الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إستقالة رب العالمين ... كل عام وأنتم بخير

هيبت بافي حلبجة

2008 / 12 / 9
كتابات ساخرة


البرد قارس في هذا الصباح الباكر ، ينتابي إحساس مفعم بالألم والمرارة واللوعة ، يعتورني شعور قوي يهزني هزاً يتموج في فرائصي كالرجفة كالرعشة كاالمودة ، رائحة النفل البري يعبق الآفاق يمخر كياني كالصاعقة كالوخزة ، يجيش في صدري لأول مرة دفق وجودي يسلبني إمكانية الحضور ويقذف بي مباشرة كاللحظة كالومضة إلى ضباب كثيف يهاجم نفسه يفترس ذاته ، ( وعندما ترتعد أوصالي أدرك تمام الإدراك إن محنة رهيبة وشيكة الوقوع ) ، لكني ما أدركت للوهلة الأولى إني أنا المقصود ، تتلبد الغيوم وتتكاثف لتتشاحن كأنها تبحث عن حتفها ، كأنها تناديني ، وتتشهى أن ألبي دعوتها ، يعتمل في داخلي هاجس لاسابق عهدي به ، هاجس يقشعر بدني له ، أتمنى أن أغادر هذه الدنيا ، أن أهجر أشباه الموجودات ، أشباه الحيوانات ، هذه الأشباه التي تتلمظ كالفئران ، كالجرذان . البرد قارس في هذا الصباح الباكر ، في صباح هذا العيد الأضحى المبارك ، كل شيء يتحرك بعنفوان ليتخلص من سأمه ، من ضجر السنين ، وعلى حين غرة أجد نفسي هناك ، مساحات شاسعة واسعة لاحدود لاجدران ، مدى مديد يتباعد في كل الأتجاهات يحتضن اللانهاية ، أصوات هنا وهناك ، كأني أعيها ، أصيخ السمع وإذ بي أبصر أصحابها ، أتسمر في مكاني كالذهول كالأمتداد ، لاأنبس ببنت شفة ، لاأقوى على إتيان أي حركة ، آينشتاين أمام حشد غفير يدون على لوح عريض معادلات رياضية ، الكل صامت واجم يرنو ببصره نحو اللوح ويرهف السمع ، وهو ( أي آينشتاين) لايتلعثم يقذف بالجمل كالسيولة ، كالسيل ، كالشلال . في الجانب الآخر يقف كارل ماركس أمام حشد لايقل عن سابقه عدداً ، لايلوي على شيء لايكترث بأحد إنما يسرد ويستطرد في الأسترسال ، يقطب حاجبيه ما بين الفينة والأخرى ، فأدرك إنه يصر على توضيح تلك الفكرة بصورة جازمة ، باتة ، وقطعية . في زاوية بعيدة ألمح سقراط وبيده أشياء لاأبصرها ، يجاذب الحديث مع عدة أشخاص ، أمام أناس لاحصر لعددهم وعلى أمتداد البصر . هذه الأصوات الثلاثة تتداخل في أذني كالطيف ، كالسحاب ، والمكان من حولي يتبعثر ، يتكاثف ، لايستقر على حال ، وبغتة أشاهد على بعد خطوتين مني كهل أشيب الشعر ، كث اللحية ، جالس كالقرفصاء ، متكيء على لا شيء ، يحدج في الآفاق كأنه يحملق في شيء يهرب منه ، دنوت منه خطوة واحدة لأهمس في أذنيه ، ماالذي يجري هنا ، ماكدت أنطق بهذه الكلمات حتى أحدق في بصري كالسهم ، كالحد ، أوشكت أن أذوي في مكاني ، ( ماذا؟ ألست من أهل هذه الديار ) ، سارعت إلى الإجابة كي أسترد ما تبقى من شجاعتي ، أنا غريب ولا أدري كيف أتيت إلى هنا ، أشاح بوجهه عني ونهض من مكانه ليتسلل مابين أحراش غير بعيدة عنا ، يا إلهي ماذا أنا فاعل ، لاأتجاسر أن اقتفي أثر هذا الكهل الذي راعني إلى درجة الموت ، رغم ذلك أتجهت صوبه والذعر يجتاح أضلعي ، على بعد مسافة قصيرة ، ألتفت إلي من جهة الكتف الأيسر وأستدار قليلاً ، وددت أن أعتذر خجلاً ، لكنه تابع سيره دون أن يدعني أن أنطق حرفاً ، ( مابك أيها السيد ) ، أقشعر بدني من جديد ، أستملكني خوف عارم ، على بعد خطوة مني ، كهل أشيب ، عريض المنكبين ، ضخم الجثمان ، متقد الملامح ، ( لاتخف يابني ) ، هدأ من روعي ، ( مابك ألم تعرفه ) أنعقد لساني وألتزمت بالصمت وآثرت ألا أفضح أمري أكثر من هذا ، ( يابني هذا جبرائيل ) ، بانت الحيرة على ملامحي ولم أعد قادراً حتى على طرح السؤال ، ( و أنا عزرائيل ، نحن نمر بمحنة أستثنائية ، بنائبة لم نعشها قط ) أبتعدت قليلاً منه كي يتسنى لي أن أدرك ما يرمي إليه ، وأصيغ السمع كله ، أردف وهو يحدج في الجهة التي ذهب منها سيدنا جبرائيل ( عليه السلام ) ، ( اليوم سيستقيل الرب ، اليوم سيقدم رب العالمين أستقالته ) تجهمت أساريري ، وأحتدمت مشاعري ، وأضرمت نار في جسدي ما خبت وما همدت ، إلى ماذا يلمح سيدنا عزرائيل ( عليه السلام ) ، ( أنظر إلى هناك ) ، أشار إلى حيث آينشتاين وماركس وسقراط ، ( إنهم يخطبون منذ أسبوع ، منذ أن قرر رب العالمين أن يستقيل وليتني أنضممت إليهم فهم على الأقل أصحاب معرفة وعلم وهم جديرون بالأحترام ) ، أستدار نصف دورة بحركة منفعلة وكأنه أستشاط حنقاً ، ( أنظر فيما وراء ذلك النهر ، هناك ، إنها أحزاب الشرق الأوسط ، يتقاطر منها الجهل والرق والعبودية ، لايبدعون إلا في فنون التضليل ولا يتقنون إلا الأكل على مائدة الأغبياء ) ، توقف عن الكلام برهة ، ثم أسترسل ( وهذه الحشود التي تراها ) ، أجهش صوته بالبكاء ( إنهم الملائكة ، هذا ما يحزننا ، ويحز في أكبادنا ) ، تسمرت في مكاني أناشده ألا يتوقف عن الحديث ، سار قليلاً صوب الجنوب ، أقتفيت أثره كظله ، هز رأسه مستهجناً ما يحدث ، تابع سيره حتى بلغنا مشارف ساحة كبيرة ، وكأني بدأت أسمع أصواتاً أعرفها ، تخطب في الناس وكإنها ترغد وتزبد ، يالهول المفاجأة ، يا لجسامة الخطب ، هتلر وموسوليني وصدام وحافظ الأسد ، ( تصور إن هؤلاء الديكتاتوريين يخطبون في الملائكة في الحياة الآخرة ) ، أستبد بي غضب ليس بعده غضب ، وأستردت نطقي ، ( تصور إنهم يتكلمون عن مآثرهم ، عن جرائمهم ، ولا رادع يردعهم الآن ) ، وددت أن أصرخ ، أن أستغيث ، ( أدري يابني ما ينتابك ، إنهم سيحكمون هذه المنطقة ، وسيذبحوننا ، وسيقتلون كل من يجابههم ، أنظر إلى الملائكة كم يبدون متأثرين بتلفيقاتهم ، بأضاليلهم ، وتلك الأحزاب لن تكف عن النعيب والنعيق) ، ولم يكد يلفظ هذه الكلمات حتى سمعنا صوتاً ينادي ، ( أين أنت يا عزرائيل ) ، أستدار قليلاً صوب الصوت ( إنني هنا ) ثم ألتفت علي مطمئناً ( هذا هو ميكائيل ) ، كهل أشيب ، نحيل القامة ، بهيج الأسارير ، بادر إلى الحديث وهو على بعد خطوات عديدة من سيدنا عزرائيل ، ( أتيت كي أودعك ، لقد أستقال رب العالمين ) ، ( إلى أين أنت راحل يا صديقي ميكائيل) ، أستطرد ميكائيل دون أن يلحظ وجودي ( هل تمكث هنا عزرائيل كي يقبضوا عليك هؤلاء الظالمون ، إني هاجر إلى تلك الجزيرة وأهجر هذه الحياة الآخرة ) ، هز عزرائيل رأسه موافقاً ( سآتي معك يا ميكائيل ) ، ثم أمعن النظر في عيوني ( ألا تأتي معنا يا بني ) ، أدركت حينها عمق مرارة الحياة ، أغرورقت الدموع في عيني ، لم ينتظرا جوابي ، سارا صوب الشرق ، سرت خلفهما ، ولأول مرة رأيت الشمس ساطعة في الضحى ، أشعتها دافئة حزينة ، لم أعد أسمع شيئاً سوى كلمات متقطعة من حديث ( عزرائيل وميكائيل ) عليهما السلام ، بعد عدة أشهر من السير في الأدغال والأحراش وصلنا إلى مدخل الجزيرة ، حينها ألتفت سيدنا عزرائيل إلى خلفه ، وأستغرب ( هل مازلت تسير وراءنا ) ثم هز رأسه ( أحسنت يا بني ) ، على مدخل الجزيرة أبصرت ورقة دونت فيها أسباب أستقالة رب العالمين ( في هذا الصباح الباكر ، في صبيحة عيد الأضحى المبارك ، أود أن أهجر الدنيا والآخرة ، إذ ما عدت أحتمل تصرفات بني البشر ، من قتل وإغتيال ، من كذب ودجل ونفاق وخداع ، من بطش وظلم وأستبداد ، من إفتراء ومكيدة وتفاهة ، وأنا الذي جعلته خليفتي في الأرض وصورته في أجمل وأبهى هيئة ، وأنا الذي سخرت له الموجودات والكائنات ، لذا و يقيناً مني أن لا أمل في إصلاح هذا المخلوق العجيب الغريب الأطوار ، قررت أن أرقد بسلام ، أن أرتاح قليلاً من مشاكله ، وأن أتخلى عن مسؤوليتي إتجاهه ، وأن أتركه لمصيره الأسود ، وكأنه غريب عني ، وكأن ثمة خطأ ما في الطبيعة ...... ) ، أنتابني ذعر شديد ، ودون أن أدرك ، هرعت إلى حيث سيدناعزرائيل ( عليه السلام ) ، أندهش حينما رآني على هذه الصورة ، سيدي عزرائيل أرجوك أن تقبض روحي وتسلمها إلى باريها وفاطرها ، هز رأسه برفق وتأثر وشجن ( يابني ، لم أعد قابضاً للأرواح ) أجهش بالبكاء ، تابع سيره ، وتمتم بكلمات غابت عني معانيها ........








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جيده
عوني حدادين ( 2008 / 12 / 10 - 18:41 )
مقاله جميله

اخر الافلام

.. بايدن عن أدائه في المناظرة: كدت أغفو على المسرح بسبب السفر


.. فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية




.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال