الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوم أزرق

محمد بقوح

2008 / 12 / 6
الادب والفن


.. لم يهتم بالمطر، الذي بدأ يسقط بغزارة، على جسده النحيل، في هذه المدينة الصاخبة،التي فتن بها حتى الثمالة .. منذ وقت قصير فقط .. مدينة الحركة والبطالة والضجيج ..، كما يسميها ..، المدينة التي تكبر كل يوم، لكن هو.. يصغر كل يوم .إنها مدينة المتناقضات،حسب تعبيره : الكبير يزداد كبرا، والصغير يزداد صغرا، بل غرقا. إنه يأتي إليها راجلا من قريته البعيدة، لأنه تعود على جوها العام، لكنه،كما يقول، لأن العمل فيها مربح (كثرة الجالسين في المقاهي، التي تنبت كالفطريات، تمكن من الكسب الطيب) .
ظل في مكانه، بقامته القصيرة، وشعره الأشعث .عدل من جلسته، بفعل قوة المطر، فعاد شيئا ما إلى الخلف .جلس على كرسيه الخشبي، كما يفعل دائما، منذ مغادرته للمدرسة، بسبب مشاكل أسرته .
كان في حدود العاشرة من عمره .رغم ذلك يبدو أكبر بكثير .لكن " الشطارة " لا تقاس بالسن، بل بالخبرة في الحياة .ليقنع نفسه في النهاية، أنه في خارج أسوار المدرسة، وفي أرصفة الشوارع،على الأقل، يكون أقرب إلى كسب قوت يومه،الذي يدعم به وضعية أسرته الفقيرة ..و تقيه، في نفس الوقت، من شر نظرات أبيه القاسية، كلما حمل كتابا أو فتح كراسا ..(فلتذهب المدرسة إلى الجحيم ..) .
يرتدي ثيابا رثة،و ممزقة من بعض الجوانب .هو لا يهمه الشكل :هذا ما يقوله لرفيقه هشام دوما،رفيقه في الحرفة ..
هذا الرصيف، حيث هو قابع الآن ينتظر، خال من المارة إلا من بعض الرجال، الذين يسرعون في خطواتهم، غير مهتمين بصيحاته الخافتة أحيانا، والصارخة في الكثير من الأحيان،من أجل أن يتوقفوا ولو لحظة لتلميع أحذيتهم ..
-آسي ..أرا سباطك ..أرا تسيري ..
يبدو أن آذان الأحذية، في هذا الصباح الممطر، مقفلة بالإسمنت،هكذا خمن الطفل عيسى،فعادت إليه وحشته وغربته .. في حين، اكتفت الأجساد المارة أمامه بإلقاء نظرة صغيرة على حاله، وهي نظرة لا تخلو من رأفة حينا، ولا مبالاة حينا آخر .. والمظلات المختلفة الأشكال والألوان،المرفوعة فوق رؤوس أناس على عجلة من أمرهم .. بلا سبب يذكر .. تقاوم دقات المطر، التي باتت أقوى من ذي قبل ..لست أفهم (يفكر عيسى) " لماذا لا يلمعون أحذيتهم في يوم ممطر جميل كهذا ..؟ مع العلم أنه كباقي الأيام ..، إن لم أقل أفضل الأيام .. كل كائنات الدنيا تسعد بمياه المطر .." .
التصق جسد الطفل عيسى أكثر (بالصندوق) الخشبي .جمع أشياءه وأدواته الخاصة، التي يستعملها في مسح أحذية الراجلين .و أدخل الكل في كيسه البلاستيكي المعهود .لكن ظل جالسا على (كرسيه) وممسكا به بكلتا يديه ."أمس القريب ربحت مصروف ثلاث أيام .و أدخلت الفرحة والبهجة إلى قلب أمي العزيزة ..أما اليوم ..فلكل يوم رزقه" . الوقت لايزال مبكرا، لايمكنه العودة هكذا خاوي الوفاض إلى البيت ..
فجأة، توقفت في هذه اللحظة سيارة،يبدو من خلال لوحة أرقامها، أنها قادمة من الديار الفرنسية . . " هذه (همزة) أتى بها الله حتى عند قدمي "، هذا ما قاله عيسى، وهو يراقب سيارة ميرسيديس السوداء، وهي تحاول أن تتموضع، بالشكل المناسب، بين باقي السيارات،لكن بدون جدوى ..في هذه اللحظة بالضبط، ترك الطفل عيسى الكيس يسقط على الأرض، ووقف،كأن نحلة لسعته، وأخذ يشير لسائق السيارة إشارات واضحة، تبين له كيف بإمكانه أن ينجح في موضعة سيارته .و بالفعل، لم تمر دقائق معدودة، حتى وجدت السيارة السوداء ميرسيديس، مكانها في البارك . خرج منها رجل قوي البنية .شكر الطفل عيسى، الذي حاول أن يرد التحية بأدب،فقاطعه الرجل قائلا :
- من فضلك ..أولدي شي غسلة لهاذ السيارة ..تكون مزيانة (واضعا في كفه ورقة نقدية لم يصدق الطفل عينيه)...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. «بوحه الصباح» رجع تاني.. «إبراهيم» جزار يبهر الزبائن والمارة


.. مختار نوح يرجح وضع سيد قطب في خانة الأدباء بعيدا عن مساحات ا




.. -فيلم يحاكي الأفلام الأجنبية-.. ناقد فني يتحدث عن أهم ما يمي


.. بميزانية حوالي 12 مليون دولار.. الناقد الفني عمرو صحصاح يتحد




.. ما رأيك في فيلم ولاد رزق 3؟.. الجمهور المصري يجيب