الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البعثيُّ الذكيُّ والعراقيُّ الغبيُّ! ( رسالة الى المثقف البعثي)

سلام عبود

2008 / 12 / 4
كتابات ساخرة


أعني بالذكاء هنا: الشطارة؛ أي المقدرة الجيدة على اتخاذ المواقف في اللحظات المناسبة.
من دون شك لم يكن انقلاب 14 رمضان الدموي، ومؤامرة تموز 1968 ضمن الشطارة التي أعنيها، على الرغم من أن الحدثين كانا ضربتي حظ وجسارة، بالغتي الأثر في تاريخ العراق والمنطقة كلها.
الشطارة هنا شيء آخر. قبل أن أدخل في توضيح مفهومي للشطارة البعثية و"الغباء" العراقي، وهو مفهوم شديد النسبيّة والشَرطيّة، لا بد لي من التوقف عند كلمة شائعة جدا اسمها: بعثي؛ ولا بد لي أن أسأل: من هو البعثي؟
أنا أعرف أن الجواب عن هذا السؤال الأحمق لن يكون بالكلمات، سيكون قهقهات عالية، صاخبة. فمن يجهل البعث في عراق اليوم!
إنني أدرك أن كل فرد منّا يعتقد أنه يعرف البعث، كما يعرف نفسه. وهذا صحيح تماما. لكنني أجد أن الجميع يعرفون البعث معرفة تأويلية، تضاهي، لفرط دقتها الخيالية، معرفة المرء عدد شعرات رأسه. والمرء يعرف بدقة تامة عدد شعرات رأسه في حالة واحدة فقط، حينما يحلق المرء شعره من جذوره؛ حينذاك يستطيع المرء أن يتوصل حسابيا الى أن حصيلة ما موجود من شعر في رأسه يساوي صفرا كبيرا، غير قابل للزيادة أو النقصان. ولكن، حالما تبدأ الشعرات بالظهور، يضيع الحساب مجددا.
هذه المعادلة الشعرية الغريبة حيرتني كثيرا، وجعلتني أعيد التفكير بالسؤال الذي كتبت عنه غير كتاب، ولكني رغم ذلك، ما انفككت أجهل جوابه: من وما هو البعثي؟
غير الأغبياء من العراقيين، الذين نسميهم كتاب القوانين والدستور والمشرعين، فسروا كلمة بعثي أكثر من سبع مرات خلال خمس سنوات حسب، منذ سقوط الصنم الأكبر حتى تاريخ كتابة الدستور، وكل الدلائل تشير الى أن تعريفا جديدا مغايرا في سبيله الى الظهور قريبا. والتعاريف كلها، التي حواها النص الأول للدستور العراقي المقترح، ونص السفارة الأميركية، ونص ما عرف بمشروع الدستور، ثم نص بريمر، ونص مسودة الدستور، وأخيرا نص الدستور الحالي، تتخبط تخبطا شديدا في توصيف وتحديد مضمون كلمة بعثي، وتضطرب اضطرابا عظيما كلما اقتربت من سبل التعامل مع البعثي. لقد ظل البعث، كمدلول، ولم يزل، صيغة زئبقية، لا يستطيع أحد تحديد كنهها. وقد عمل الاحتلال، بخطة بارعة، على تعميق هذا الاضطراب، من أجل أمر واحد، هو تفكيك مركزية الديكتاتورية، وبعثرتها على شكل أجزاء ديكتاتورية، ولكن أقل حجما، بما في ذلك بعثرة الشر والعنف والفساد والذل والإذلال. هنا غدا البعثي سرا غير قابل للحل أبدا، سرا مبثوثا في كل كيان. ولهذا السبب اعتقدت دائما، مثل ابن عمي مشتت بن خريبط، أن البعثي ليس شخصا محددا، وليس فردا، بل هو منظومة متنوعة ومحددة من النوازع والسلوك والمواقف يمكن لنا أن نجدها في اليساري واليميني، في الملكي والجمهوري، في الديني وفي العلماني، وحتى في المواطن المستقل غير الحزبي، وربما نجدها في جميع الناس القادرين على حملها في لحظة معينة أو في الراغبين في استعارتها.
لهذه الأسباب جميعها، وجدت أن من المستحيل على المرء أن يضع تعريفا دقيقا للبعثي. ووجدت أن الطريقة الوحيد للوصول الى تلك الغاية هي أن نسأل البعثي نفسه من يكون، ونقبل إجابته على أنها الحجة الوحيدة المقبولة ثقافيا. وحينما يجيبنا يتحتم علينا مطابقة جوابه مع نظرية المكتشف العراقي الشهير مشتت بن خريبط، الذي يُعدّ أول عراقي في التاريخ يكتشف سر البعث في هيئته الفطرية الصافية. وبمطابقة الأمرين – رأي البعثيين ورأي مشتت- نصل الى تعريف منطقي وواقعي يوضح لنا كنه هذا الشيء الغامض والغريب، الذي اسمه البعثي.
قبل أن نذهب الى نظرية مشتت بن خريبط سنتوقف عند أهم الكتاب البعثيين، وهم في الغالب من الكتاب الأكثر جلجلة وقعقة، ولا يهم هنا مقدار انتسابهم الى البعث الصدامي أو الدوري أو الأحمدي أو غيرها من التفريعات، ما يهمنا هنا هو الهوية البعثية الثقافية.
آخر مقال قرأته لأمير الحلو حمل عنوانا بعثيا صادما بشكل قاس ومرعب اسمه: "نقاط الحبر الأخيرة، الصمت أفضل صلاة". إذاً، الحلو يصلي صمتا بعثيا!
مالك المطلبي يكتب عن تجربة اكتشاف البنطلون في الحلفاية. طبعا هو يريد أن يسلي شعبه الحزين! وسامي مهدي مهموم بالكتاية عن الجرس الموسيقي في القصيدة، وحميد سعيد مستغرق في البحث عن تداخل الأنماط في النص، وأحد مثقفي الحزب يكتب عن طقوس الصمت المسرحي في حركة الجسد على خشبة المسرح!
أما نحن، الأغبياء، فمشغولون بأمر اسمه العراق والمواطن العراقي.
صلوات الصمت، والصمت الذهبي والفني، الثقافي، البعثي، تتعارض تعارضا مطلقا مع طبيعة البعثي السلطوي، الذي تحاور يوما مع المثقفين المختلفين بالسلاح الثقافي الوحيد الذي يمتلكه : "القنادر"، والذي كلف يوما أحد زبانية مجلة "حراس الوطن" أن يقتحم عزلة الشاعر رشدي العامل ويسأله عما يفعله أثناء صمته. كانوا يحترفون النبشّ حتى في دهاليز الصمت وهم في ذروة الجبروت، لكنهم يغدون صامتين كالقبور حينما يكون الوطن في ذروة الكارثة. لماذا؟
# # #
يعتقد البعثي اعتقادا جازما أن شطارته تُستمد لا من مقدراته العقلية المتفوقة، وإنما من مقدرة العراقي الواطئة على تمييز البشر. وهو اعتقاد مبني على مبدأ مجرّب بعثيا، يقول إن العراقي، الذي يلهو بالشر ويلعب معه كما تلاعب القطط صغارها، هو مَعين البعثي الأساسي على بعث خصلة الذكاء في كيانه؛ لأن العراقي، في نظر البعثي الشاطر، غبي بامتياز.
هذا الذكاء (الخراب) الثقافي والايديولوجي والسلوكي رأيناه يشع ساطعا في أواسط الستينات وأواخرها، حينما مال المثقف البعثي الى مشروع الحداثة والى الجانب المثير من لعبة الشكل الفني واللغوي، متناسيا توجهات حزبه الصارمة، فبدا لنا حينذاك مارقا، فنانا أصيلا، ومجددا يستحق الاحترام والإعجاب والتحالف والمناصرة.
ولم يكن بعثيُو الستينات سوى نسخ مكررة ومملة من بعثيي اليوم ومن بعثيي الغد، لأن البعث يتناسل بشكل عكسي، فالابنُ يلد الأبَ. البعثي الشاطر يخفي قعقعات الحقد والسلاح والايديولوجيا تحت رداء الصمت واللعبة الفنية البريئة ، كلما أحس بالضعف، وكلما اشتدت مخاطر الوطن وأزمة مواطنيه "الأغبياء". البعثي الشاطر يجلس على تل الفن يتغنى بالصمت وبالبنطلونات وبموسيقى الأنماط الأدبية، في الوقت الذي تحترق الأجساد والأرواح على أرض الواقع.
أقسم بالله العلي العظيم أنني ، بمقدار كرهي للبعث، تمنيت أن أرى مثقفا بعثيا شريفا واحدا يدافع عن أسوار بغداد في مواجهة قوات الاحتلال، وتمنيت أن أرثيه رثاء الشهداء الأبطال، لكني لم أر هذا الشهيد الفريد. رأيت البعثي وهو يتغني بالموت وللموت، لكنني لم أر بعثيا يستشهد دفاعا عن بغداد الجريحة، التي داستها أقدامهم بوحشية طوال أربعة عقود.
أريد من البعثي- وأعني المثقف البعثي، الذي ترك ما هو جسيم والتجأ الى ثقافة البنطلونات والأجراس الصامتة، والذي ترك صغار الهواة يدافعون عنه وعن كرامته المهانة- أن يقول لي، متى سيبدأ بتحديد موقفه العلني مما جرى، ومما يجري الآن؟ المعضلة الكبرى التي أواجهها في خطابي هذا هي أنني لا أعرف لمن أوجه خطابي. فأنا لا أعرف بعثيا محددا أوجه اليه رسالتي. لذلك أجدني مضطرا الى الاستنجاد بمعارف ابن مدينتي، الفلاح الطيب مشتت بن خريبط، الذي ظللنا نعتبره لحقبة طويلة المكتشف الأول والأخير للبعثي. لكننا لم نصدقه حينذاك، بل سخرنا منه، وجعلناه أضحوكة تلحس اكتشافها التاريخي بذل الجهلة، الأغبياء.
# # #
حدث هذا في يوم مالح من أيام ثورة تموز، في أطراف مدينة الميمونة، التابعة للواء العمارة. كان مشتت بن خريبط عاملا موسميا، يعمل كعادته في تشذيب ساقية حقل طمرتها الخنازير، حينما سمع لغطا وهرجا كبيرا صادرا من وراء الحقول.
نظر مشتت من بعيد فرأى جمعا غفيرا من البشر يتراكضون من كل صوب ويتجمعون حول نقطة محددة في هيئة دائرة، وهم يتزاحمون بالمناكب. انصت مشتت جيدا فسمع بضع كلمات غامضة. أنصت بصورة أفضل فراعه ما سمع: بوعثي....بوعثي... بوعثي! خلعت كلمة بعثي قلبه من جذوره، فقفز الى فالته ورفعها مثل رمح وانطلق صوب الجمع المحتشد حول البوعثي. ومن بعيد شاهد الناس سحابة من الغبار تتطاير ورمحا مسنونا يخترق الفضاء. كان مشتت منطلقا، مدفوعا برياح الحرية القاتلة. انقسم الناس المحيطين بالبعثي، الملقى على الأرض، الى صفين من فرط الخوف والهلع. شق مشتت الصفين مارقا مثل سهم، حتى وصل الى جسد البعثي المكور على الأرض وهمّ بطعنه. وقبل أن تلامس النصال جسد البعثي، لمح مشتت أمرا غريبا شلّ يده. توقفت يده في الهواء متيبسة وهو يلتفت الى الناس متسائلا بخيبة: "وين البوعثي؟"
فرد الناس جميعهم بلسان واحد: "هذا، تحت رجليك يا مشتت."
طأطأ مشتت رأسه، وأنزل فالته ومشى ذليلا كسيرا خائبا وهو يتمتم: " لكن هذا ابن آدم!"
####

أين المراجعة الثقافية البعثية؟ أين المراجعة الثقافية لمن حكموا البلاد والعباد ثلاثة عقود ونصف العقد؟
جاء الاحتلال وابن آدم نائم، سقطت حصون بغداد وابن آدم نائم، دمرت الفلوجة وابن آدم نائم، استوعبت السجون مئة وعشرين ألف سجين وابن آدم نائم، سُن دستور وابن آدم نائم، وقعت اتفاقية احتلال وابن آدم نائم. جاءت الحروب الأهلية وابن آدم نائم. اختصم المختصمون وتناحر المتناحرون وابن آدم نائم!
أيها الرائي الكبير، والقائد الوطني الأوحد مشتت بن خريبط! هل تعرف متى يستفيق المثقف البعثي ويخبرنا في أي موقع يقف: في صف البشر الأغبياء أم في صف الطنطل الشاطر؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. راجع اللغة العربية في ساعة.. أقوى مراجعة لمادة اللغة العربية


.. تغطية خاصة من حفل افتتاح الدورة السابعة والسبعين لمهرجان كان




.. حول العالم | موسيقى فريدة بأنامل أطفال مكفوفين في تايلاند


.. الدورة الـ 77 من مهرجان كان السينمائي.. ما أبرز ملامحها وأهم




.. الموسيقي المصري محمد أبوذكري يصدر ألبومه الخامس -روح الفؤاد