الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة طف معلن

كريم كطافة

2004 / 3 / 7
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


وقعت الجريمة. وكانت تشبه (قصة موت معلن)*، كل شيء كان معروفاً، مرصوداً قبل الحدوث بأيام وأسابيع وأشهر.. مصرحاً به. لا أسرار، لا طلاسم، لا احجيات يفك رموزها عرافون سياسيون، ولا غموض يغلف الأهداف والنوايا. الفاعل والضحية متعارفان، ومسرح الجريمة ممهد. كان الصحفيون الباحثون عن صيد ثمين، قد أعدوا كاميراتهم منذ أيام، ونشروا لاقطاتهم وعيونهم على مسرح الجريمة. الضحايا يتابعون بعيون مفتوحة الصحفيين وآلاتهم الغريبة ومعها وقائع موتهم المعلن. الوضوح هو سيد الحدث القادم على وقع الطبول، وأهازيج الحزن الحسيني. كان البعض من الضحايا أقتنع أنه سيمارس واقعة (التشابيه) الحسينية ذاتها، ويعلم أنه سيموت إن كان من جيش الكفار أو جيش الحسين، لا بد له من أن يموت لتكتمل واقعة التشبه بتلك الواقعة البعيدة.. لكنه سيكون موتاً كاذباً، نوع من طقس يريد تجسيد تلك المأساة الكربلائية البعيدة. سيكسب بهذا ثواباً مضاعفاً، هناك من قال أن مقياس الثواب هو واحد بسبعين.. نعم واحد بسبعين.. من ا لخطوة التي يخطوها المؤمن على درب الآلام الحسينية، وصولاً إلى تجشم عناء التشبه وتمثيل مسرح الجريمة التاريخية البعيدة.. واحد بسبعين.. الثواب القادم سيكون سبعين.. الأجر المؤجل سيكون سبعين.. وأصحاب الحسين سيد الشهداء كانوا سبعين.. لا شيء يدعو للتردد. كانت وجوه الضحايا فرحة، مستبشرة، بموتها المعلن.. بطفها المعلن.
المجاهدون من على الخندق الآخر، كذلك كانوا فرحين، مستبشرين. خلاصهم القادم من هذه الفانية العاهرة اقرب من نبض قلوبهم، لم يعد أبعد من ضغطة زر صغير في متناول أيديهم.. تخففهم من أوزارها مرة وإلى الأبد في متناول أيديهم.. لا شيء يدعو للتردد.. الحور المنتظرات في فيافي الجنة كذلك سبعين.. لكل مجاهد بدل الواحدة سبعين. على الخندقين.. خندق الضحايا.. خندق الفعلة.. وجوه مستبشرة.. فرحة.. لهفا للقاء لا يحصل إلا مرة كل سبعين سنة.. لسان الطرفين يلهج بسؤال أبله.. ترى كم من السبعينات في هذا العمر الرذيل..؟ لا شيء.. هي سبعين واحدة لنلحقها قبل أن تلحقنا.
و... وقعت الجريمة.. عاد الطف القديم متجسداً.. وقعت تماماً كما أرادها المجاهدون، وكما توقعها الصحفيون، وكما افترضها الضحايا أنها ضرب من تشابيه.. نُفذت الجريمة بالحزام الناسف والرمانة اليدوية وقذيفة المدفع وما ملكت أيمانهم.. سقط الضحايا مضرجين بدمائهم.. اختلطت أشلائهم.. تمازجت.. حتى تعذر التفريق على الباحثين عن المسؤول والمسؤولية.. أشلاء من هذه الملتصقة بقميص أو ساعد أحدهم.. لأي خندق تعود.. وهذا نصف الجمجمة المحروق لمن يعود.. لرجل أو لامرأة.. أو لعلها جمجمة طفل كان قبل الانفجار يتلعثم ما زال بأبجدية الحياة الأولى.. تحققت تنبؤات الجميع، رؤاهم، توقعاتهم السياسية وغير السياسية، فراساتهم العسكرية والمدنية. ارتدى المحللون السياسيون على طول الخارطة المشبوهة من الماء إلى الماء طقومهم الجديدة، لكل محلل سياسي طقم مفصل للفضائيات.. ومارست الزوجات عادة شد ربطة العنق الجديدة.. مسحوا وجوههم للمرة العاشرة بعطر الكولونيا الباريسية.. مذيعات الفضائيات للمرة الأولى لم يحتجن إلى من يلقنهن السؤال.. كان السؤال جاهزاً منذ أيام.. تدربن عليه.. وهو أبسط وأقصر الأسئلة.. من يا ترى يكون المسؤول عن الجريمة..؟ والجواب على طرف اللسان.. من يكون غير أمريكا المتجبرة وربيبتها إسرائيل..؟ يرد المحلل السياسي على السؤال بسؤال.. يفحم المذيعة الجميلة، ومن ورائها جمهور الخارطة المشبوهة.. جمهور كان يردد الرد قبل سماعه من فم المحلل السياسي.. تشكر المذيعة الجميلة بابتسامة ناعمة المحلل السياسي الخشن، ويرد لها المحلل الابتسامة بأنعم منها.. يتفرغ الهواء لينقل لنا الفاصل الإعلاني الذي يروج لشماغ البسام البصمة اللندنية.. كل حقق نبوءته ومشى.. والضحايا ما زالوا يفترضون أن الأمر ضرب من تشابيه.. لم يصدقوا بعد.. لم يفهموا بعد كيف تحول الأمر من تشابيه إلى حقيقة.. كانوا ضحايا من نوع الذين تعوزهم تنبوءات الصحفيين وشطارة المحللين السياسيين.. من أين لهم التصديق أن للطف تجسدات زمانية.. وإذ كان الطف الأول قد أُنجز بالسيف والرمح والسهم.. لماذا لا يتجسد الطف الجديد بالحزام الناسف والرمانة اليدوية وقذيفة المدفع.. لكل عصر طفه وسلاحه.. وكل مجاهد وما ملكت يمينه. وصل رقم الضحايا ساعة كتابة هذا البلاغ إلى مئة وسبعين.. مع ثلاثة عشر كيس بلاستيك أسود فيه أشلاء لا تُعرف لمن.
6/3/2004
* قصة موت معلن.. هي رواية قصيرة للروائي الكولومبي غارسيا ماركيز








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد الهدنة التكتيكية.. خلافات بين القيادة السياسية والعسكرية


.. دولة الإمارات تنفذ عملية إنزال جوي للمساعدات الإنسانية على غ




.. تشييع قائد عسكري إسرائيلي درزي قتل في عملية رفح


.. مقتل 11 عسكريا في معارك في شمال قطاع غزة 8 منهم في تفجير است




.. بايدن بمناسبة عيد الأضحى: المدنيون الأبرياء في غزة يعانون وي