الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زيارة السيدة العجوز والمسرح الرأسمالي

حكمت الحاج

2008 / 12 / 9
الادب والفن


على الفضائية المصرية تسنت لي مشاهدة تسجيل تلفزي لعرض مسرحي يعود الى أوائل التسعينات من القرن 20، أعاد الي، إضافة الى جودته الفائقة، وتكنيكه العالى، وحرفيته البينة، بعضا من ذكريات أزمان غابرة، جاست كثيرا في أروقة المسارح، وتخفت دائما وراء فوضي الكواليس، اعتقدت انها اندثرت، أو كادت أن تندثر. فشكرا لكل من ساهم في إهدائنا كمشاهدين صبورين بالصدفة المحضة، تلك الزيارة الى جنان المتعة البصرية الرائقة.
الفنانة سناء جميل، والفنان المقتدر جميل راتب، لعبا دوري البطولة الرئيسيين في المسرحية المذكورة، الى جانبها طبعا ثلة من نجوم الفن المسرحي والدرامي في مصر، أخص بالذكر منهم الفنان شعبان حسين، المتميز دائما في كل أدواره، ويوسف داوود الذي يعرفه الجمهور من خلال المسلسلات الكوميدية خاصة على الشاشة الصغيرة.
ولقد اختار منتجو هذا العرض المسرحي أن يسمونه دورينمات والزيارة ، وهم يريدون منا ان ننتبه الى أمرين، أولهما ان المسرحية لها علاقة بالكاتب السويسري العالمي فريدريتش دورينمات، حيث قام بترجمتها وإعدادها د. يسري خميس على أتم ما يرام، وثانيهما التذكير بعنوان النص المسرحي الأصلي الذي تم العمل عليه، وهو زيارة السيدة العجوز ، الأكثر من شهير في العالم أجمع، والذي سبق لهوليوود أن حولته الى فيلم سينمائي ضخم.
ومع انه ليس هنالك من داع لمثل هذه التسميات الثقافوية والتي ربما تبعد المشاهد العادي عن متابعة عمل فني جاد وصادق ولا يتوجه إلا اليه في نهاية الأمر، فلربما كان هناك تخوف اعلامي من اقتران صفة السيدة العجوز باسم النجمة الكبيرة سناء جميل ، وما هي أبدا بـ سيدة عجوز بل تبقى تحمل هالة عنفوان الفن في ربيع أيامه الدائم، مهما فرض عليها جلال تقدم السن أدوارا تناسب المرحلة.
طبعا هذا قبل أن تغادرنا الى العالم الآخر.
هل قلنا شيئا عن الأخراج، ونحن نتحدث عن المسرح؟
إذن لنقل ببساطة وإيجاز، وبلا مقدمات تعريفية، ان الفنان محمد صبحي هو مخرج هذا العرض المسرحي الرائع، تساعده في الاخراج الفنانة نيفين رامز.
وكلكم يعرف محمد صبحي، بالتأكيد.
كان بدأ في طريقه لأن يكون ممثلا كوميديا ممتازا، فحسب، لكن القدر الإغريقي رمى به الى أودية الفن الرابع الراقية، فارتفع معها وبها شاعرا للصورة والكلمة على خشبة الخلاص الانساني، خشبة المسرح.
ولا داعي للتذكير بأعماله الكثيرة والمتقنة في هذا المضمار، نشير فحسب الى سكة السلامة 2000 وذلك العمل الذي أعاد الاعتبار للمسرح الغنائي في عصره الذهبي، برفقة الفنانة سيمون، وبالتأكيد عرفتم اننا نتحدث عن مسرحية كارمن.
وعودا الى مسرحية دورينمات والزيارة ، أو زيارة السيدة العجوز ، فإنه لمن الجدير بكل ذكر وتذكير وإلحاح في الإشادة والإفادة، أن نقول ان هذا العرض المسرحي الضخم بكل المعاني، كان تم تقديمه باللغة العربية الفصحى، على عكس ما كان متوقعا.
ولكن أية عربية فصحى؟
نقولها بعجالة: كانت المسرحية بصياغة د. يسري خميس، درسا في اللغة المسرحية.
وكان أداء الممثلين جميعا، وعلى رأسهم سناء جميل وجميل راتب، عبر الكلام بـ اللغة العربية الفصحي، آية من آيات الفن المعجز الراقي المتقن الجميل.
ولنتخيل فقط اننا على مدى اكثر من ساعتين لم نلحظ أي خطأ نحوي ولا بلاغي، ولا صدع آذاننا أي لَحْن أو عُجْمة ... لنتخيل مدى الجمال فحسب..
ولكن، دعونا نتساءل بكل سذاجة، هل نستطيع أن نستشف شيئا من صدفة عرض مسرحية قديمة على شاشة فضائية عربية عريقة، الآن؟
لنسارع الى الجواب: نعم، يمكننا ذلك.
فهناك أكثر من وشيجة بين ابداع دورينمات وبين الابداع العربي في المسرح المعاصر، وبين وجودنا في هذا العالم واعتراكنا في أزماته المعاصرة والآنية.
لقد انشغل دورينمات ـ مثل غالبية جيله من الكتاب ـ بقضايا ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو قل قضايا مرحلة الحرب الباردة التي كانت تتفاقم يوماً بعد يوم أثناء فترة إبداعه، وكان سباق التسلح أبرز ملامح تلك الفترة، وكانت اكتشافات الأسلحة النووية وتطويراتها المختلفة تقف بالناس على أطراف أصابعهم من الرعب عندما كان ينشب خلاف بين الدولتين العظميين في ذلك الوقت.
وكان دورينمات رجلاً عصرياً بمعنى الكلمة، كان يعيش فضيلة التسامح بما تفيضه على نفس الانسان من رحابة صدر وتقدير لكل نواحي الضعف البشري ومن حب للبشر والرغبة في السلام ومن حرية التفكير وجسارته، وفضيلة التسامح هي التي تمنح أيضاً روح الكوميديا ونقدها المرح والفكاهي لشطحات الانسان وادعاءاته.
ان الالتباس الذي تثيره مواقف دورينمات نكاد لا نجده عند اي كاتب اخر، فهذا الكاتب كان يقف ضد النظام الرأسمالى بمقدار ما يقف ضد النظام الاشتراكي.
بدأ دورينمات كاتباً للقصة عندما نشر مجموعة منها بعنوان (البلدة)، ثم تحول للمسرح مع مسرحية (المكتوب)، التي كتبها عام 1946، وقدمت على مسرح زيوريخ عام 1947 باخراج كورت هورفتس.
بعد مسرحية (زواج السيد مسيسيبي) يكتب دورينمات مسرحيته المعروفة (زيارة السيدة العجوز) وهي المسرحية التي حققت له الشهرة على المستوي العالمي. و(السيدة العجوز) هي (كلير تسافانسيان) التي غرر بها (السيد آيل) في شبابها، وانجب منها ولدا ثم تخلي عنها وعن ولدها. فتسافر الى امريكا، وهناك اغرت بجمالها العديد من اصحاب الملايين وتخلت عنهم بعد ان استولت على اموالهم، ثم تعود الى بلدتها لتنتقم من (آيل) فتغري بأموالها أهالى البلدة وتدفعهم لقتل هذا الرجل المسكين. وهنا ينكشف، امام زحف المال، المستوى الاخلاقي المتدني الذي وصل اليه أهالى البلدة. ان دورينمات يتحدث في هذه المسرحية عن (مجتمع الرخاء) اي المجتمع الرأسمالى الذي انعدمت فيه القيم والمبادئ والاخلاق. ان الشبه بين عالم هذه المسرحية وبين الاوضاع السائدة في اوروبا الغربية باد للعيان، فبعد الحرب العالمية الثانية تمكنت الولايات المتحدة الامريكية من افساد وشراء المجتمعات الاوروبية الغربية، ولم تقصر عملية الافساد هذه على الطبقات البرجوازية التي لها مصلحة في هذه العملية بل شملت العمال والمثقفين الى حد كبير.
لقد استطاع دورينمات ان يرصد ازمات النظام الرأسمالى والكوارث الناجمة عنه لدرجة وصف معها انه كاتب سوداوي. لكنه في الوقت نفسه لم يستطع رؤية الكوارث الناجمة عن دولة عنصرية مثل (اسرائيل) عندما اعلن تأييده لعدوانها على العرب عام 1967، وعندما منحته الدكتوراه الفخرية عام 1974.
ولد فريدريتش دورينمات عام 1921 في قرية تابعة لمقاطعة بيرن السويسرية عند قسيس.
توفي فريدريتش دورينمات في 14/12/ 1990.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - يستحق الانتباه
kalal ( 2008 / 12 / 8 - 19:51 )
شكرا للكاتب فعلا موضوع يستحق كل اهتمام خصوصا الحديث على درنيمات الكاتب المسرحي المهم قرأت له مجموعة من مسرحياته بالعربي من ترجمة الاستاذ انيس منصور اخص بالذكر مسرحية رومولوس العظيم وقد كانت مشروع تخرجي من المعهد تحية للحوار المتمدن على هذه الفرصة والى الامام

اخر الافلام

.. -شد طلوع-... لوحة راقصة تعيدنا إلى الزمن الجميل والذكريات مع


.. بعثة الاتحاد الأوروبي بالجزائر تنظم مهرجانا دوليا للموسيقى ت




.. الكاتب في التاريخ نايف الجعويني يوضح أسباب اختلاف الروايات ا


.. محامية ومحبة للثقافة والدين.. زوجة ستارمر تخرج للضوء بعد انت




.. الكينج والهضبة والقيصر أبرز نجوم الغناء.. 8 أسابيع من البهجة