الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكلمة

الهام ملهبي

2008 / 12 / 7
الادب والفن


- الرجل متعفن تماما، كيف أمكنكم أن تصمتوا على حالة مثل هذه إلى الآن ؟ حالة طبية غريبة لم يسبق لي أن عاينت أمرا مثل هذا أو سمعت عنه. كل شيء بداخله متعفن ، أحشاؤه، قلبه، رئتيه ، جهاز التنفس ، الحلق ، الشرايين، أ لم تأخذوه إلى طبيب آخر قبلي؟
- انه لا يتكلم ، لم نكتشف أنه مريض إلا بعد أن ساءت حالته و لم يعد يستطيع النهوض.
- أمر غريب فعلا ، سأحاول أن أجد تفسيرا طبيا للحالة ، آنذاك فقط يمكن أن أخبركم عن نوع العلاج.

انصرف صديقاه مستغربين حزينين، لماذا لم يشك ألمه؟ لماذا صمت و لم يخبرهم أنه يتألم؟ انه فعلا شخص عنيد، ما الذي كان سيخسره لو نطق كلمة واحدة و قال انه مريض؟ سيموت الآن و يتركهم ، هم بحاجة إليه أكثر مما هو بحاجة إليهم. كانوا أنانيين حين تركوه يشيخ أمامهم قبل الأوان، رأوه يشحب أمامهم يوما بعد يوم، شاهدوا الشكوى في عينيه ، أحسوا الألم في أنفاسه و لم يفعلوا شيئا. أرادوه أن يبقى هكذا صامتا يسمعهم.
كان ما يزال شابا حين اتخذ ذلك القرار ، دفعه حماس الشباب إلى الحسم بصرامة في قرار كان يدور في رأسه بإلحاح مثل عصفور صغير. اتصل بأصدقائه و معارفه الأكثر قربا ، و جمعهم في اجتماع طارئ ليبلغهم بقراره، و اخبرهم بحزم و لغة صارمة : " قررت الصمت" ، و صمت . و كانت تلك آخر كلمتين نطقهما.
منذ ذلك الزمن و هو لا يتكلم، يسمع فقط. يأتي أصدقاؤه لزيارته ، يتكلمون كثيرا حتى تجف حلوقهم و ينصرفون. مل أغلبهم من زيارته ، و بدأت زياراتهم تقل شيئا فشيئا، انقطع بعضهم نهائيا عن السؤال عنه ، و بعضهم بقي وفيا للصداقة ، ثم في النهاية بقوا أوفياء لتلك الزيارات المتكررة التي أصبحت عادة روتينية . بعضهم وجدها فرصة لتكسير الكتمان و أصبح يذهب لزيارته كلما كان بحاجة للاعتراف بخطأ ، أو لإفشاء سر من أسراره أو أسرار الآخرين. هو لا يتكلم ، و لا يمكن أن يفضح أحدا ، و لا أن يواجه أحدا بكلمات جارحة ، و لا أن يحاسبه على أخطائه ، و لا أن يرفض سماع أحد و هو يتكلم بجانبه.
كان ذلك جسرا قادة لاكتشاف أسرار مهولة جعلت الشيب يظهر على شعره قبل . كان كلما سمع أحد أصدقائه يتكلم و يفشي كل تلك الأسرار و تلك الخفايا يحس ألما غريبا يرشق قلبه. كل هذا الحقد دفين بداخلهم و هو لم يره، لا يمكن أن يكون هؤلاء هم اصدقاؤه الذين أحبهم يوما و فرح معهم، لا يمكن أن يكونوا هكذا يطعنون بعضهم باستمرار في الخفاء، و يتكلمون عن بعضهم بهذا الشكل. أهذه هي الحياة؟ كل شيء فيها مزيف حتى الأصدقاء؟ لو كان يعرف هول ما تخفيه الحياة و راء بساطتها لكان اتخذ قرارا آخر غير الصمت. كان يسمع و يتألم ، و الجراح بداخله تتعفن من جراء الصمت. كان يتمنى أن يصرخ في وجههم: " اصمتوا". كانت الكلمة تتحرك بعنف في حلقه تدفع الحبال الصوتية بشدة و تتسلقها بحماس لتخرج إلى النور ، فيزم هو شفتيه بقوة ليمنعها من الخروج. لماذا يطلب منهم الصمت و قد جرب عذابه ، و جرب الألم الذي تسببه الكلمة حين تكبر في جوفه و لا تجد سبيلا للمغادرة.
مازالت جراح ذلك اليوم نازفة بداخله ، حين جاءت تلك المرأة لزيارته . كانت قد مرت سنوات قليلة على اتخاذه قرار الصمت. زيارتها بعثت الندم بحرقة في قلبه ، كانت أول مرة يحس فيها بندم كبير على صمته.
جاءت لتوقظ الحب بداخله بعدما كان قد طواه و أخفاه داخل درج صغير في قلبه . كانت مسافرة خارج البلد ، و عادت . سمعت الخبر من الأصدقاء: " انه صامت لا يتكلم. قرر ذلك القرار منذ زمن و نفذه دون تردد . هو الآن صامت بمحض إرادته." ، لم تصدق الخبر ، لقد عادت من أجله. كانت قد سافرت هربا من كل شيء، و عادت لتعترف أنها تحبه : " كنت أنانية حين رفضت حبك. لم أدرك آنذاك أنني بحاجة إليك ، كنت أحس حبك و أتهرب منه . أعترف الآن أنني كنت على خطأ ، و أعترف أنني أخطأت في حقك كثيرا. اليوم عدت إليك و أنا غير متأكدة إن كنت ستسامحني ، و إن كنت مازلت اعني لك شيئا. فاجئني ما سمعته من الأصدقاء عن الحياة التي أصبحت تعيشها لماذا اخترت الصمت؟ تكلم و إن كانت كلماتك غير ذات معنى ، و إن كانت لا تجدي شيئا ، و إن كانت سخيفة ، تكلم فقط ،فالكلمات إكسير الحياة . كل كلمة تغادر حلقنا تخلف و راءها لحظة أخرى سنحياها . تكلم ، قل انك تحبني ، قل انك تكرهني ، قل إنني ظلمتك ، حاكمني ، حاسبني ، اطردني من بيتك ، اشتمني و حقرني . قل إن هذه الحياة قذرة و قاسية ، قل إن هذا العالم كومة من الكذب ، و لكن لا تبقى هكذا صامتا . لقد عدت من أجلك ، و يجب أن تكلمني"
أحس الكلمة تتحرك بداخله ، تزحف بهدوء و تداعب قلبه مثل ريشة صغيرة . أراد أن ينطقها و لكنها لم تصعد إلى الحلق. أراد أن يقول: " احبك" و خانته هذه الكلمة ، لم تتسلق الحنجرة لتصل إلى اللسان. بقيت في العمق . أحسها تكبر بهدوء و تتحول إلى كرة صغيرة وسط صدره. تنتفخ أكثر مثل بالون كبير ، و هو صامت ينصت إليها تتكلم أمامه . مازالت جميلة كما كانت ، ما زالت مفعمة بالحياة رغم عينيها الحزينتين. صبغت شعرها بالأسود و ازداد وجهها إشراقا. الكلمة تنتفخ أكثر فأكثر بداخله ، تكبر مثل جبل صخري . كيف أمكن لجسده النحيل أن يحتويها و هي بهذا الحجم. أصبحت عملاقة بداخله و مازالت تمارس تضخمها و تضغط على تنفسه حتى انفجرت بعنف مؤلم . أراد أن يصرخ متألما و كان حلقه مسدودا تماما. لم يقم بأي فعل غير الصمت و هو يراها تقف بهدوء و تنصرف من أمامه مودعة. قبل أن تفتح الباب و تغادر استدارت باتجاهه في آخر محاولة منها لاستجداء كلمة منه : " لم أعهدك هكذا جبانا ، تكلم. "لم يتكلم ، و غادرت تاركة إياه صامتا تمر عليه السنوات و هو يسمع اعترافات أصدقاءه ، و الألم يكبر بداخله و تزداد الجراح ، و الكلمات تتعفن في ذاكرته و داخل صدره.
في غياب الأصدقاء كان يسمع الراديو و يشاهد التلفاز، و سنة بعد سنة كان يجد اللغة التي يسمعها تتغير، تظهر كلمات و تختفي كلمات . و كلما سمع كلمات جديدة يتمنى لو يجرب نطقها، و يظل يمرر الحروف في ذهنه بشغف و هو يتخيل كيف يمكن أن ينطقها : ( ا.ل.ع.و.ل.م.ة) ، ( ا.ل.ا.ن.ت .ر.ن.ي.ت) ، ( ا.ل.ا.و.ر.و ) ( ا.ل.و.ي.ب.س.ا.ي.ت) تدور الكلمات في ذهنه و هو يتساءل : " إذا أردت النطق فهل سأجيد الحديث بلغة جديدة علي؟"
تغيرت عليه اللغة ، و حتى المفاهيم. ما كان يسمى " امبريالية" أصبح يسمى " شرعية دولية" و " مجتمعا دوليا" . ما كان يسمى " عدوا صهيونيا" أصبح يسمى "كيانا إسرائيليا". كل يوم يشغل التلفاز و يسمع نفس الكلمات تتكرر: العبوات الناسفة ، السيارات المفخخة ، الأحزمة الناسفة ، و الانفجارات و صور الجثث و الأشلاء و الدماء تملأ الشاشة ، و لكن كل هذه الوحشية و العنف و الموت لا يسمون حربا في هذه اللغة الجديدة ، لأن البشر أصبحوا يستعملون مفهوم الحرب للتعبير عن أمور أخرى مثل محاربة الفقر و محاربة الإرهاب.
أيام كان مازال كائنا ناطقا ، لم يكن ينتبه الى أن اللغة مطواعة بهذا الشكل في يد البشر ، و لم يتصور يوما أنها ستتغير بهذه السرعة ، و تتخلى عن سلطتها و قسريتها . تغيرت عليه اللغة بسرعة و تركته جالسا فوق كرسيه لا يجيد غير اللغة التي تعلمها منذ زمن . لا يعرف الآن إن كان قد يستطيع من جديد استعمال هذه اللغة الجديدة و نطق كل هذه المفردات المستحدثة. و لكن الأمر الذي لا يعرفه هو أنه أصبح عاجزا عن الكلام . لم يعد صمته إراديا ، تكسحت الكلمات بداخله ، منها ما يبس و تفتت ، و منها ما تعفن من جراء عدم الحركة . اللغة كائن حي ، بقدر ما هي قادرة على التحول و التشكل و الاندماج ، فهي أيضا غير قادرة على الجمود و الترسب و الصمت و عدم الحركة. ماتت اللغة بداخله ، و تعفن جثمانها و بقاياها و هو جالس بغباء فوق كرسيه ينتظر فرصة مناسبة ليتراجع عن صمته و يجرب مثل طفل صغير نطق الكلمات الجديدة. إلى أن أصبح يوما و وجد نفسه غير قادر على مغادرة سريره ، لم يستطع الحركة ، كانت قواه خائرة و منهدة . مرت عليه خمسة أيام و هو عاجز فوق السرير. حتى جاء صديقاه لزيارته، نظر إليهما و أراد أن يتكلم: " أنجداني، إنني أموت " و لكنه لم ينطقها ، كانت عيناه فقط تستنجدان بالصديقين اللذين حملاه إلى المستشفى دون حتى أن يعلما بحجم الألم الذي يعيشه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا