الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


احداث من الزمن المنكوب

تقي الوزان

2008 / 12 / 13
سيرة ذاتية



لم اعد اتذكر متى تعرفت عليه بالضبط , الشئ المتأكد منه انه صديقي ويندر ان يمر يوم دون ان التقي به , يصغرني بثلاث سنوات وطوله يزيد على المئة والثمانين سنتمتراً ووزنه يزيد على المئة كيلوغرام , صدره عريض وهيكله اشبه بلاعب الحديد , ورغم ضخامته الا ان حركته خفيفة وانشط من مَن في ربع وزنه. سألني وهو متأكد باني لن اعود لموقع العمل : هو يعرف ظروفك وما اعتقد راح يخبر اخوه . اجبته : شوف نوري آني ما انتظر يطلع اعتقادك صح لو خطأ , ما ارجع مرّة ثانية للموقع , افتهمت ؟ لولا ؟! نوري : ما معقولة اطلّع عامل آخر بأجور يوم كامل على ساعتين شغل , باجر آني أكمل الحفر .

نوري خريج ثانوية الصناعة , ويعمل مقاول ثانوي في تأسيس الكهربائيات , ويميل لاخذ المقاولات البعيدة عن مراكز التجمع مراعات لرغبتي , اصبحت لااستطيع من تنظيم وضعي بدون العمل معه . كنت اعمل على حفر ساقية بعمق عشرة سنتمترات داخل مساحة كونكريتية يبلغ طولها الثلاثين متراً في مؤسسة حكومية مقابل المجمع العلمي العراقي في الوزيرية . الدريل الكهربائي الضخم يكاد ان يشق طبلة اذني بصوته , يهزني بشدة , ويثير الغبار كثيفاًعلي . ولكني تفاجأت برؤيته وهو على بعد مترين مني , اطفأت الدريل , صافحته , وبالكاد عرفني , ولو تريثت ثانية واحدة لما حدث هذا الاحتكاك . المقاول الاصلي راسم , جاء ليرى ما انجزه نوري من العمل . اكملت مع راسم المدرسة سوية لغاية الاعدادية , هو ذهب الى الهندسة , وانا الى اكاديمية الفنون الجميلة . لقد ابدى استعداده لمساعدتي وقلقه علي , الا اني طمأنته بأني سأخرج من العراق قريباً . كان معه اخيه الكبير , وهو ريفي بسيط , وقد لفت انتباهه حرارة اهتمام اخيه المقاول بعامل , كان عليه ان يعامله بتجاهل لاان ينفرد بالحديث معه . شبه عليّ , حاول معرفتي , لم اعطه اي مجال ينفذ من خلاله , وهو سبب تخوفي وتركي العمل مباشرة بعد تحية راسم الحارة وذهابهم . ورغم حرارة تحية راسم , الاانه رحمه الله - توفى بعد سنوات – لم يعط نوري بعد ذلك اي عمل .

منذ قيام الجبهة الوطنية عام 1973 كنا نلتقي بشكل مستمر في مكتب الاخوين شاكر وشكر للمقاولات الكهربائية , وهو المكان الذي التقيت فيه بنوري . كان المكتب في عكَد النصارى المحاذي لسوق الشورجة في المسافة المحصورة بين شارع الرشيد وشارع الجمهورية , وهو سوق اصبح متخصص بالمواد الكهربائية . كان من رواد المكتب المرحوم ابو زمان ( عبد الصاحب الحميري ) مرشح اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي , ومدير مكتب المرحوم ايضاًالوزير الشيوعي عامر عبدالله . الا ان وظيفة مدير مكتب وزير لم تشفع له عند بدء الحملة على الشيوعيين عام 1979 , وسيق من مكتب الوزيرالى الامن العامة ليواجه مختلف صنوف التعذيب وهو في الستين من عمره . بعد اطلاق سراحه كلفت بالالتقاء به . وفي اللقاء الذي لم يتجاوز العشرة دقائق عرفت ما تركه التعذيب من آثار دموية في جسده , واخبرني بتمكنه من معرفة الكادر المتعاون مع الامن في المنطقة الوسطى , وطلب ان اوصل المعلومة في نفس اليوم لخطورة الموقف .

العراقيون يعرفون جيداً الاساليب المتنوعة التي استخدمها جلاوزة البعث للايقاع بأي انسان شريف ومستقيم, واخسها ارسال الفتيات الجميلات اللواتي بعمر الورود , والمدربات على الاغواء بشكل جيد , لغزل شرنقة الايقاع بمن يراد لهم السقوط في الحضن الفاشي للبعث . اثنان من كوادر المنطقة الوسطى سقطا في الفخ , العازب تمكن من الهرب , والمتزوج القي القبض عليه . ولا يعرف لحد الآن هل بسبب تهديده بالفضيحة , ام خوفه من التعذيب , او احساسه بانغلاق الدائرة عليه , ام كلها مجتمعة اجبرته على التعاون معهم وحاله حال بعض الانهيارات الاخرى .

سيق نوري الى خدمة الاحتياط في السنة الثانية للحرب مع ايران , وفي معسكر الرشيد تم قبوله كسائق في وحدة اسعافات جديدة شكلت من السيارات القديمة الخاصة بالحرس الجمهوري بعد استبدالها بسيارات احدث . كانت وحدته في الانذار , والاعصاب متوترة , عليهم الذهاب الى مناطق الهجوم لجلب المصابين , وفي اغلب الاحيان وسط سقوط القنابل وغارات الطائرات , قتل بعض السائقين وهم خلف مقود اسعافاتهم , والهجوم المتوقع هذه المرّة من الشوش ايضاً , والتي اخذ العراقيون يتطيرون من اسمها نتيجة الخسائر الفادحة في الهجوم الاخير . كان حريصاً على سلامة سيارته , وفي وقت الاستراحة تمدد تحتها لفحص بعض اجزائها وادامتها . شعر بحذاء يضرب اسفل ساقه , استدار برقبته , ومن لون الحذاء ولمعته عرفه ضابط , رفسة اخرى وسمع صوته : لك قندرة ماداتحس ؟! سحب نفسه من تحت الاسعاف , ووقف بالاستعداد بعد اخذ التحية لآمر فصيله الشاب الذي تجاوز العشرين بسنة اوسنتين فقط : نعم سيدي . اريد اروح للأعظمية , قالها الضابط بلهجة آمرة وهو ينظر باشمئزاز الى الحصيرة القذرة التي كان يتمدد عليها نوري . سيدي ما اكَدر , السيارة لازم اتكون جاهزة , ما تشوفني اشتغل بيها ؟ موجودة سيارات هواية واخذ واحد غيري . اشتد غضب الضابط ودفع كتف نوري بالعصا التي يحملها : مطي تعلمني ألمن آخذ ؟! فقد نوري اعصابه وسحب الضابط من العصا وفاجئه بلكمة جبارة وسط وجهه اسقطته ارضاً , وهرب نوري بالاسعاف .

بعد اسبوعين من هذه الحادثة , جاء معاون مدير الامور الطبية في وزارة الدفاع الى كراج الحاج محمد في مدينة الشعلة لتصليح سيارته . وتعوّد ان يمضي بعض الوقت – خاصة اذ كان وقت التصليح قصير – مع الحاج محمد في تذكر بعض الاحداث حيث كانت تربطهم صداقة قديمة . بعد ان استقر المعاون في احد الكراسي, اخبره الحاج محمد بأنه حاول الاتصال به عدة مرات ولم يتمكن , وشرح له حادثة ابن اخته نوري مع آمر فصيله , ورجاه ان ينقذ ابن اخته من الاعدام بسبب الهروب الذي تجاوز الثلاثة ايام , وضربه الآمر , واخذ الاسعاف . تعجب المعاون من ان يكون الذي يبحثون عنه ابن اخت الحجي , فسأل عنه وعن الاسعاف . اخذه الحجي الى احدى فتحات الكراج وأراه الاسعاف بعد ان أزاح بعض الحاجيات والواح خشب المعاكس التي تحجبها , وصاح على نوري الذي بدء بتصليح سيارة المعاون . ولشدة اعجاب المعاون بجرءة نوري وضخامته , اتخذ منه مرافقاً شخصياً , بعد ان ساوى القضية مع الضابط الشاب الذي انكسر له سنان والغى امر القاء القبض على نوري واوليات الدعوى كلها .

وضعية نوري الجديدة فتحت امكانية كبيرة لامدادي بنماذج الاجازات الدورية للعسكريين , والتي اخذت تطبع كل شهر بلون جديد مما زاد في صعوبة الحصول عليها , ووصل سعرها الى الثلاثين ديناراً يوم كان الدينار اكثر من ثلاثة دولارات . في البداية خلق البعث وضعية اجبرت البعض ان يتهربوا منا , ومن ثم بات اكثرهم يهربون خوفاً من ان يتهموا بتعاونهم مع الشيوعيين , واصبحنا الموضوع الوحيد الذي يدور حوله الحدث , وفي الانتقام الدموي للسلطة لكل من يتعاون معنا . فكيف يمكن استيعاب ان الناس باتوا مشغولين بالحرب ومآسيها ويكاد ان ينسونا بالكامل وبهذه الفترة القصيرة , كيف يمكن ان تنقل هذه الصورة الى اناس ضحوا بكل شئ وتحملوا قسوة حياة الانصار وهم يعتقدون انهم لايزالوا في قلب وضمير هذا الشعب المنكوب , بل يعتقد الكثير منهم انهم نتيجة مآسي الحرب اصبحوا اكثر اهمية . كنت اسائل نفسي : اليس من القسوة ان اواجههم بهذه الحقيقة المرّة عندما اعود اليهم , وكم من مزايد سيتهمني باني احاول ان احبط المعنويات , هذه هي المشكلة التي لن يدركوها بسهولة .

رؤية الموت اهون عليّ الف مرّة من ان ارى ما فعله البعث من دمار وهو يسألني : ما الذي يمنعه من ان يسجل بعثياً , وماذا يضرك انت ؟! ارتبكت , واحاول اختيار الكلمات التي لاتثير عنده اية ضغينة , ورغم معرفته بكرهي للبعث الا انني يجب ان اكون محايداً في كلامي . لم يكن اكثر من صديق للحزب , ورغم اعتبار ان ابرز مقياس لنجاح الرفيق في العمل الحزبي هوكسب الآخرين للتنظيم الا انني لم افكر بضمه للتنظيم طيلة سنوات علاقتي به . كانت لهجته قاطعة , واضاف : لازم اسجل والا ما استمر مرافق لمعاون الامور الطبية . لم اتمكن من ان انطق اية كلمة بهذا الاتجاه , فقد كنت مرتبكاً بمنطقية ما يقوله . سألني بالحاح : شنو المانع ؟ ولما لم اجبه اضاف : اخاف تعتقد آني هم راح اتلوث ؟ لانوري , اجبته بشكل قاطع , ثقتي بيك اكبر من اي شئ , واضفت بتعثر : أني ما اكَدر اكَلك .. قاطعني : اعرف , واريد منك ان تعرف هذي ماتشكل اي قيمة عندي, كلما هناك واحد يستفيد .

لااحد يستطيع في تلك الظروف ان يتوقع ما يكون عليه وضع كل واحد منا , ورغم خوفنا الا اننا نحاول ان نكون اكثر قوة واهمية مما هو عليه واقعنا المطوق . واخس ما فعله البعث هو النسف الكامل لكل ما يتعلق بالشخص الذي لايتعاون معهم , او يتعهد بعدم التعاون مع اي حزب آخر , ولاتوجد كوابح للعربة الجهنمية التي يقودونها . كنت عائداً لتوي من كردستان عندما اخبرني نوري بأن "مكتب الاخوان " تم كبسه نتيجة وشاية حارس البناية وابنه اللذين كانا وكيلي امن . وقد يكون نوري على خطأ , لأن المكتب استمر اكثر من المتوقع ملتقى لبعض الرفاق , او ربما الامن اطلق هذا الاتهام على الحارس وابنه للتمويه والتغطية على المتعاونين معهم . القي القبض على الرفيق صباح جمعة وكان عامل اللاينو في مطبعة الرواد التي تصدر مطبوعات الحزب الشيوعي , وعمل في ادارة المكتب بعد ان ذهب شاكر الى خدمة الاحتياط , واخيه شكر كان قد ترك العراق في الهجمة على الحزب عام 1979 . وكان مع صباح الممثل المسرحي الرفيق دريد ابراهيم الذي كان يعمل معنا عند نوري . بعدها عرفنا بتصفية الشهيدين صباح ودريد , والقاء القبض على شاكر ومصادرة امواله المنقولة وغير المنقولة وسجنه سبع سنوات .

بعد ثلاثة عشر عاماً كنت جالساً مع اصدقائي في احدى نوادي دمشق . بعد تفرقنا , وفي طريقنا الى البيت الذي نسكنه مع مجموعة رفاق اخبرني الرفيق ابو حيدر احد مسؤولي المنطقة الوسطى للحزب: ان صديقنا هو الذي حذرنا منه المرحوم ابو زمان , وحاول اكثر من مرّة الايقاع بابو حيدر قبل تحذير ابو زمان , وبطريقة غبية تدلل على حماقة من ارسلوه رغم امتلاكهم كل هذه الخبرة الامنية . فقد اوصل لابو حيدر رسالة ( مركزية) تؤكد عليه الالتقاء ب(الرفاق) البعثيين في المحافظة لمناقشة عودة العمل الجبهوي هناك . الرفيق ابو حيدرالوحيد الذي سلم من محلية واسط والمسؤول عن ترتيب شؤون المختفين وجد في هذه الرسالة بالذات ما يضع علامة الاستفهام عليه . كان رد فعلي مشحوناً بالمرارة , واخبرته : بأني لو عرفت هذا لما لبيت دعوته وجلست معه . اجابني ابو حير: ارجو ان لايكون رد فعلك حاقداً , او الانتقام من حالة الضعف التي مر بها , فليس كل ضعف خيانة , الفرق بين الاثنين كبير , وعندما يكون الاضرار هدفاً وبأصرار تلك هي الخيانة .
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زاخاروفا: على أوكرانيا أن تتعهد بأن تظل دولة محايدة


.. إيهاب جبارين: التصعيد الإسرائيلي على جبهة الضفة الغربية قد ي




.. ناشط كويتي يوثق خطر حياة الغزييين أمام تراكم القمامة والصرف


.. طلاب في جامعة بيرنستون في أمريكا يبدأون إضرابا عن الطعام تضا




.. إسرائيل تهدم منزلاً محاصراً في بلدة دير الغصون