان بلدتنا يحفظون عن ظهر غيب تفاصيل تلك القصة. كانت حدثاً لا يكاد يتكرر في بلدتنا. وقد اعتبرها الأعيان بادرة سيئة تهدد التقاليد العريقة في بلدتنا. أما الشبان فهللوا لها وعدّوها طفرة لبلدتنا إلى الإمام.
عرف شهاب ملّوكي أمل الجلبي معرفة عابرة شأنه شأن أي شاب في بلدتنا. كانت أمل باهرة الحسن. وكان تنزّهها كل عصر في شارع البلدة العام يبعث الغبطة في قلوبنا، ولكنها كانت تُشعر الجميع بغرورها، لذلك لقبناها بـ "الطاووس". وكان أحدنا يسأل الآخر وهو يتنزه عصراً في الشارع العام : "هل رأيت الطاووس اليوم؟".
ولم يكن أي واحد منا يطمع بنظرة منها. وكان شهاب ملّوكي أبعدنا عن التفكير في حبها. فأمل الجلبي – فضلاً عن زهوها بجمالها – ابنة رجل من أكبر أعيان البلدة هو جابر الجلبي. أما شهاب فهو ابن رجل من أشهر مصلحي الأحذية في البلدة هو ملّوكي الركّاع. وربما أرسلت أمل بعض أحذيتها إلى دكانه لإصلاحها. لكن الحب أعمى كما يقولون.
ولا أزعم أنني مطّلع على دقائق القصة. لكن صديقي عبد الكريم الحاج خلف حكاها لي وهو من أصدقاء شهاب المقربين. ولعلها بدأت يوم تقرر إقامة معرض فني لمدارس البلدة فتولّى شهاب الإشراف على القسم الخاص يالتلاميذ ، وتولت أمل الإشراف على القسم الخاص بالتلميذات. وكان لقاؤهما يتكرر كل يوم فيتبادلان الملاحظات حول تنظيم المعرض. ولا بد لي أن أذكر أن شهاب ملّوكي كان أمهر رسّام في بلدتنا. وقد أولع أبناء بلدتنا برسومه ولمسوا فيها تعبيراً رائعاً عن واقعهم. ويظهر أن أمل الجلبي أعجبت بها هي أيضاً. وقد شاهدها عبد الكريم الحاج خلف وهي تستجدي إطراء شهاب لرسومها. وكان شهاب ملّوكي شاباً بسيطاً صريحاً لا يحسن المصانعة. فصارحها برأيه وأكد لها حاجتها للمران، فأغضبتها صراحته وخاصمته خصاماً شديداً. وهناك قول مأثور إن الحب العنيف يبدأ بخصام عنيف. وهذا ما حدث لشهاب ملّوكي وأمل الجلبي، فما درينا إلا وقصة حبهما على كل لسان.
كيف حدثت؟! كيف تطورت؟ لا أحد يعلم بالضبط. وكانت القصة مثار دهشة شبان بلدتنا. وجعل يسائل بعضهم بعضاً في تشفً: "هل وقع الطاووس في الحب حقاً؟" ومع أن أمل الجلبي كانت مطمح أي شاب في بلدتنا، لكن أيّ واحد منهم لم يحسد شهاب ملّوكي على الظفر بحبها. فقد كان شهاب يحظى بإعجاب الجميع، وكنا نفخر بأن بلدتنا أنجبت رساماً مثله قد يكتب لها الخلود في التاريخ.
وطالت قصة العاشقين وعرضت. وأثارت استنكار عائلة الجلبي وسخطهم. ويقال أن جابر الجلبي قال مرة أمام جمع من ضيوفه في (قبوله) الأسبوعي: "أيحلم الركّاع حقاً بمصاهرة أسرتنا؟! هذه نهاية الزمان". أما ملّوكي الركّاع فقد سمع بالقصة من أفواه الناس فضحك وقال بعجب: "خلف الله عليك يا شهاب. أتطمع بمصاهرة أسرة الجلبي؟ أنقفز هكذا طفرة واحدة من الأحذية إلى المقامات العالية ؟ قد نسقط وتنكسر ظهورنا ". ولم يحمل القصة على محمل الجد. لكن العاشقين كانا – كما ظهر - يعدّان العدة للزواج حالما تسنح لهما الفرصة. ولم يكونا يعبآن برأي جابر الحلبي ولا برأي ملّوكي الركّاع. فما أن عُيّن شهاب مدرساً للرسم في "المدرسة الشرقية" حتى شاع في البلدة نبأ زواجه من أمل الجلبي. وتساءل الأعيان في انزعاج: "هل وقعت الواقعة حقاً؟" وتساءل الشبان بسرور: "هل انتصر الغرام حقاً؟".
وكان واضحاً أن الغرام قد انتصر فعلاً. فقد انتقلت أمل الجلبي إلى منزل ملّوكي الرّكاع وعاشت مع شهاب. وكان شهاب قد استأجر لأسرته داراً متواضعة في الحي الجديد 0 وتوافد الأعيان على جابر الجلبي يعزونه ، وقصده حكماء بلدتنا يواسونه 0 فكان يزم شفتيه ويهمهم: ليس لي ابنة بهذا الإسم0
حدثت هذه القصة قبل أن يغتصب البرابرة الطغاة بلدتنا ببضعة أشهر 0 وقد بقي أبناء بلدتنا يتناقلونها في دهشة حتى طمست ذكرها فظائع البرابرة0 وتوالت النكبات على بلدتنا فلم تعد تشغلنا قصص الغرام. وشغلتنا قصص المعذبين في البيت فوق التل وغارات البرابرة الليلية على البيوت المروّعة.
وذات صباح شاهدنا صورة كبيرة معلقة في الميدان الرئيسي تمثل البيت فوق التل وقد أضرمت فيه النيران . وخط تحت الصورة بحروف كبيرة: "أفيقوا من سباتكم يا أبناء بلدتنا". كانت صورة رائعة أشعلت الغضب في صدور البرابرة. وانهالوا بأعقاب البنادق على كل شخص يجتاز الميدان الرئيسي ويقف متأملاً الصورة. وسرى الهمس بيننا: "من الذي رسم الصورة؟" .
مر أسبوع وكاد ينسى أمر الصورة. ثم فوجئنا بصورة أخرى قد ثبتت في الجدار المواجه لدار السينما. وبدا في الصورة أحد أبناء بلدتنا معلقاً من يديه في الهواء وسياط البرابرة تلهب جسده، وكتب تحتها بخط عريض:"إنقذوا إخوانكم يا أبناء بلدتنا". وجنّ جنون البرابرة وقلبوا بيوت البلدة بحثاً عن صانع الرسم.
وانقضى أسبوع آخر فطالعتنا صورة جديدة مربوطة على عمود الكهرباء في التقاء الشارع العام بالسوق الكبير. وتمثلت في الصورة امرأة علّقت في الهواء من قدميها وقد أحاط بها البرابرة ضاحكين. وكتب تحتها بخط عريض: "هل فقدتم كرامتكم يا أبناء بلدتنا؟"
وتضرجت وجوه أبناء بلدتنا خجلاً وهم يتطلعون إلى الصورة. وأكل الحقد قلوب البرابرة الطغاة. وعبثاً حاولوا العثور على الرسام الشجاع.
مضى أسبوع رابع وإذا بصورة جديدة تواجهنا على الجدار المقابل لدار البلدية. وبدا فيها الطاغية الأكبر البرابرة في شكل قزم بشع ملطخ الوجه بالنجاسة وهو يطأ بحذائه رؤوس أبناء بلدتنا، وكتب تحت الصورة: "اثأروا لكرامتكم يا أبناء بلدتنا".
كانت كل صورة من تلك الصور تؤجج الثورة في صدورنا، لكننا ظللنا مغلولي الأيدي. تغلغل الخوف في أعماقنا فأحالنا إلى دمى عاجزة. واحتدم غيظ البرابرة وبلغ قمته وصمموا على اعتقال الرسام بأيّ ثمن.
وبعد أيام شاع في البلدة أن البرابرة الطغاة اقتادوا شهاب ملّوكي وأمل الجلبي إلى البيت فوق التل. وغابت الصور الرائعة عن بلدتنا منذ ذلك اليوم.
انقضت الأيام والأسابيع والغارات الليلية على العوام تشتد ضراوة. وكان الأعيان يبتسمون في سرور ويهزون رؤوسهم شامتين. وفجأة أشيع في البلدة أن جابر الجلبي غاضب على البرابرة. وقال البعض وهم يهزون رؤوسهم: "هذه إشاعة سخيفة فلا يمكن لجابر الجلبي أن يغضب من البرابرة".
وأثارت الإشاعة دهشة الجميع. فجابر الجلبي كان أشد الأعيان تحمساً لانتصار البرابرة الطغاة. وقد قال بعض العوام أنهم شاهدوه في ذلك اليوم على رأس مظاهرة الأعيان وهو يهزج في ميدان البلدة. لكن حكماء بلدتنا كذبوا هذا القول. والحقيقة أن الأعيان سُروَا لانتصار البرابرة الطغاة، ولولاهم ما تحقق ذلك النصر. ولم يكن جابر الجلبي بِدْعا بينهم. وقويت الشائعات عن غضب جابر الجلبي على البرابرة فاقتنع بصحتها الكثيرون. لكن البعض ظل ينفيها بإصرار. وقال هؤلاء: "لماذا يغضب جابر الجلبي على البرابرة مادام لا يهمه مصير ابنته؟ إنه هز رأسه استهانة حينما علم باعتقالها وقال: "هذا جزاء من تختار ابن الركّاع زوجاً لها!".
ثم برهنت الأيام على صدق تلك الشائعة. فقد شاهد أبناء بلدتنا جابر الجلبي يوماً يحادث البرابرة في الميدان الرئيسي في هياج وغضب. وسرى في البلدة خبر يؤكد أن أسرة الجلبي مهتمة بمصير أمل، وأن اهتمامها يشوبه ذعر وفزع. وقيل أن جابر الجلبي قد زار الطاغية الأكبر وتوسل إليه أن يطلق سراح ابنته لكن توسلاته ذهبت مع الريح. وتتالت وفود الأعيان على الطاغية الأكبر تتوسط لإطلاق سراح أمل الجلبي. ثم سمعنا يوماً أن البرابرة أطلقوا سراح أمل الجلبي وزوجها شهاب ملّوكي. وهرع أبناء بلدتنا إلى دكان ملّوكي الركّاع يستطلعون الخبر، فطالعهم ملوكي بوجه واجم حزين. وكان يتمتم وهو يهز رأسه: "نعم، إنهم أطلقوا سراحهما، ولكن الله وحده يعلم ماذا فعلوا بهما".
لم يظهر شهاب ملّوكي في شوارع البلدة، ولم يرَ أحد أمل الجلبي. وفسرَ أبناء بلدتنا هذا الاختفاء بحاجة الزوجين إلى الاستجمام. لكن البلدة أفاقت بعد أيام على نبأ هز كيانها وأشاع الخزي والألم في نفوس أبنائها جميعاً. فقد عثر صيادو السمك في الطرف الشمالي من النهر علي جسدي شهاب ملّوكي وأمل الجلبي وهما بكامل ملابسهما. ووجدت في حقيبة أمل رسالة بتوقيع شهاب وأمل موجهة إلى أبناء بلدتنا تقول:
"إلى أهالينا وأبناء بلدتنا،
اخترنا الموت لأن الحياة باتت مستحيلة علينا ونحن نواجه العار الذي لطّخنا به البرابرة الطغاة. لقد اغتصبونا على مرأى من كل منا. لن تهدأ روحانا حتى تطهر من هذا الخزي. ولن تطهر روحانا حتى تغسلوا عار بلدتنا وتسحقوا البرابرة الطغاة".
لقد حفظ كل شخص في بلدتنا هذه الرسالة عن ظهر قلب، لكن أحداً منا لم يجسر على تلاوتها أمام صاحبه. وغمر عارها البلدة حتى أوشك أن يغرقها. وكان ملّوكي الركّاع يذكرنا أبداً بذلك العار. فقد أنشأ كوخاً من القصب في الموضع الذي انتشل فيه الغريقان وأقام فيه يرتقب عودة الزوجين من رحلتهما الأبدية.
أفقت من خواطري الحزينة والتقت عيناي بعينيّ ملّوكي وهما تسرحان في النهر. وحينما انتبه إليّ تمتم وهو يهز رأسه في وداعة : "نعم يا نور عيني.. سيعودان قريباً إن شاء الله".

الحكاية السادسة
حادث شنيع
إنه لحادث شنيع ذلك الذي وقع لعائلة محمد علي الخياط. ومع أن أبناء بلدتنا ألفوا الفظائع منذ أغتصب البرابرة الطغاة بلدتنا، فقد هزّوا رؤوسهم في ذهول. ورفض بعضهم أن يصدّق الحادث.
وكنت أعرف محمد علي الخياط معرفة وثيقة، فهو خياطي المفضل. كان يجتذبني بثقافته ودماثته. وكثيراً ما أمضيت الساعات في دكّانه نتبادل الحديث في شؤون البلدة. واعتاد الأسطى محمد علي أن يحمل على الأعيان ويتحمس للعوام. والحقيقة أن محمد علي الخياط لم يكن يستهويني بآرائه فحسب فقد كنت أيضاً معجباً بابنته سلمى. وكان كل شاب في بلدتنا يتمنى أن يظفر بنظرة منها. لكنها كانت فتاة رزينة جداً. لم تكن تتلفت يمنة أو يسرة وهي تتنزه في الشارع الرئيسي. وحينما تقصد إلى المدرسة كانت تتأبط حقيبة كتبها وتسير في احتشام وعيناها مصوبتان إلى الأمام. وكنت أتخيلها دائماً وهي في هذا الوضع. وأعترف بأن إعجابي بها كان عظيماً. ولو سمحت لنفسي لتطور ذلك الإعجاب إلى حب جارف. فلما اغتصب البرابرة الطغاة بلدتنا شغلت بمصائب البلدة، ولم أعد أرى محمد علي الخياط إلا عرضاً.
وذات صباح لمحت محمد علي الخياط يهرول في الشارع العام مشدوهاً. فأدركت في الحال أن البرابرة قد اغتصبوا بيته. ولكن من تراهم ينشدون إن لم يكن محمد علي نفسه؟! فأسرته صغيرة قوامها ثلاث بنات كبراهن سلمى وطفلة صغيرة لا تزال رضيعاً.
تلًفت حوالي فوجدتني بمنجى من مراقبة البرابرة فجريت وراءه منادياً: "أسطى محمد علي.. أسطى محمد علي".
توقف مبهور الأنفاس وطالعني بنظرات زائغة. كان (يشماغه) بلا عقال و (صايته) بلا حزام. هجم عليّ وأمسك يديّ بقوة وتمتم: رحماك يا أخي.. رحماك. أخذها البرابرة أمس.
هتفت مرتاعاً: أخذها البرابرة؟! من ؟!
فتمتم لاهثاً: سلمى.
وخيّل إلى أنه أهوى بجمعه على رأسي فصحت مذعوراً: ماذا تقول؟ اعتقلوا سلمى؟
فهمهم: اعتقلوها يا أخي. اعتقلوها. كيف السبيل إلى إنقاذها؟
لبثت مذهولاً وقد سحقني الأسى. قال محمد علي الخياط وهو يراوح قدميه في اضطراب: اسمح لي يا أخي أن أنصرف. قالوا لي إنهم قد يطلقون سراحها اليوم بعد تحقيق بسيط. أنا ذاهب الآن للاستفسار عنها.
وددت لو رافقته لكن البرابرة الطغاة يأبون تدخلنا. وتولى عني مهرولاً، لكنه كان يتباطأ في سيره كلما لمح أحد البرابرة من بعيد لئلا يطلق عليه الرصاص. وتابعت طريقي وقد جثم على صدري هم ثقيل. وبدا لي فجأة أن عاطفتي تجاه سلمى تتجاوز الإعجاب المحض. كيف السبيل إلى إنقاذها من براثن البرابرة وهي الفتاة الجميلة الفاتنة؟ رددت هذا السؤال مع نفسي وقد دهمني يأس ساحق. وأيقنت أن إطلاق سراحها كذبة محضة.
وكان البرابرة الطغاة قد أمعنوا في اعتقال الفتيات مؤخراً. وقد تحرّجوا في البدء من اعتقال النساء. حسبوا أن أبناء بلدتنا لن يسكتوا على هذا الضيم. فلما اعتقلوا أمل الجلبي استاء أبناء بلدتنا لكنهم جبنوا ولاذوا بالصمت. فأطمعهم هذا السكوت. وأخذوا يقتادون فتياتنا واحدة تلو الأخرى إلى البيت فوق التل. ثم شاع في بلدتنا أن البرابرة الطغاة يعلقون فتياتنا من أيديهن عاريات في الهواء فانتابنا ذعر كاسح. كيف يمكن أن تعرض فتياتنا لهذا الموقف وهن اللواتي يأبين حتى النظرة البريئة؟!
واجتمع حكماء بلدتنا في (علوة) الشيخ جواد الحسن وتشاوروا في الأمر. ثم استقر رأيهم على إرسال وفد إلى الطاغية الأكبر يستعطفه للكفّ عن اعتقال النساء. وتألف وفد من حكماء بلدتنا برئاسة الشيخ جواد الحسن وحمل معه الهدايا وانطلق لمقابلتهِ فاستقبلهم باحتقار. وألقى فيهم خطبة لئيمة شرح لهم فيها سياسية البرابرة الحكيمة في إعتقال النساء. وأكّد لهم أن أمثال هؤلاء الفتيات عديمات العرض والشرف ولا خوف عليهن. ثم أعلن للوفد أنه سيسحق رأس كل من يعارض تلك السياسة الحكيمة. فعاد الوفد يجر أذيال الخيبة والذل. وذهب هذا الموقف بآخر ما تبقى لدينا من كرامة. وطأطأنا رؤوسنا ولم نعد نجرؤ على تبادل النظر. وصار أبناء بلدتنا يمشون في الشوارع وهم منكسو الرؤوس. وكان البرابرة المتربصون بنا على نواصي الشوارع وفي تقاطع الطرقات يرموننا بنظرات ساخرة وهم يربتون على بنادقهم في اعتزاز.
قصدت دكان محمد علي الخياط عصراً فألفيته مغلقاً. فأستبد بي القلق وتكاثفت في قلبي الهموم. وفكرت في زيارته في مسكنه لكنني شعرت بالحرج فلم يسبق لي أن زرته في داره. ثم إن المنزل لا بد أن يكون مراقباً. فقد اعتاد البرابرة أن يراقبوا كل بيت يحتجزون أحد أفراده. ولا بدّ لمن يتردد على مثل هذا البيت أن يورط نفسه. لذلك انقطع أبناء بلدتنا عن التزاور. وكفّ البعض عن التحدث إلى الآخرين إبعاداً للشبهات. وتمادى البعض الآخر في الحذر، فقاطع الأخ أخاه والصديق صديقه والقريب قريبه ليكون في مأمن من أذى البرابرة. وكان أبناء بلدتنا متوادّين يحب بعضهم بعضاً ويتفقد الآخر في أفراحه وأتراحه. لكن الخوف قهر كل عاطفة.
لم أتردد طويلاً ووجدتني أتخذ طريقي عصراً إلى منزل محمد علي الخياط. تقدمت من الباب حذراً ونقرت عليه نقراً خفيفاً. أطل رأس محمد علي الخياط من نافذة عليا، وما أن لمحني حتى أسرع يفتح الباب. بادرته بلهفة: ما أخبار المحروسة يا أسطى محمد علي؟
قال وهو يقودني إلى غرفة بجوار الباب: لا شيء يا أخي. لم أظفر من البرابرة بشيء. لا أظن أنهم سيطلقون سراحها.
هتفت بانزعاج: يا للبرابرة الأنذال!
لاحظ محمد علي انزعاجي فقال وهو يهز رأسه في كمد: أنت أخ وفيّ حقاً، وأنا أشكرك على اهتمامك بمصير ابنتي.
وسكت لحظة ثم أضاف بحزن عميق: يا لسوء حظها وحظنا! وقعت بأيدٍ لا ترحم.
قلت في غيظ: ليس عبثاً أن لقبوا بالبرابرة يا أسطى محمد علي.
وران الصمت علينا ولم نجسر على تبادل النظر. وانشغل كل منا بمصير سلمى الأسود بين أيدي البرابرة. وفجأة أنفجر محمد علي ينشج بصوت مكتوم واهتز جسده كما تهتز النخلة في الريح العاصف. وقال بصوت مخنوق: كيف اطمئن عليها وهي بين أيدي البرابرة يا أخي؟!
امتدت يدي إلى عيني تمسح دمعتين كبيرتين تعلقت بأهدابهما. وربَتّ على كتف محمد علي برفق. ثم هدأ جسده وخفت نشيجه فأخرج منديله ومسح دموعه. قال أخيراً بصوت مكلوم: أعذرني يا أخي. هذه المصيبة هزت أعصابي. لا تلمني إذا رأيتني أبكي كالنساء. هذه هي المرة الأولى التي ابكي فيها منذ توفى المرحوم والدي.
عدت أربَتّ على كتفه وأنا عاجز عن الكلام. كانت بي حاجة إلى من يخفف لوعتي، فكيف باستطاعتي أن أهوّن عليه مصيبته؟
التفت إليّ عقب صمت ثقيل وتساءل: هل علمت أن البرابرة يعذبون الفتيات في البيت فوق التل كما يعذبون الشبان؟
قلت وأنا أهز رأسي: هذا ما سمعته.
وصمت محمد علي طويلاً وهو يحدق في الفراغ ثم تمتم بصوت مكلوم: كيف ستحتمل سلمى الضرب بالسياط والتعليق من اليدين والقدمين؟! بل كيف تواجه الموقف حينما يتفرج البرابرة على جسدها العاري المعلق في الهواء؟
فتلبثت واجماً مشتت الفكر. ثم سمعته يقول بلهجة مسحوقة: والأدهى من ذلك ما سمعته بأن البرابرة يغتصبون فتياتنا.
هتفت مهتاجاً: هذا مستحيل.. كيف يمكنهم أن يقدموا على هذه الفعلة؟
نظر إليّ محمد علي بعينين زائغتين ثم تساءل بمرارة: ولماذا مستحيل؟! أليسوا برابرة؟!
قلت مقهوراً وأنا أحني رأسي: صحيح.. الحق معك.. إنهم برابرة ولا يتورعون عن ارتكاب أبشع الأفعال.
وغلبنا الصمت. بقيت خافض الطرف بينما زاغت عينا محمد علي تحدقان في الفراغ. وطال بنا الصمت الحزين حتى شعرت أنني أوشك أن أختنق. فاستأذنته في الانصراف. رافقني إلى الباب وقال: أشكرك يا أخي على اهتمامك بمصيبتي. تناسى أبناء بلدتنا عاداتهم الطيبة في تفقد بعضهم بعضاً.
فتح الباب ومدّ رأسه من شقّه متلصصاً، وقال متعجلاً: اذهب في حراسة الله يا أخي فالطريق خالية من البرابرة.
فانصرفت مسرعاً.
وفي عصر كل يوم كنت أمرّ بدكان محمد علي الخياط فأجده مغلقاً فيشتد حزني لذلك. وفي عصر يوم الخميس لمحت دكان محمد علي الخياط مفتوحاً فهرعت إليه خافق القلب. ورأيت أكوام القماش منثورة على المنضدة الطويلة وفوق الرفوف . وكان محمد علي يجلس متربعاً على المقعد ونظراته سارحة في الفضاء. فأدركت أن سلمى لا تزال حبيسة البيت فوق التل. ألقيت التحية وجلست بجواره صامتاً. التفت إليّ وتمتم بصوت خافت: الله بالخير.
فقلت: الله بالخير.
وبسط الصمت علينا جناحيه الثقيلين. حاولت مراراً أن أسأله عن سلمى، لكن نظراته الشاردة كانت أبلغ جواب. قلت أخيراً: كنت أمر كل يوم على الدكان فأجده مغلقاً.
قال بلهجة كسيرة: أشكرك يا أخي .. أشكرك.
وعاد الصمت يجثم فوق رؤوسنا. اختلست منه نظرات حزينة والأسى يملأ جوانحي. بدا كمن كبر عشرين عاما في غضون أسبوع. انحنى ظهره وتقوّست كتفاه. قال أخيراً وهو يطالعني بنظرات كسيرة: الناس يريدون ملابسهم وأنا عاجز عن العمل. لكأن يديّ شلتا.
فقلت: لا بد لزبائنك أن يعذروك يا أسطى محمد علي.
قال وهو يهز رأسه: الناس لا يعذرون يا أخي.. وصاحب الحاجة أعمى كما يقولون.
قلت: هل من أخبار جديدة عن المحروسة؟
أطلق زفرة وغمغم: ومن أين لي بالأخبار يا أخي؟ من أين لي بالأخبار؟
فقلت مترفقاً: لا تيأس يا أسطى محمد علي.. الله كريم.
غمغم بلهجته المرّة: لا حياة لنا مع هؤلاء البرابرة يا أخي.. الموت أرحم بنا.
وسكت لحظة ثم أضاف وهو يهز رأسه: كتب علينا نحن العوام أن نظل مخذولين طول عمرنا.
فقلت: ولكننا سنقهرهم في النهاية يا أسطى محمد علي وسنطلق سراح جميع إخواننا وأخواتنا المعتقلين في البيت فوق التل.
رفع محمد علي رأسه وتفرّس في وجهي بنظرات وحشية ثم تساءل في تهكم مرّ: ومتى ستطلقون سراح أخواتكم المعتقلات في البيت فوق التل؟! متى؟! بعد أن ينتهك البرابرة أعراضهن جميعاً؟
فقلت في ارتياع : حاشا لله . . حاشا لله .
فقال بلهجته الوحشية: ما رأيك أنهم قالوا لي وهم يقهقهون: "لا داعي لاستعجالنا في إطلاق سراح ابنتك وتمهل حتى ينبت لك قرنان كبيران"؟
انتفضت كالملسوع، وارتعد جسدي كريشة في مهبّ الريح. وصرخت مهتاجاً: حاشا لله . . حاشا لله .
تأملني محمد علي بنظرات حزينة ثم تساءل بصوت مخنوق: ما عسانا نصنع إذن أنا وأمها وقول البرابرة هذا يدوّي في أسماعنا ليل نهار؟ إذا أغمضنا جفوننا لحظة في الليل هببنا مذعورين وصرخات سلمى تمزق آذاننا.
تشبثت صورة سلمى بذهني وقد تناهب جسدها البرابرة وصكّت صرخاتها المرعوبة سمعي. وعجزت عن التماسك فنهضت صامتاً وغادرت المكان.
في صباح اليوم التالي ارتجت بلدتنا أسى لما وقع لعائلة محمد علي الخياط. فقد وجدت مشنوقة بكامل أعضائها من البنات حتى الطفلة الرضيع! وعلمنا انه قد اختطف رشاشة من أحد البرابرة وقتل عددا منهم قبل أن يخر صريعا .

الحكاية السابعة
دعابة سخيفة
ظلّ أبناء بلدتنا يترقّبون يوم الخميس على أحرّ من الجمر. وكان الواحد منهم يستوقف الآخر في الطريق ويسأله: "هل علمت أن موعد الزيارة هو صباح الخميس؟".
فيرد عليه الآخر: "بالطبع صباح الخميس الساعة الثامنة. لا تنسَ أن تحضر في الساعة السابعة".
فيقول له: "الأفضل أن تحضر في الساعة السادسة. سيكون الازدحام شديداً".
ويفترقان ووجهاهما يطفحان بشراً. وكانت الأمّهات يسألن الآباء: "متى يحلَ يوم الخميس؟ لم يعد فينا صبر".
فيرد عليهن الآباء: "ما هي إلا أيام معدودات ويحلّ يوم الخميس. صبرنا شهوراً طويلة، ونستطيع أن نصبر أياماً أخر. كان الله مع الصابرين".
لكن الأمّهات لم يعدن قادرات على الصبر. كنّ يحسبن الساعات في انتظار الخميس. ويا له من حساب شاق! وحين يجن الليل كنّ يتملّقن النوم عبثاً. كان يفرّ منهن فتظل أجفانهن مفتوحة وعيونهن معلقة بالسقف!
وانثنى الأطفال يرقصون في الأزقّة وباحات البيوت في إنتظار يوم الخميس. وكان الواحد منهم يرمق أمّه بنظرة ارتياب أحياناً ويتساءل: أصحيح أنني سأرى بابا يوم الخميس؟
فتردّ الأمّ فرحة: صحيح يا ابني.
فيسأل الطفل في نفاذ صبر: لكنك قلت لي مراراً أنني سأراه فلم أره، فهل تكذبين عليّ هذه المرة ايضاً؟
فتضحك الأمّ في حبور وتقول في مرح: فأل الله ولا فألك يا بنيّ.. سترى بابا فعلاً هذه المرة.
وهكذا ترقّب أبناء بلدتنا جميعاً، رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً يوم الخميس بأعصاب مشدودة وقلوب عامرة بالغبطة.
وكانت السيارات قد طافت شوارع بلدتنا وهي تحمل مكبّرات الصوت. وأعلن البرابرة الطغاة أنهم اختاروا يوم الخميس موعداً لزيارة المعتقلين في البيت فوق التلّ. كانت مفاجأة مذهلة لأبناء بلدتنا. فلقد سبق أن رفض الطاغية الأكبر بإصرار السماح بهذه الزيارة، ولم يلن قلبه لتوسلات الوفود التي ذهبت لمقابلته. وكنا ندرك أنه ينشد ستر فظائعهم في البيت فوق التل، لذلك لم يصدق أيّ واحد منا الإعلان الذي أُذيع من مكبّرات الصوت. وسأل عبد الحسين العبايجي – وهو ضعيف السمع – جاره أحمد القندرجي : ما سبب هذا الضجيج يا حاج محمد؟ هل سيعيدون فتح سينما البلدة؟
فأصغى احمد القندرجي في انتباه إلى الضجيج ثم قال بسرور: سيسمحون لنا بزيارة أبنائنا في البيت فوق التلّ يا أبا علي.
هز عبد الحسين العبايجي رأسه في استخفاف وقال: يا لها من دعابة سخيفة!
وفي الحال سرت في بلدتنا شائعة تؤكد أن إعلان البرابرة ليس سوى دعابة سخيفة! وسأل أبناء بلدتنا بعضهم بعضاً: "هل سمعت دعابة البرابرة الأخيرة؟" وكان البعض يردّ: "نعم، ويا لها من دعابة سخيفة!".
ومع أن أبناء بلدتنا نسوا الضحك منذ اغتصب البرابرة بلدتنا فقد كان البعض منهم يضحك عند سماع الدعابة السخيفة.
تشاور حكماء بلدتنا في الأمر ثم قرّروا مقابلة الطاغية الأكبر لاستجلاء الحقيقة. وألقى فيهم خطبة لئيمة ختمها بقوله: "هل سمحنا لأنفسنا يوما أن نداعبكم؟! نحن لا نعرف الدعابة. نحن أصحاب جدّ وعمل، ولو أخبرناكم يوما أننا سنقتل جميع المعتقلين في البيت فوق التلّ لكنّا صادقين. ولعلّ هذا اليوم يحلّ قريباً لنخلصكم من شرور هؤلاء المجرمين.. أو لعلّنا ننشئ لهم معتقلاً بعيداً في الصحراء ليموتوا هناك فنجنبكم أذاهم ".
عاد أعضاء الوفد من المقابلة ووجوههم تطفح بشراً. وخلال ساعات قليلة كان خبر مقابلة الوفد للطاغية الأكبر على كل لسان. وزُفّت البشرى من دكان إلى دكان ومن زقاق إلى زقاق، ومن بيت إلى بيت.
انثنت بلدتنا وكأنها تتهيأ لاستقبال عيد يفوق في أهميته الأعياد المألوفة. صحيح أن بلدتنا كانت تستقبل عيد الفطر وعيد الأضحى وهي بحلّة زاهية، بينما انبرت تتأهب لاستقبال يوم الخميس وهي في حلّة سوداء، لكن قلوبنا فاضت بالبهجة. وترقّب كل واحد من أبناء بلدتنا يوم الخميس بلهفة عظيمة .
وبدا على عبد الحسين القصاب انه أعظم الجميع لهفة ليوم الخميس، فقد أخذ يطلق بين حين وآخر قهقهات عالية يدوّي صداها في أرجاء السوق. وكان أهل السوق يرمقونه بغبطة ويتمنون لو يطلقون مثله القهقهات الحبيسة في صدورهم. أما رزّوقي الروّاف فكان يرفع رأسه عن عمله بين الحين والحين ويسأل جاره الحاج رخيّص الهبش:"كم يوماً بقي إلى يوم الخميس يا أبا محمود؟".
فيرد عليه الحاج رخيّص الهبش:"أبشر يا أبا محمد، فيوم الخميس قريب".
وقامت الاستعدادات لاستقبال يوم الخميس في كل بيت من بيوت بلدتنا. وتصاعدت روائح (الكليجة) و (خبز العروك) من كل دار. وقد ظلّ الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة أياماً يبحث عن دجاجة كبيرة. فقد اختفى الدجاج من السوق كليا. وقال البعض:"إن البرابرة منعوا بيعه نكاية بأبناء بلدتنا". وقال آخرون: "إن أبناء بلدتنا ابتاعوا كل ما في السوق من دجاج". وقد سُمع صراخ الدجاج فعلاً وهو يذبح في كل بيت.
وتأهبت "علوة السمك" ليوم الخميس فأحضرت كميات هائلة من السمك. وتعهد عبّود السمّاك بإحضار أحسن أنواع "البنّي" و "الكطّان" و "الشبوط". وكان يردد وهو يطلق ضحكته المجلجلة: سأحمل إلى ولدي عبد الزهرة "شبوطاً" لم تقع العين على مثله.
وفتحت حوانيت الحلوى أبوابها لأول مرة منذ اغتصب البرابرة بلدتنا. وأعلن عبد علي الشكرجي أنه خفّض أسعار "البقلاوة " و"الزلابيا" و"من السما" لتكون في متناول الجميع. وعلمنا أنه أعدّ لولده عبد الأئمة صينية لم يُصنع لها مثيل من قبل.
وتساءل الآباء والأمهات في حيرة:"ماذا يُفضّل أبناؤنا من مأكولات؟" واجتهدوا في أن يذكّر بعضهم بعضا بما يُفضّله أبناؤهم من مآكل.وكانت الزوجات الشابات يسألن أطفالهن في مرح: "هل تعرفون ماذا يحب بابا من الحلوى؟"
فيفكر الأطفال قليلاً ثم يهتفون في انتصار: "بابا يحب الشكرلمة"، و"بيض اللقلق" و "شعر بنات" .
وتوهجت المصابيح ليلة الخميس في بيوت بلدتنا حتى الصباح. وترددت الأصوات الفرحة وراء جدران كل دار. وانبعثت روائح شهية من كل بيت. ولم تغمض جفوننا حتى الصباح.
ومنذ الصباح الباكر فتحت الأبواب على مصاريعها وانطلقت أسراب النساء والرجال والشيوخ والأطفال ميمّمة صوب البيت فوق التلّ. وحمل كل شخص سلّة أو زنبيلاً أو حقيبة أو صرّة صغيرة. وبدا للمشاهد كأن أبناء بلدتنا يهجرونها إلى بلدة أخرى. وتجمع أبناء بلدتنا عند أسفل التلّ وكأنهم في يوم الحشر!
كان صباحاً كئيباً تجهمت فيه السماء. وأنذر البرق الخاطف والرعد المتقطع بمطر ثقيل. رفعنا إلى السماء أنظارا قلقة وابتهلنا إلى الله أن تعفينا السماء اليوم من مطرها. وحين دقّت ساعة البلدية السادسة تماماً تجمع أبناء بلدتنا جميعاً بجوار التلّ. لم يتخلف أحد منهم فكأنهم كانوا على موعد للقاء هناك!
غمغم رزّوقي الروّاف في ضيق وهو يستمع إلى دقات الساعة: لا يزال أمامنا ساعتان من الانتظار. كان الأحسن لنا ألاّ نحضر مبكرين.
فاتجهت إليه أنظار الجميع في استنكار. وردّ عليه عبد الحسن القصاب في استياء : غنني حضرت في الساعة الخامسة صباحا. ولو لم أتأخر لبعض الأعمال لحضرت في الساعة الرابعة.
انطلق الأطفال يلعبون ويمرحون ويجري بعضهم وراء بعض. وافترشت الصبايا الأرض بجوار أمهاتهن وهن يتطلعن إليهم في حسد. كنّ تواقات إلى مشاركتهم اللعب لولا نظرات أمهاتهن الرادعة.
وانهمك الدكتور عمر الجرّاح في حديث موصول مع الصيدلي لطفي العبد. وكانا على خلاف منذ سنين طويلة، فكان صلحهما مصدر تفاؤل لنا جميعاً.
دقت ساعة البلدية ثماني دقات، وعدّ أبناء بلدتنا دقاتها وهم يحبسون أنفاسهم. تهللت الوجوه وفاضتّ بالبشر، وتعلقت العيون المتلهفة بالبيت فوق التلّ. وتوقعنا أن تُفتح أبوابه على مصا ريعها في الحال ويؤذن لنا بالدخول. لكن الدقائق انسابت متباطئة والأبواب المغلقة تواجهنا بمنظرها الكالح. وساد السكون وبدت الساحة المائجة بالبشر كمقبرة مهجورة. تعالى صوت أحد الأطفال وهو يسأل أمه غاضباً: أين بابا؟ ألم تعديني أن أراه في الساعة الثامنة؟
وهتفت امرأة مسنّة قد تساقطت أسنانها: أين حفيدي علاّوي؟! أين هو؟! قالوا لي أنني سأراه في الساعة الثامنة.
وصاح شمخي الدلال : وعدنا أن نرى أبناءنا في الساعة الثامنة فهل كذبوا علينا؟
ثم اختلطت صيحاتنا فغدت ضجيجاً لا يُفهم. وبكى طفل وصرخ آخر. انفرج الباب الكبير فجأة وظهر الطاغية الأكبر يحيط به ثَلة من البرابرة الطغاة . و صُوبت بنادقهم إلى صدورنا. وغشينا الصمت، وحبس الجميع أنفاسهم. تهللت وجوه البعض أملاً وتجهمت وجوه الآخرين يأساً. بدا وجه الطاغية الأكبر جامداً كالصخر، ولم يوح بما يبشّر بالخير. بقي صامتاً دقائق خُيّل إلينا أنها ساعات وهو يتفرّس في وجوهنا في ترفع واستعلاء . وأدركنا أنه يستعد لإلقاء إحدى خطبه اللئيمة فقد بدأ يتنحنح بصوت كالرعد. وأخيراً صرخ بصوته الغليظ:
"أيها الرعاع
تعلمون أننا بذلنا قصارى جهدنا لتوفير الطمأنينة لكم، ولا نبغي من وراء ذلك جزاء ولا شكوراً. ونحن نواصل العمل ليلاً ونهاراً لإدارة شئون هذه البلدة التعسة. وقد فكّرنا بحاجتكم لرؤية أبنائكم المجرمين المعتقلين هنا. وعقدنا العزم على السماح لكم برؤيتهم صباح هذا اليوم بالرغم من مخالفة ذلك لكل التقاليد المرعية. ولكننا فوجئنا بالسماء تغيم، وها هي تمطر الآن، لذلك قررنا إلغاء الزيارة".
انقضّ صراخه على رؤوسنا كالصاعقة، وتبادلنا نظرات زائغة. ولم يجرؤ أي واحد منا على الكلام. كنّا نجبن دائماً في اللحظة الأخيرة. ولولا تخاذلنا ما قهرنا البرابرة. أطرقنا والغضب يغلي في صدورنا. ثم صاح بغتة طفل صغير: أريد أن أرى بابا.
وهتفت صبية صغيرة: وأنا أريد أن أرى أختي سعدية.
وفي تلك اللحظة أومض البرق ودوّت السماء برعد قاصف، ثم بدأ المطر يتساقط رذاذاً. تطلّع الطاغية الأكبر إلى السماء وقال بغطرسة: السماء تمطر وقد أُلغيت الزيارة.
قال عبّود السمّاك بصوت مختنق: السماء تمطر دائماً يا مولانا، ولم نبالِ بمطرها يوماً.
واستحال الرذاذ إلى وابل من المطر، وبدا كأن السماء قد جنّت. وتسرب المطر إلى ثيابنا فبللّها تماماً، وأوشكت السلال والحقائب أن تمتلئ بماء المطر. قال عبد الحسن القصاب بصوت باك: هدّ الانتظار أعصابنا فأشفقوا علينا يا مولانا.
بقي الطاغية الأكبر صامتاً وطال صمته. وتعلقت عيوننا في لهفة بشفتيه. ثم هزّ رأسه أخيراً بقوة وزمجر غاضباً: أنتم لا تكفّون عن مؤامراتكم القذرة. أقبلتم جميعاً على هذا المكان لتضخّموا عدد المعتقلين وتشوّهوا سمعتنا النقيّة. ولذلك أُلغيت الزيارة، ولن تكون هناك زيارة أخرى. انصرفوا إلى بيوتكم بهدوء.
ثم استدار وغاب مع حرّاسه في جوف البيت. وأغلق الباب الكبير. ولم يفهم أبناء بلدتنا ما قال الطاغية الأكبر بالضبط، وأبى الجميع أن يصدقوا آذانهم. وبقيت عيونهم مصلوبة على الباب الكبير وقد افترسهم صمت كالموت. وفجأة سألت أم بدا صوتها كمواء قطة جريحة: ألن يسمحوا لي أن أرى ولدي كرّومي؟.
وهتف عبد علي الشكرجي بلهجة ذاهلة: هل سيحرمونني من رؤية ولدي عبد الأئمة إلى الأبد؟
وانهارت إحدى الأمّهات وهوت على الأرض، وأصيبت أمّ أخرى بنوبة هستيرية فانطلقت تنحب نحيباً عالياً. وصرخت أمّ ثالثة بصوت مبحوح: كيف أعود إلى بيتي من غير أن أرى ولدي حمّودي ؟! لم أنم منذ ثلاث ليال في انتظار هذا الصباح. لن أعود إلى بيتي إلا إذا رأيت ولدي حمّودي.
واختلطت الصيحات الغاضبة بالصرخات الباكية، وجاشت الساحة بالضجيج. وتجمعت مياه المطر وأحاطت بنا كالبرك، واستحالت الساحة إلى بحيرة من الوحل. وانطلق الأطفال يخوضون في الوحل ويضربون المياه بأقدامهم فيتطاير رشاشها من حولهم. وهامت العيون شاخصة إلى البيت فوق التلّ.
انقطعت الأمطار بعد ساعات وأطلّت الشمس شاحبة وكأنها خجلى لما فعلته بأبناء بلدتنا. وأخيراً انفرج الباب الكبير عن الطاغية الأكبر يطوقه ثَلة من البرابرة. وجثم فوق رؤوسنا صمت مطبق حتى أننا كنّا نسمع أنفاسنا. وعلت الوجوه بشائر الأمل. تطلع إلينا الطاغية الأكبر بنظرات متعالية ثم تساءل في غطرسة: أما زلتم هنا؟
هتفت أمّ باستعطاف: نريد أن نرى أبناءنا صدقة لرأسك.
وقالت أمّ أخرى متضرعة: أجعلها منّة علينا.
وأضاف شيخ بصوت مرتجف: اسمح لي أن أرى حفيدي يا مولاي قبل أن أموت لأدعو لك بطول العمر.
ثم اختلطت الأصوات، وشارك الجميع في التوسل والاستعطاف، صغاراً وكباراً، نساء ورجالاً. وبدا كأن ثمة جوقة موسيقية عظيمة تعزف أناشيد المذلة والخضوع. ورمانا البرابرة من أعلى التلّ بنظرات متعالية وهم يربتون على بنادقهم باعتزاز. رفع الطاغية الأكبر يده أخيراً فصمتنا جميعاً وكأن عصا سحرية أحالتنا إلى تماثيل. ثم قال بزهو وهو يتطلع إلى السماء: أُلغيت الزيارة. انصرفوا إلى بيوتكم.
هبط علينا صمت كالموت. وتلبثنا دقائق جامدين كالتماثيل. وفجأة لمحنا حذاء نسوياً يتطاير في الهواء ويسقط أمام الطاغية الأكبر. وخشخشت البنادق بأيدي البرابرة وسدّدت فوهاتها إلى صدورنا. زمجر الطاغية الأكبر. من التي رمت حذاءها؟ إنني آمرها أن تعلن عن نفسها.
فاستحال المكان إلى مقبرة خرساء. وترددت زمجرة الطاغية الأكبر في الساحة وكأنها عواء كلب. عاد يصرخ غاضباً: حسناً سوف نرى.
انحدر ثّلة من البرابرة من أعلى التلّ وهم يحملون الحذاء وبدءوا حملة التفتيش. وفي اللحظة ذاتها تطايرت أحذية النساء في الهواء وتجمعت في كوم عظيم في طرف الساحة. وأصابت بعض الأحذية رؤوس البرابرة فتصايحوا غاضبين. ثم انسحبوا مسرعين إلى أعلى التلّ وهم يصوبون بنادقهم إلى الصدور. زمجر الطاغية الأكبر أخيراً: أنذركم بالانصراف إلى بيوتكم في الحال وإلاّ تكلمت البنادق.
وكنا نرتعد فرقاً من قول البنادق.فصاح الشيخ جواد الحسن: هيّا بنا إلى بيوتنا فلا فائدة من الانتظار.
لكن الحاج عبد الرزاق العلوجي هتف في التياع: أبويه.. كيف ننصرف إلى بيوتنا من دون أن نرى أبناءنا؟
فصرخ الطاغية الأكبر: انصرفوا إلى بيوتكم أيها الجبناء وإلا تركنا البنادق تتكلم.
أنبأت لهجة الطاغية الأكبر هذه المرة بشرّ مستطير. فدبّ الرعب في قلوبنا، وحمل كل منّا متاعه وقفلت أسرابنا عائدة إلى البلدة. وأعْوَل الأطفال مطالبين برؤية آبائهم، وانتحبت الأمّهات لوعة على أبنائهن، وبكت الزوجات أسفاً على أزواجهن. ومشت قافلتنا يحدوها الصراخ والبكاء والنحيب. وهزّ الرجال رؤوسهم ورددوا في لوعة: "الله كريم".
وفي الطريق توقفت إحدى الأمهات عن السير وصاحت بصوت مبحوح: لن أعيد هذا الطعام إلى بيتي. صنعته لولدي وهو محرّم علينا.
وتنحّت عن موضعها وأفرغت محتويات السلة على الأرض. وتوالت الصيحات مؤيدة، وفي خلال دقائق كان كل واحد من أبناء بلدتنا قد أفرغ ما يحمل من طعام على الأرض. وتعالت أكوام الطعام في شارع البلدة العام وعبق الهواء بالروائح الشهية. وفجأة دوّى هتاف حماسيّ من بين الجموع: "فليسقط البرابرة الطغاة". وإذا بالجميع يهتفون بصوت راعد: "فليسقط البرابرة الطغاة".ثم استأنفت قافلتنا سيرها وهتافاتها الغاضبة تملأ الفضاء.
والتفت عبد الحسين العبايجي أخيراً إلى أحمد القندرجي وقال بمرارة: ألم أقل لك منذ اللحظة الأولى يا أبا جاسم أن تلك الشائعة ليست سوى دعابة سخيفة!

الحكاية الثامنة
الوباء
أصبحت كارثة عائلة محمد علي الخياط إنذاراً مفزعاً قرع جرس الرعب في كل بيت. واندلع الذعر بين أبناء بلدتنا خشية أن يقتلوا فتياتهم قبل أن يقتادهن البرابرة إلى البيت فوق التلّ. ولم يكن احد يدري ماذا تدبر الفتيات الشجاعات . وسرى الفزع فينا كما تسري النار في الهشيم. لم يكن بوسع أحد أن يوقفه. وتجنب كل واحد منا النظر في وجه الآخر لئلا ينكشف ما تضمره الصدور. كان كل منّا يقرأ اتهاما صريحاً في عينيّ صاحبه. ومع أن أحداً لم يصرّح للآخر بمخاوفه فإن عيوننا كانت تفصح عن كل شيء.
وعشعش رعب فريد في كل بيت، وكلكل عليها صمت كالموت. ولاذت الفتيات في الزوايا يختلسن نظرات مروّعة من وجوه آبائهن وإخوتهن. وعجز الرجال عن التطلع في وجوه النساء.
وذات ليلة رُوعت البلدة بصوت ينبعث من دار احمد القندرجي . تساءل الجميع في فزع: "ماذا حدث في بيت احمد القندرجي ؟"
وسرعان ما تناقلت الألسن الجواب: "قتل محمود ابن احمد القندرجي الحاج أخته سليمة حينما حضر البرابرة لاعتقالها بعد أن صرع عدداً منهم. " إذن فقد ضرب الوباء ضربته الثانية فقضى على شابة في ريعان العمر.
كان لا بدّ لأبناء بلدتنا أن يتكاتفوا لصدّ هذا الوباء. وكان لابد لهم أن يجدوا له علاجاً. لم يعد ثمة جدوى من أن ندفن رؤوسنا في الرمال. لكننا لم ندرِ كيف يمكن أن ندرأ خطره عنّا . وارتأى البعض من حكماء بلدتنا أن الحلّ الوحيد لصيانة شرف البلدة هو إبادة نسائها. ورووا حكايات عن غزوات تاريخية اغتصبت فيها البلدة فقتل أبناؤها النساء الناضجات لئلا يفترسهن الغزاة. وكان كل واحد منّا يدرك في أعماقه أن هذا الوباء لا يعالج بقتل النساء البريئات بل بسحق البرابرة الطغاة، لكننا كتمنا أفكارنا لأن الخوف أحالنا إلى دمى عاجزة.
وكان صديقي عبد الكريم الحاج خلف قد فاتحني في هذا الموضوع قبل الكارثة بيوم واحد. كنّا ننتبذ ركناً منعزلاً من أركان قهوة الشمس فقال فجأة بعد صمت طويل: لا أُخفي عليك يا عزيز أنني بتّ أخشى العدوى. ماذا نفعل لنقهر هذا الوباء؟
فقلت: للأسف أصبحنا في حالة مزرية يا عبدالكريم وصرنا مكتوفي الأيدي تجاه هذا الوباء .
فعبس وجهه المرهق وقال في غضب: لعن الله البرابرة الطغاة، كيف استطاعوا أن يذلونا إلى هذا الحد ؟ من كان يتصور أن تحدث مثل هذه الفظائع في بلدتنا فنواجهها بالسكوت والخذلان؟ لماذا لم نستمت في الدفاع عن بلدتنا؟ ألم نكن ندرك ماذا سيفعلون بنا لو اغتصبوا بلدتنا؟ كيف لم نتأهب لمثل هذا اليوم؟
فقلت: أنهم يمتلكون البنادق ونحن عزّل يا عبد الكريم.كان ينبغي لنا أن نستعد لهم .
هزّ عبد الكريم رأسه وقال: ما أشدّ خيبتنا! كنا مشغولين بالنقاش الفارغ مع أن خطرهم لم يغبْ عنّا يوماً.
فقلت: لا فائدة من الندم يا عبد الكريم. ضاعت منّا الفرصة وسيطر البرابرة الطغاة.
تساءل عبد الكريم في غيظ: وهل نبقى مكتوفي الأيدي تجاه طغيانهم؟ هل نظلّ خائفين وجلين ننتظر اليوم الذي يعتقلون فيه فتياتنا أو يقتادونا إلى البيت فوق التلّ؟
فقلت: للأسف أصبحنا ضعفاء يا عبد الكريم وقد زاد من ضعفنا تفرق شملنا ورغبة كل واحد منّا في النجاة بنفسه.
هتف مغضباً: ولماذا لا نجمع شملنا من جديد؟ لماذا لا تحاول بلدتنا استعادة كرامتها المسلوبة؟لماذا لا نقتدي جميعا بشبان البلدة الشجعان ؟
فقلت: فلنتصارح يا عبد الكريم. لن ننجح في ذلك إلا إذا تسلّحنا بالتضحية. وما دمنا غير مستعدين لذلك سيظل البرابرة الطغاة يسحقوننا بأحذيتهم، وسيظل طاغيتهم الأكبر يتحكم في حياتنا.
أطرق عبد الكريم وقال في يأس: فعلاً يا عزيز، هذه هي الحقيقة المخجلة. والحمد لله أن البعض منّا شجعان وهم يضحون بحياتهم من أجل بلدتنا .
فقلت بأسى: ولكنهم القلّة بيننا مع الأسف يا عبداكريم .
وصمتنا. وبدا كأن جعبتنا فرغت من الأحاديث. وقد انقطعت أحاديث أبناء بلدتنا منذ اغتصب البرابرة الطغاة بلدتنا، لم نكن ندري عمّ نتحدث. فمصائب البلدة أعظم من أن يحيط بها حديث. وكانت فظائع البرابرة مكررة متماثلة. وإذا روي المرء أحدها كان في غنى عن رواية الأخرى. لذلك صدف أبناء بلدتنا عن الكلام، وكانوا إذا اجتمع بعضهم إلى بعض يمضون الوقت صامتين تتبادل عيونهم الكرب والأسى.
وطال صمتنا. وانكفأ عبد الكريم على نفسه ساهماً مشغول البال، وبدا وجهه الحزين ذابلاً مرهقاً. وأخيراً رفع رأسه ورماني بنظرة نفاذة وقال بلهجة حاسمة: إنني لن أقتل أختي فوزية يا عزيز.. لن أقتلها مهما تسؤ الأحوال. وليذهب إلى الجحيم هذا الشرف. ولماذا يجب أن يكون شرفنا كلّه منحصراً في عفّة النساء؟ وهل بقي للبلدة شرف بعد أن عاث البرابرة الطغاة فيها فساداً؟
وتراءت لي صورة فوزية. وكنت قد رأيتها مراراً عند زيارتي لعبد الكريم في منزله. كانت رائعة الجمال فيّاضة السحر. ولا شكّ أن عينيها الخضراوين هما أجمل عينين في بلدتنا. هتفت بلا وعي وصورتها لا تبرح ذهني: كيف يمكن أن يخطر على بال شخص مثلك الإقدام على مثل هذه الفعلة يا عبد الكريم؟
هتف عبد الكريم باهتياج: أفلا ترى أن مرض محمد علي الخياط بات حقيقة واقعة في كل بيت يا عزيز؟ إن كل واحد من أبناء بلدتنا يخشى الإصابة بهذا الوباء. وإن البرابرة يمعنون يوماً بعد يوم في اعتقال فتياتنا. ماذا سأفعل لو جاؤوا لاعتقال فوزية؟ أأسمح باقتيادها إلى البيت فوق التلّ وتعليقها عارية في الهواء، والاعتداء عليها كما أعتُدي على سلمى ابنة المرحوم محمد علي الخياط؟
طفرت إلى ذهني صورة فوزية وتمشت في جسدي رعشة حادة وأنا أتخيلها فريسة للبرابرة. وسمعت عبد الكريم يهمس لنفسه في صوت ملتاع: إنني أعاني من عذاب مبرّح يا عزيز، وإن والدي المقعد يتمتم لنفسه طوال الوقت وهو قابع في سريره:"لا نريد في هذه الحياة سوى الستر. الستر هو كل مرامنا في هذه الحياة.". وأنا أدري ماذا يعني بهذا الكلام يا عزيز. إنه يدعوني لقتل فوزية لو حضر البرابرة لاعتقالها. ولو لم يكن مقعداً لتولى هذا العمل بنفسه. ولكن كيف أقدم على قتلها؟! كيف أرتكب هذه الجريمة الفظيعة؟
قلت مرتاعاً: لا شكّ أنك لن تفعل ذلك يا عبد الكريم. إنك لن تقتل نفساً بريئة.إن البرابرة الطغاة هم الذين يستحون القتل .
صمت عبد الكريم برهة وعيناه تتوقدان، ثم قال بلهجة قاطعة: فعلاً. علينا أن نقتل البرابرة الطغاة لا أن نقتل أخواتنا البريئات. ولو أننا قتلنا عدداً منهم لملأنا قلوبهم رعباً ولكفوا عن تعسفهم. ولكن تخاذلنا وجبننا هو الذي أطمعهم فينا.
فقلت: صدقت.
أطرق عبد الكريم واجماً وغرق في صمت طويل. ثم همس أخيراً بأسى عميق: كيف تطاوعني يدي على قتل فوزية؟ كيف يمكن أن تمتد يدي إلى صدر فوزية فتستل منه الحياة؟ وكيف سأواصل العيش وعاتقي ينوء بمثل هذه الجريمة؟ ليست فوزية أختي فحسب ولكنها صديقتي أيضاً، إنها صديقة الطفولة الغالية. لقد أمضينا سني طفولتنا ونحن أقرب ما نكون أحدنا من الآخر. فكيف أمحو ذكريات الطفولة من ذهني؟‍ وكيف أنسى صور الماضي البهيجة؟ كلا يا عزيز.. كلا. لن أقتلها إذا حضر البرابرة لاعتقالها.
اندفعت أقول في حماس: بالطبع لن تقتلها يا عبد الكريم. إن من يقدم على هذه الفعلة جبان ومنافق. وإذا كان لا بدّ من قتل أحد فلنقتل البرابرة الطغاة. صحيح أن بلدتنا محافظة وأن فتياتنا طاهرات، ولكن من قال إن اعتداء البرابرة عليهن يفقدهن طهارتهن؟! ما مسئوليتهن في هذه الجريمة؟!
هز عبد الكريم رأسه خافض الطرف واعتصم بالصمت ثانية. وطال صمته وبدا كأنه في دنيا أخرى. ثم همس أخيراً من دون أن ينظر إليّ: إن كل شيء قد تبدل بيني وبين فوزية يا عزيز، ولن تستعيد عواطفنا صفاءها القديم. إننا لم نعد صديقين. لقد قام بيننا جدار منيع من الشك والرعب.
وسكت لحظة ثم التفت إليّ وتطلّع في وجهي بنظرات حزينة، وعاد يقول بلهجته الهامسة: إنني أصرّح لك بكل ما يعذبني من خواطر يا عزيز لأنك الصديق الوحيد الذي اطمئن إليه. وإذا لم أصرّح لأحد بما يضطرب في نفسي فقد يقتلني الهمّ. إن العدوى تسللت إلى بيتنا يا عزيز، وإن عينيّ فوزية تبحثان في وجهي بفزع عن أعراض الوباء، وإن جسدي ليرتعد كلما تلاقت عيوننا وقرأت في عينيها سؤالاً مروّعاً: "هل ستقتلني يا عبد الكريم؟"
هتفت باهتياج: ولكنك لن تقتلها يا عبد الكريم، فالبرابرة الطغاة هم الذين يستحقون القتل.
واصل عبد الكريم همسه وعيناه تائهتان: وأين المفرّ من عينيها المروّعتين؟ لم نعد نتحدث بألسنتنا يا عزيز. صارت عيوننا تتحدث بما لا تقوى عليه ألسنتنا. لم نعد نسمع من صوت يتردد في أرجاء البيت سوى صوت أبي وهو يدمدم لنفسه:"لا نريد في هذه الحياة سوى الستر.. الستر هو كل مرامنا في الحياة". أما أمّي فعيناها شاخصتان إلى وجهي دوماً في تساؤل مبهم.. لا أدري أهو عتاب أم توسل أم محض قلق! ولست أدري كيف أتصرف.. لست أدري ماذا أفعل! ليت البرابرة الطغاة يعتقلونني ويخلصونني من هذا العذاب.
قلت وقد هزّني عذابه: ومن سيقوم بأود عائلتك يا عبد الكريم؟ هل سيتولى ذلك أبوك المقعد؟
هزّ رأسه في قنوط وقال: أعلم ذلك يا عزيز وإلا لكنت قتلت عدداً منهم وانتقمت لبلدتنا.
وسكت لحظة ثم أضاف بأسى عميق: لكم أتمنى لو لم أولد وأشهد اليوم الذي اغتصب فيه البرابرة بلدتنا!
غمغمت وأنا خافض الطرف: صدقت يا عبد الكريم. ليتنا لم نولد ونشهد هذا اليوم الأسود.
كان كل فرد في بلدتنا يجهر بهذا التمني، فقد زرع البرابرة الطغاة في قلوبنا كراهية الحياة. لم تعد الحياة تطيب لنا في بلدتنا التي كنّا نفنى في حبّها بعد أن حوّلها البرابرة إلى سجن كبير . وقد هجرها عدد كبير منّا وتشردوا في أقطار الدنيا. لكن الفرار من البلدة كان أمراً موجعاً بقدر البقاء فيها تحت حكم البرابرة. وكان الاشتياق لبلدتنا ينغّص على المشردين حياتهم.
سرحت بنا الأفكار، وطال بنا الصمت الحزين. وأخيراً نهض عبد الكريم مستأذناً في الانصراف. تعلقت عيناي به وهو يسير ببطء محنيّ الظهر وكأنه يرزح تحت وقر السنين.
في منتصف ليلة ذلك اليوم ضجّ منزل عبد الكريم الحاج خلف بالعويل. وهرعنا إليه فرأينا عبد الكريم مجندلاً برصاص البرابرة. وكان قد قتل عدداً منهم حينما حضروا لاعتقال فوزية فصرعه البرابرة واقتادوا أخته إلى البيت فوق التل.

الحكاية التاسعة
الاحتفال
من الذي ابتكر فكرة الاحتفال؟ لا أحد يدري بالضبط. قيل إن الفكرة من ابتكار البرابرة الطغاة وقيل إنها من ابتكار الأعيان. وقيل هي من ابتكار حكماء بلدتنا. وحينما سمعت أهل السوق يناقشون الفكرة صُعْقِت ولم أصدّق سمعي.
ولست أزعم أن أهل السوق جميعاً أيّدوا الفكرة، لكن معارضيها لاذوا بالصمت. ولم يخرج على الإجماع إلا عبد الرحيم بن شمخي الدلال الذي وقف في وسط السوق وهتف مغضباً: ماذا دهاكم يا أبناء بلدتنا؟! كيف تحتفلون بمرور عام على اغتصاب البرابرة الطغاة لبلدتنا وقد قتلوا إخوانكم وعذبوا أبناءكم وانتهكوا أعراضكم؟ أنسيتم ماذا فعلوا بشهاب ملّوكي وزوجته؟ أنسيتم ماذا فعلوا بحسين أبن أمّ حسين؟ أنسيتم ماذا فعلوا بسلمى ابنة محمد علي الخياط؟ كيف ينحدر بكم التخاذل إلى هذا الدرك؟
وكان عبد الرحيم شاعر البلدة المرموق، وجميع شبان بلدتنا يرددون باعتزاز شعره الوطني . والكل يحفظ قصائده في هجاء البرابرة الطغاة . فخشي الجميع من معارضته. وهجم عليه أبوه وكمّم فمه بمعاونة الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة. وكان السوق خالياً من البرابرة في تلك اللحظة وإلا لساءت العاقبة.
وحسبنا أن الحادثة ستنحصر بالسوق لكنها سرعان ما ذاعت في البلدة. فأقبل في اليوم التالي وفد من حكماء بلدتنا بزعامة الشيخ جواد الحسن. واجتمع بأهل السوق في (سيف) الحاج محمد الدّهان. قال الشيخ جواد الحسن: سمعنا أن بعضكم عارض في إقامة الاحتفال.
فانبرى الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة يقول في حماس: لا تصدقوا تلك الشائعة فليس بيننا معارض. كل ما هنالك أن أحد الشبان أبدى ملاحظة طائشة.
قال رزّوقي الروّاف مؤمنا: فعلاً، فنحن جميعا نرغب في إقامة الاحتفال. إنها فرصة لنظهر للبرابرة ولاءنا.
قال الشيخ جواد الحسن بلهجته الرزينة: لسنا بحاجة إلى أن يخدع بعضنا بعضاً فنحن جميعاً نكره البرابرة الطغاة. إنهم آذونا وأذلّونا ونغّصوا عيشتنا.
هتف الحاج رخيّص الهبش وهو ينقل أنظاراً شامتة بين وجوه الموجودين: إذن كان عبد الرحيم محقّاً. إنه ذكّرنا بأن البرابرة اعتدوا على بناتنا وعذّبوا أبناءنا وقتلوا إخواننا.
فقاطعه الشيخ جواد الحسن بلهجته الرزينة: وهل بنا حاجة إلى من يذّكرنا بهذه الجرائم؟ ولكن هل من مصلحتنا أن نعادي البرابرة الطغاة ونواجههم بكراهيتنا؟! بالعكس، إن الحكمة تقتضي منّا استرضاءهم. لقد اغتصب البرابرة الطغاة بلدتنا وسيحكمونها إلى الأبد. أفليس من الخير لنا أن نتملقهم ؟! لقد كان النفاق دستور بلدتنا منذ وُجدت ووجدنا، وكانت دائماً تخضع للطغاة. ولو تزلّفنا للبرابرة الطغاة وتملّقنا كبرياءهم لتجنبنا أذاهم. هكذا كان ديدننا دائماً.
تعلقت عيون الجميع بشفتيّ الشيخ جواد الحسن في انبهار وكأنه يلقي حِكماً رائعة. وهتف رزّوقي الروّاف متحمساً: ما أعظم حكمتك يا شيخ جواد الحسن!
والتفت الشيخ جواد الحسن إلى عبد الرحيم الذي كان يلوذ بجوار أبيه صامتاً وسأله: ما رأيك فيما قلت يا بنيّ؟
فأطرق عبد الرحيم صامتاً وهو مكفهر الوجه. وقال الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة في حماس: كفانا ما جرّه الطيش علينا من كوارث. كان يوماً أسود حينما أقنعنا شبان بلدتنا بالتمرد على سطوة الأعيان، فالأعيان أعيان والعوام عوام. هكذا خلقهم الله وهكذا سيبقون إلى أبد الآبدين. فدعونا نصلح ما أفسدوا بالتزلّف للبرابرة.
فهزّ الجميع رؤوسهم موافقين. وفجأة هبّ عبد الرحيم واقفاً وهتف وهو يرمي الموجودين بنظرات احتقار: يا لكم من جبناء! الجبن سحقكم حتى لم تَبقَ قطرة من الكرامة في دمائكم.
وقبل أن يردَ عليه أحد توارى عن الأنظار. وران علينا الصمت وأطرقنا جميعاً. ثم قال سيّد هاشم العطار في تردد: إن هذا الاحتفال إهانة لكرامتنا. فكيف نتناسى جرائم البرابرة؟
فلم يرد عليه أحد. وأخيراً نظر الشيخ جواد الحسن إلى شمخي الدلال وقال: عِدْنا يا أبا عبد الرحيم بمنع ابنك من الإساءة إلى الاحتفال.
فقال شمخي الدلال بحماسة: أعدكم بشرفي ألا أسمح لولدي عبد الرحيم أن يمسّ الاحتفال بكلمة سوء.
تفرّق الجميع وقد طفحت وجوههم بالرضى. وقامت الاستعدادات في طول البلدة وعرضها لإقامة الاحتفال. وأشرف حكماء بلدتنا على تجميل البلدة استعدادا ليوم الاحتفال. وقام الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة بدهن واجهة دكانه للخردة فروش" بألوان صارخة فقلده أصحاب الدكاكين المجاورة . وأثار هذا الحماس رضى البرابرة الطغاة فجعلوا يربّتون على بنادقهم في اعتزاز ويبتسمون في تيه واستعلاء.
وزُيّنت الشوارع بصور الطاغية الأكبر ورُفعت الرايات على البيوت إلا بيت الحاج رخيّص الهبش. وكان الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة أول من انتبه للأمر فنقل النبأ إلى أهل السوق. فلمّا سألوا الحاج رخيّص الهبش عن السبب أبى أن يجيب. وعند العصر سُمع الشجار في بيت الحاج رخيّص الهبش. ثم خرجت زوجته تجري في الزقاق وهي تصرخ مولولة: لن أرفع راية على بيتي ولو مزَقوني قطعة قطعة. لن أرفع راية على بيتي وابني سجين في البيت فوق التلّ.
كان هذا الحادث إنذاراً لحكماء بلدتنا. فاجتمعوا في (علوة) الشيخ جواد الحسن وتدارسوا المشكلة. ثم قرّروا رفع الرايات عن البيوت قبل أن تنتزعها الأمّهات.
اقترب يوم الاحتفال وتأهبت بلدتنا لاستقباله. وقام حكماء بلدتنا بدهن أبواب الدكاكين بألوان زاهية. لكننا كنّا نستيقظ صباحاً فنجد بعض الجدران قد سُودت وبعض الأبواب قد أُزيل دهانها.
ورأتني الحاجة أم مهدي يوما وأنا أجتاز الزقاق فسألتني في عجب: قل لي يا ولدي عزّوزي، ماذا يجري في بلدتنا؟
فأجبتها: سنقيم بعد أيام احتفالاً يا جدتي.
تساءلت بعجب: وبأيّة مناسبة؟ هل سيطلق البرابرة الطغاة أبناءنا المحبوسين في البيت فوق التلّ؟
فقلت: لا يا جدتي. إننا نحتفل بمرور عام على اغتصابهم لبلدتنا.
فصاحت في دهشة: وكيف نحتفل بذلك اليوم الأسود وقد شهدنا جميع المصائب على أيديهم؟!
فقلت: هذا اقتراح حكماء بلدتنا يا جدتي. نصحونا بأن نتزلّف للبرابرة الطغاة ليرقّوا لنا ويرأفوا بحالنا.
فغمغمت وهي تنصرف مغضبة: هؤلاء مخابيل وليسوا حكماء. فقلت: لا عاب فمك يا جدتي .
اشتدت معارضة الأمّهات للاحتفال يوما بعد يوم، وشبّ الشجار في جميع بيوت بلدتنا. وفي بيتنا أعلنت أمي عن استنكارها لفكرة الاحتفال. وسألت أبي في اشمئزاز: أصحيح أنك علّقت راية على دكانك يا أبا عزّوز؟
أجاب أبي: بالطبع. وهل تريدينني أن أخرج على إجماع أهل السوق؟ إن فكرة الاحتفال فكرة حكيمة وستقيننا أذى البرابرة.
قالت أمي في استنكار: وهل يرضى الله عن هذا العمل؟ هل يرضى الله عن الاحتفال بهؤلاء الظلمة الذين قتلوا أبناءنا وانتهكوا أعراضنا؟! الواجب عليك ألاّ ترضى بذلك يا أبا عزيز.
فقال أبي بلهجة مرة : وكيف يستطيع صباغ مثلي أن يقف في وجه هؤلاء الطغاة يا ام عزيز ؟ أسكتي فأنت لا تفهمين في السياسةودعي مثل هذه الأمور للرجال .
فقلت : لكن أمي على حق يا أبي .
فقال أبي بلهجة حاسمة : أرجوك يا ابني ألاّ تدخل نفسك في هذا الموضوع فأنت أعقل من ذلك .
وكلما دنا موعد الاحتفال تعالت أصوات الشجار في منازل بلدتنا.
وتمنىّ الجميع الخلاص من يوم الاحتفال بأسرع وقت. وحينما كان أبناء بلدتنا يتهامسون بما يجري وراء جدران بيوتهم كانوا يختمون همسهم قائلين:"اللهم اختم علينا يوم الاحتفال بسلام".
وأخيراً حلّ يوم الاحتفال. ومنذ الصباح الباكر تجمّع أبناء بلدتنا في مواكب طويلة. وطافت مواكبهم في الشارع العام وهي تحمل صور الطاغية الأكبر وتلّوح بالرايات. ثم انتهت مسيرة المواكب إلى الميدان الرئيسي. وكانت قد أقيمت في الميدان منصة عالية تشامخ عليها البرابرة وقد اندلقت كروشهم. وتصدّرهم طاغيتهم الأكبر على مقعد مرتفع وقد انتفخ كرشه وبانت مخايل العظمة واضحة على وجهه. وكاد الاحتفال أن يبدأ بداية سيئة حينما سأل طفل أمّه في صوت مرتفع: لماذا يملك البرابرة الطغاة كروشاً عظيمة يا أمي؟
فردّ أحد شبان بلدتنا بصوت جَهْوريّ: لأنهم نهبوا أموالنا واغتصبوا نساءنا.
وسرعان ما هتف حكماء بلدتنا للبرابرة هتافات مدوية فضاع صوت الشاب في دويّ الهتافات. وارتقى عريف الحفل الشيخ جواد الحسن منصة الخطابة وافتتح الاحتفال بصوت يتدفق حماساً:
"أيها الأخوان. يسرّنا أن نقيم في هذا اليوم احتفالاً بمناسبة انقضاء عام على تحرير بلدتنا.. ذلك العمل البطوليّ الذي قام به المظفّرون غير مبالين بالأخطار. ونرجو أن يكون احتفالنا هذا معبّراً عمّا نضمره لهم من عرفان بالجميل. ويشرّفنا أن يفتتح احتفالنا آمر المظفرين البطل المغوار حامي حمى بلدتنا ووليّ نعمتها ومنقذها الأكبر".
نهض الطاغية الأكبر مختالاً فخوراً. واستقبله حكماء بلدتنا بالتصفيق والهتاف فحيّاهم في غطرسة واستعلاء. وافترّت شفاه البرابرة عن أنيابهم الحادة، وانتفخت كروشهم حتى غدت كالبالونات الكبيرة.
تنحنح الطاغية الأكبر طويلاً ثم صاح بصوت جَهْوريّ:
"أيها الرعاع. نشكركم على إقامة هذا الاحتفال بمناسبة مرور عام على قيامنا بتحرير بلدتكم من العوام وقضائنا على الفوضويين من شبانها. لقد وضعنا دماءنا في أكفّنا ولم نكن نطمع في شئ سوى رضى الله تعالى. أما السلطة والزعامة والمال فهي من أعراض الدنيا الزائلة، لكنها أتتنا عرَضاً فأهلاً ومرحبا بها..".
قاطع حكماء بلدتنا الطاغية الأكبر بتصفيق حاد وهتاف مدوّ، وتنافسوا في إطلاق التحايا العطرة. فاستخفّه الطرب وبدا كأن كرشه يكبر ويكبر حتى يوشك أن يمزّق ملابسه! واستأنف خطبته يصرخ بصوته الجَهْوريّ:
"لا يخفى عليكم أن العوام من شذّاذ هذه البلدة التعسة قد استفحل أمرهم، فاستثار نخوتنا الأعيان وهزّوا ضميرنا الحيّ، فعزمنا على سحقهم. ونحن نبشّركم بأننا عازمون على التنكيل بالشبان المارقين بلا شفقة ولا رحمة.."
هتفت إحدى الأمّهات بصوت ملتاع: ماذا جنى أبناؤنا حتى تنكّلوا بهم بلا شفقة ولا رحمة؟
ووَلْوَلت أمّ أخرى: هل ستقتلون أبناءنا؟ ويلي عليك يا بسّومي.
وتعالى نحيب النساء، وضجّ صراخ الأطفال. وغشي الاضطراب حكماء بلدتنا فبذلوا جهودهم لتهدئة النساء والأطفال. وانهال علينا الطاغية الأكبر بالشتائم المقذعة. وكشّر البرابرة عن أنيابهم. قفز عريف الحفل الشيخ جواد الحسن إلى المنصة في ارتياع وصاح:" يا أبناء بلدتنا، إن آمر المظفّرين يقدّر عواطفكم ويأمل من أمّهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا أن يضبطن عواطفهن ويكفكفن دموعهن.
وصرخ الطاغية الأكبر معقّباً: وإذا لم تكفّوا عن شغبكم سكتّ وتكلمت البنادق.
خيّم الصمت فجأة على الميدان وكفّ النساء والأطفال عن الصراخ والعويل. والتفت الشيخ جواد الحسن إلى الطاغية الأكبر وحنى جبهته حتى كاد يمسّ بها الأرض ثم قال: تفضلوا يا آمر المظفّرين.
استعاد الطاغية الأكبر هدوءه، وابتسم في زهو، ثم استأنف يصرخ في غطرسة:
"أيها الرعاع. تعلمون أننا لم نغتصب بلدتكم لمنفعة شخصية، لكن رغبتنا في الخدمة لوجه الله تعالى كانت دافعنا الوحيد. لذلك فإن مصائركم بأيد أمينة. ولن تمرّ سوى أشهر قليلة حتى نكون قد قضينا على عناصر الشغب قضاء تاماً. فنحن نعتزم إضافة أبنية جديدة إلى البيت فوق التلّ ليتّسع لعدد أكبر من المارقين. فلن تستقيم الأمور في بلدتكم إلاّ إذا رمينا جميع شبانها المارقين في السجن. ونحن نعدكم بأن نحتفظ بهم في السجن إلى الأبد. وبذلك تتخلص بلدتكم من أذاهم ويسودها الاستقرار والأمان".
صاحت إحدى الأمهات بصوت مكلوم: هل ستحبسون أبناءنا إلى الأبد؟ يا لكم من ظلمة!
ثم أطلقت صواتاً طويلاً، وإذا بالنساء جميعاً يشاركن بالصوات. فانسحب الطاغية الأكبر غاضباً مزمجراً. وخشخشت البنادق في أيدي البرابرة. هرع الشيخ جواد الحسن إلى المنصة وردّد وهو يشير إلى البنادق: سكوتاً.. سكوتاً يا أبناء بلدتنا.
فصمت الجميع وحُبست الأنفاس. وحنى الشيخ جواد الحسن رأسه باتجاه الطاغية الأكبر حتى كادت جبهته تنطح الأرض ثم قال:
" باسم أبناء بلدتنا جميعاً أتقدم بالشكر الجزيل إلى منقذنا البطل المغوار صانع المعجزات الذي يمتلئ قلبه بالرحمة والشفقة والذي لا يمكن أن ننسى أياديه البيض على بلدتنا. ونحن نعاهده ونعاهد الله عزّ شأنه إلاّ نقبل بغيره زعيماً لبلدتنا وحاكماً أبديّاً لها ". والآن أرجو أن يسمح المظفّرون لأبناء بلدتنا بالتعبير عن مشاعرهم الصادقة بهذه المناسبة المجيدة. يتقدم إليكم الآن الملاّ فرهود ممثل السوق الكبير.
تنحّى الشيخ جواد الحسن عن المنصة فارتقاها الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة وهو يكاد يرقص طربا. وقبل أن يبدأ خطبته تقدم من الطاغية الأكبر وقبّل الأرض بين يديه. ثم انحنى للبرابرة حتى كاد يمس الأرض بجبهته. وبدأ خطبته بصوت حماسيّ فأفاض في وصف أيادي البرابرة على البلدة. ودعا في ختام خطبته إلى تكرار هذا الاحتفال في مطلع كل عام.
ثم توالى حكماء بلدتنا على منصة الخطابة يلقون القصائد الحماسية والخطب الرنّانة. وأشادوا جميعاً بفضل البرابرة الطغاة وبإخلاصهم لبلدتنا. وأخيرا أعلن الشيخ جواد الحسن عن كلمة ختامية لممثل شبان البلدة عبد الرحيم ابن شمخي الدلال. وذهلنا لهذه المفاجأة، فلقد كنا نعلم أن عبد الرحيم من أشدّ المعارضين لفكرة الاحتفال. قال الشيخ جواد الحسن وهو يقدّم عبد الرحيم إلى الجمهور: لقد سَرَت في البلدة شائعة كاذبة تزعم أن شبان البلدة معارضون للاحتفال. وسيبرهن لكم الشاب عبد الرحيم بنفسه على بطلان تلك الشائعة المغرضة.
هبط الشيخ جواد الحسن عن المنصة فارتقاها عبد الرحيم بخطوات ثابتة. وبدا متجهم الوجه متّقد العينين. واستقبله أبناء بلدتنا بوجوم. وافترّت شفاه البرابرة عن بسمات ساخرة فبرزت أنيابهم الحادة. كأنها تستعد لتمزيق أجسادنا. وبدا عبد الرحيم خطبته بصوت هادئ وهو يتجه بأنظاره إلى البرابرة فقال:
"أيها البرابرة الطغاة مغتصبو بلدتنا الوديعة. لقد اغتصبتم بلدتنا المسالمة، وما كنتم لتفلحوا باغتصابها لولا أنكم تتسلحون بالبنادق ونحن عزّل. وكنّا ندرك منذ البداية أنكم تنوون الاستئثار بخيرات بلدتنا والتسلط عليها، وإن جئتم بدعوى مزيّفة لإخفاء حقيقتكم. ولقد غرّكم النصر الذي حققتموه وأسكركم التخاذل الذي أصاب أبناء بلدتنا. فأمعنتم في إرهابكم وتماديتم في طغيانكم غير حاسبين حساباً للمستقبل. لقد أهدرتم كل حقّ من حقوقنا وتصرفتم في شؤون بلدتنا وكأنها ملك خالص لكم، وكأنكم ستظلّون أسيادها إلى الأبد. ولكن إذا كنتم تمتلكون البنادق اليوم ونحن عزّل، فهل تحسبون أن هذا الوضع سيدوم كذلك إلى الأبد؟ وهل تعتقدون أنكم سحقتمونا وأن لن تقوم لنا قائمة بعد اليوم؟! أنتم أذن على ضلال عظيم. فلا بدّ لنا أن ننهض من كبوتنا ونستعيد قوانا. وحينئذ لن تنفعكم بنادقكم.
أيها البرابرة الطغاة. ننذركم بأن ترفعوا أيديكم عن بلدتنا قبل أن تقلت الفرصة منكم فتصبحوا شذر مذر. فالويل لكم من غضبنا إذا حلّت الساعة".
أطبق علينا الصمت ونحن نصغي إلى عبد الرحيم حتى كنّا نسمع خفقات قلوبنا. وتعلّقت عيون البرابرة بشفتيه في ذهول وكروشهم تعلو وتهبط غضباً. وحين ختم عبد الرحيم خطبته كان صوته يدوّي كهزيم الرعد. والتهبت أكفّنا بالتصفيق، وضجّت النساء بالزغاريد. وبعثت زغاريد النساء الحماسة في قلوبنا فتعالت هتافاتنا بسقوط البرابرة الطغاة. وما درينا إلا وزئير البنادق يملأ الهواء. وسقط عبد الرحيم في الحال صريعاً. ثم أخذ أبناء بلدتنا يتساقطون مضرّجين بدمائهم. فسادنا الذعر. وتعالى عويل النساء وصراخ الأطفال. وتراكض الجميع نحو بيوتهم وأغلقوا دونهم الأبواب. لكن صوت البنادق ظلّ يلعلع في الهواء لساعات طويلة.

الحكاية العاشرة
الانتظار المر
صرت أتمنى أن يقتادني البرابرة الطغاة إلى البيت فوق التلّ. فقد اقتادوا جميع أصدقائي وبقيت وحيداً. وأقلقني وسواسي الجديد وأقضّ مضجعي. وتعاظم ضيقي حينما أخذ أبناء بلدتنا يخزرونني باستنكار. وبت أقرأ في عيونهم سؤالاً يفيض بالاحتقار: "لماذا تركك البرابرة حرّاً طليقاً من دون سائر شبان البلدة الشجعان ؟"
ومرة سمعت رجلين من أبناء بلدتنا يتحدثان ورائي قائلين:"اعتقل البرابرة الطغاة جميع شبان بلدتنا الشجعان وبقي الجبناء منهم". فشعرت بسياط الخزي تلهب ظهري. ومرة أخرى كنت منزوياً في قهوة الشمس وحيداً بعد أن فارقني جميع أصدقائي. فلقد قُتل منهم من قُتل، واعتقل الباقون في البيت فوق التلّ. وسمعت اثنين من أبناء بلدتنا يتحادثان:"إذا كان البرابرة الطغاة يعتقلون الفتيات، فكيف يتركون بعض الشبان؟" فأدركت أن هذا التساؤل موّجه إليّ. ونهضت مقهوراً وغادرت المقهى خافض الرأس. وتعثرت بمقعد وكدت أسقط على وجهي. ومنذ ذلك اليوم طأطأت رأسي وكففت عن النظر في وجوه أبناء بلدتنا.
وكلّما توالت الأيام اشتدّ حالي سوءاً وأحسست كأنني حبيس سجن كبير. كنت أشعر كلما اخترقت الشارع العام والسوق الكبير أن مئات العيون تتفحص وجهي بعجب واستنكار. وكان ذلك يرسل الدماء لاهبة إلى رأسي فينضح جسدي بعرق بارد. وصرت تواقا من أعماق قلبي إلى أن يحلّ اليوم الذي يقتادني فيه البرابرة الطغاة إلى البيت فوق التلّ.
وأخيرا حزمت أمري على القيام بعمل يلفت انتباههم إليّ. وخرجت إلى الشارع وأنا مصممّ على إهانة أول فرد منهم أصادفه في الطريق. كان الوقت صباحاً والشارع العام مكتظاً بأبناء بلدتنا. وكانوا يتسكعون في سيرهم ورؤوسهم منكّسة إلى الأرض. وكانوا يتبادلون الكلام همساً. لمحت أحد البرابرة يقف في تقاطع الشارع الرئيسي مع السوق الكبير وبندقيته معلقة بإهمال على كتفه. فتقدّمت منه وصفعته على وجهه بقوة، فانتبه مذعوراً وزمجر: ماذا ؟ أتصفعني ؟
فقلت بصرامة: نعم أصفعك لأنك تهمل واجبك فلا تحمل البندقية بحذر.
رمقني في ارتياب لحظة، ثم وقف استعداداً ورفع يده بالتحية العسكرية وهو يتمتم: أمرك يا سيدي.
والتقط بندقيته وصوّبها بدّقة إلى صدور أبناء بلدتنا. فصعقت وشعرت كأن الأرض تميد بي ولم أدرِ ماذا أفعل. وكان أبناء بلدتنا قد وقفوا بعيداً يتطلّعون إليّ في دهشة واستنكار. وتمنيت لو تنشقّ بي الأرض وتبتلعني. ولمّا استأنفت سيري فسحوا لي الطريق في اشمئزاز كأني حيوان أجرب يحاذرون عدواه. ولم تكن نظرات الاحتقار في عيونهم هذه المرة من صنع خيالي. بدا اتهامهم لي بالعمالة واضحاً صريحاً. وكنا دائما نشك بوجود عملاء بيننا .
عدت إلى منزلي وأنا مصممّ على الاعتكاف فيه. كان أبناء بلدتنا في حاجة إلى تفسير لحريتي وقد حصلوا عليه! وتلاشت البقية الباقية من جرأتي فلم يعد بقدرتي مواجهة نظراتهم القاسية. وقلت لنفسي: "ما دام البرابرة الطغاة يأبون اعتقالي فسأعتقل نفسي في بيتي". ورحّب أهلي بقراري ولم يدركوا دوافعه. وسُرّ أبي سرورا عظيماً فقد كان يخشى أن يتصدّى لي البرابرة ويقتادوني إلى البيت فوق التل. وقالت أمي بفرح وهي تصغي إلى قراري:"الحمد لك والشكر لك يا إلهي". ثم نهضت وصلّت ركعتين. وصار قراري هذا نقطة تحوّل في حياتها منذ اغتصب البرابرة بلدتنا. فقد شاع الاطمئنان في قلبها وخفّ رعبها الفظيع. وكانت قد أمضت فترة عصيبة طوال الشهور الماضية. كانت تتخيّل في كل لحظة أن البرابرة قادمون لاقتيادي إلى البيت فوق التل. وكلما عدت من عملي هرعت إليّ تجسّ أعضائي وتفحّص وجهي وتمطرني بالأسئلة اللجوج. وكان هوسها يبلغ أشده أثناء الليل حين تبدأ غارات البرابرة على البيوت المروّعة. فكانت تهرع إلى الباب كلما رنّ الجرس رنيناً قويا وهي مبهورة الأنفاس شاحبة الوجه وتصغي إلى ما يدور وراءها من حوار. وإذا تناهت إلى سمعها ضجة في الزقاق امتقع وجهها وارتجفت أطرافها وأيقنت بأن البرابرة قادمون لاعتقالي. وكثيراً ما هجرت فراشها وأمضت الساعات ملتصقة بالباب وهي مرهفة السمع إلى الأصوات في الخارج. ولم يكن يهدأ بالها حتى تدق الساعة الكبيرة معلنة انتصاف الليل. وحينئذ تلوذ بفراشها وقد أنهكها الترقب وأعياها الخوف.
وكنت أحسب أن سجني الاختياري سينقذني من أحاسيسي المعذّبة . لكنني أدركت بعد حين أنني مخطئ في ظنّي. فإذا كنت هربت من نظرات أبناء بلدتنا فقد عجزت عن الهرب من نفسي. وشغلني التفكير ليل نهار بأصدقائي القتلى وبأولئك الذين يعذّبون في البيت فوق التلّ. وكنت أقارن وضعي بوضعهم فتفيض جوانحي بالمرارة والأسى.
وذات عصر حزمت أمري على قرار فخرجت إلى الميدان الرئيسي المكتظ بأبناء بلدتنا. وعلى مرأى من الجميع ألصقت ورقة كبيرة على جدار البلدية. وكنت قد كتبت فيها بخطّ واضح نداء إلى أبناء بلدتنا قلت فيه:
" يا أبناء بلدتنا.
أما يكفيكم ما لقيتم من تعسّف البرابرة الطغاة؟! لقد أذلّونا وداسوا كرامتنا وقتلوا إخوتنا وجوّعونا ونحن سكوت خائفون وجلون. أفنأمل أن يكفّوا عن غيّهم من تلقاء أنفسهم؟ أفنأمل أن ترقّ قلوبهم لنا؟ هيهات أن يعطف البرابرة الطغاة على العوام . إن البرابرة الطغاة لا يعرفون سوى منطق القوة. أفتحسبون أن جبننا يفيدنا شيئاً؟ أنتم مخطئون، فتخاذلنا لن يزيدهم إلا تعسفاً وتماديا في التسلط.
يا أبناء بلدتنا. إن سبيلنا الوحيد لاستعادة حريتنا وحقوقنا وكرامتنا هو التكاتف. فلنهب هبّة رجل واحد ونصمد للبنادق فإما أن نسحق البرابرة الطغاة أو أن نموت بشرف وفخار".
تدافع أبناء بلدتنا يزحم بعضهم بعضاً أمام جدار البلدية يقرؤون ندائي في اهتمام. وكانت أنظارهم ترتدّ إلى وجهي فيّاضة بالإعجاب. وبادلتهم النظر لأول مرة بزهو وفخار. وعدت إلى منزلي أسير وأنا مرفوع الرأس منصوب القامة .
ها قد حلت الساعة الثانية عشرة ليلا وإذا بالطرقات اللجوج تنهال على باب منزلنا كما توقعت . فقد جاؤا أخيرا ليقتادوني إلى البيت فوق التل .
انتهت


















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??