الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإرهاب في مومباي: نهاية دولة العقد الاجتماعي!

مرزوق الحلبي

2008 / 12 / 10
الارهاب, الحرب والسلام


إحدى المدركات من أحداث 11 سبتمبر 2001 هي أن دولة الأمة، كما تطورت، لم تعد قادرة على ضمان الأمن الشخصي لمواطنيها أو القاطنين فيها، وأن الأمن صار من الخدمات أو الالتزامات التي لا تستطيع هذه الدولة ضمانها للجميع. بمعنى ما، هزت تلك الأحداث أسسا وفرضيات اعتُبرت ثابتة في مفهوم دولة الأمة الحديثة. وهو ما تفعله من جديد ظاهرة القرصنة البحرية في السواحل الصومالية والهجمة الإرهابية في ساحات مومباي الهندية. فالتفجيرات المذكورة التي عُرفت كأكبر خطر على حركة التنقل الحرّ والمفتوح للمواطنين في الدول وبينها، فإن القرصنة تشكّل خطرا عمليا على حركة البضائع وتنقلها. بينما تشكّب الهجمة المخططة على مومباي اعتداء خطيرا على سير الحياة العادية وانسيابها كما تقتضي حركة السوق المنظمة لهذه الحياة (وكذلك تفجيرات مدريد ولندن). وهذه الحرية في تنقّل الناس والبضائع وسير الحياة أحد ركائز سيرورة العولمة القائمة على تسريع نقل السلع والخدمات وخطوط الإنتاج والرساميل. وهذه الحريات بدورها تسرّع في دكّ الاقتصادات الوطنية واختراق جدران الحماية فيها وبالتالي إضعاف مركز القوة المتمثّل في الدولة لصالح كيانات أكبر في فضاءات السوق، افتراضية وواقعية، رمزية وفعلية، مثل المنتجين الكبار والشركات العابرة للأوطان والمؤسسات المالية الدولية وفي رأسها البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. وهي سيرورة يدعي علماء الاجتماع أنها في نهاية المطاف تقوّض منجزات دولة العقد الاجتماعي كما صاغها من قبل هوبس ولوك وروسو وكما طوّرها ميل ورولس وغيرهم من فلاسفة من شتى المذاهب والمناحي.

بل أن هبرماس وهو من آخر رموز مدرسة فرانكفورت يجزم أن الديمقراطية في خطر بسبب من تحولات العالم إلى اقتصاد السوق الكوني التي تفترض إطلاق حريات الانتاج والاستهلاك من خلال إلغاء الكثير من أنظمة الحماية والضبط لا سيما في مستوى الدول. ويذهب هبرماس إلى القول بأن الديمقراطية كنظام وفلسفة تطورت على أساس أنها ضرورة لدولة العقد الاجتماعي لا سيما الليبرالية منها. فهذا العقد المفترض يقوم على أساس من اتفاق الأفراد في الدولة على أن يتنازلوا للدولة عن جزء من حرياتهم بشرط أن تضمن لهم أمنهم وسلامتهم وأن تقضي بينهم من خلال استئثارها باستخدام القوة. إلا أن ما حدث في 11 سبتمبر وفي الصومال والآن في مومباي الهند (وقبلها في كثير من المواقع) يؤكّد أن الدولة لم تعد قادرة على صيانة العقد الاجتماعي بمعناه الأول وهو فرض النظام والأمن وحماية الشركاء لهذا العقد فيما يتصل بسلامتهم وأمنهم الشخصي. فكلما تحررت حركة تنقل الأشخاص في العالم وكلما تكثفت الاتصالات الشبكية والقائمة على أساس الأقمار الصناعية زادت الثغرات في جسم الدولة واتسعت مواضع اختراقها لجهة قوى السوق الوافدة ولجهة العمالة الوافدة ولجهة عبور الرساميل وأصحابها عبر أراضيها ومرافقها. وهؤلاء بطبيعة الحال معنيون بمصالحهم بينما لا يعنيهم العقد الاجتماعي في هذه الدولة في شيء خلا ما يتفق مع مصالحهم.

أي أن دولة العقد الاجتماعي باتت مخترقة تماما كلما اتسعت فيها مساحات الحريات وفي رأسها حرية العبور والتنقل والسكن والعمل والهجرة والمصالح. وهو محصّلة حاصل سيرورة إزالة الحواجز والجدران الواقية في كثير من حقول العلاقات بين الدول. وهذا الكم الهائل من الأفراد المتنقلين بين الدول والقارات غير قابل للضبط أو للمراقبة بالدرجة التي كانت قائمة من قبل. وهذا في الجانب التقني من تداعي منظومات الحماية. أما في الجانب السياسي فإن سيرورة


العولمة الكونية أذكت بشكل واضح نزعات محلوية عرقية وإقليمية ودينية. وبدا لأول وهلة أن الكون/ الدولة يتسع لحراك من هذا النوع ويستطيع احتواءه. أما توازي العولمة مع النزعات المحلوية رُصد كتطور طبيعي للتنافقضات في الظواهر الإنسانية الاجتماعية.

بما أن سيرورة العولمة هي شمولية في ظواهرها وأحكامها ونتائجها فإن مناهضتها تتخذ الشكل ذاته من الشمولية لا سيما الجغرافية منها. ويبدو أن العولمة ليست السيرورة الوحيدة التي تستأنف على فكرة الدولة القومية أو دولة العقد الاجتماعي التقليدية والليبرالية. فها هي السلفية الإسلامية بمختلف صورها العنفية تستأنف ليس على الدولة القومية وحدها بل على العولمة بأسرها. بل هناك في هذه الحركات مَن يضع نفسه نقيضا للدولة والعولمة في الوقت ذاته. وهو صدام مرشح للاحتدام في المرحلة المقبلة ليس بسبب من احتلالات أو التناقضات بين مراكز القوى المتحولة بل لأن السلفية المذكورة باتت تنتج حلما بسعة الكون حتى لا يبقى هذا الكون من ناحيتها في قبضة أمريكا/"الشيطان الأكبر" أو الغرب أو قوى السوق! صحيح أن هذا الفكر يلتقي مع قضايا ومشاريع حركات سلفية إقليمية ـ في كشمير مثلا أو في أفغانستان أو لبنان أو العراق ـ ويغذيها ويمدها بما تحتاج، لكنه قائم بحدّ ذاته من خلال "القاعدة" وعنفها. وهو عنف لا يُشبه ما ألفناه في النصف الأول من القرن الماضي لدى حركات التحرر القومي أو قوى الثورة العالمية أو حتى الثورة المضادة. فكل واحدة من هذه القوى أنتجت مشروعا واضح المعالم في حدود الوطن أو مقابل قوى خارجية محتلة أو مستعمرة، أما قوى السلفية الإسلامية فبدت كأنها تطور أيديولوجيا على مستوى الكون قوامها تقويض ما هو قائم والوقوف على طرف نقيض من العولمة وما تعنيه. وهي في هذا لا تفرّق بين جغرافية وأخرى. بل ستضرب حيث تستطيع أن تضرب كما حصل في مومباي التي يُمكن أن تكون كراتشي أو لندن أو أثينا أو استانبول أو بالي. بمعنى أنه ما دام الهدف هو تقويض ما هو قائم فإن كل ما هو قائم مرشح لأن يكون عنوانا للضربة المقبلة.

الخوف من إرهاب أعمى كهذا يعني، مع ضعف الدولة الحديثة وتداعي منظومات الحماية فيها، نهاية دولة العقد الاجتماعي كما ألفناها. فهذا العقد مهدد الآن من الخارج على شكل دائم ويومي على ثلاثة مستويات. الأول ـ على مستوى موقع الدولة ووظيفتها في المنظومة الكونية واضطرارها إلى التقلّيص في صلاحياتها ونفوذها أمام تسارع سيرورة العولمة . الثاني ـ في مستوى العلاقة بين الدولة والساكنين فيها والوافدين عليها بازدياد. والثالث ـ في مستوى نشوء عدو خارجي غير مرئي لا يتجسّد إلا في مشهد عنفي قد يحصد العشرات أو المئات كما حصل في 11 سبتمبر وفي بالي وفي مومباي، أو قد يهدد الانتاج العالمي أو حركة البضائع العالمية كما في سواحل الصومال أو كما هي الاعتداءات على خطوط النفط أو مصافيه في نيجيريا أو السعودية أو العراق! لقد تلاقت قطع بحرية عسكرية من عدة دول في البحر الأحمر لحماية خطوط الملاحة البحرية هناك من القرصنة. ويبدو أن هذا المشهد سيتكرر في مواقع عدة حماية للعولمة وأعمدتها الأساسية. لكن لم يعد هناك من يحمي دولة العقد الاجتماعي من وهنها وتداعيها الأمر الذي يفترض نشوء حركة فلسفية جديدة للتنظير لما بعد هذه الدولة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استعدادات إسرائيلية ومؤشرات على تصعيد محتمل مع حزب الله | #غ


.. سائق بن غفير يتجاوز إشارة حمراء ما تسبب بحادث أدى إلى إصابة




.. قراءة عسكرية.. المنطقة الوسطى من قطاع غزة تتعرض لأحزمة نارية


.. السيارات الكهربائية تفجر حربا جديدة بين الصين والغرب




.. طلاب أميركيون للعربية: نحن هنا لدعم فلسطين وغزة