الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الراعي

محمد البوزيدي

2008 / 12 / 15
الادب والفن



يكتسح الظلام البعيد ، فيعيد تشكيل وتفكيك الزمان والمكان الخاص به في احتفالية استثنائية ، حينها تبدو الأشجار وارفة الأغصان ، تحيي الواقف أمامها ، وتسترجع حيويتها بعد يوم مليء بحرارة عجيبة وغريبة.
ينسل عبد الله بين الطرقات المحفورة من أثر حركات الدواب ، مرتديا قبعته المشهورة بلونها الأحمر والتي تبدو من بعيد .
حينها يصيح الأطفال :اهربوا...... عبد الله قادم ، الراعي اقترب ، وما إن يسمع الإسم والصفة حتى يطلق الصغار سيقانهم للريح ، فعبد الله حارس أمين على الممتلكات في فترة الليل، إنه يستيقظ حين ينام الآخرون ليحرس ثرواتهم التي لم يستطيع تكوينها رغم أحلامه الذين تجاوزت الأربعين ربيعا.
يحمل مصباحه اليدوي المشهور، ورفيقه المفضل جهاز الراديو الذي علاه الصدأ والذي كان قد عثر عليه منذ سنوات في الطريق إلى المدينة القريبة من القرية، ناهيك عن سلاحه الخاص الرهيب والذي لا يستعمله إلا لمواجهة الأفاعي والذئاب التي يصادفها في الحقول بالليل والتي تبحث عن طعامها حين ينام الناس ، ولإخفائه يعمد إلى غرسه في جانب سرواله في غمد خاص به صنعه بمهارة خاصة.
تبدأ جولة عبد الله حين يتناول عشاءه بعد مغيب الشمس بقليل ، حينها ينسكب بهدوء متأملا أحزان وسكون الليل ، مارا قرب السواقي الفارغة من خرير المياه ، ووسط الأشجار والمزروعات المختلفة،
يشتهر عبد الله بحشرجته القوية التي تسبقه والتي تنبئ عن وصوله إلى مكان ما ، إنها تنبعث بفعل أثر التدخين المتواصل لأكثر من عشرين سنة والتي تفضح مكان تواجده ، حينها ينتبه زوار الليل الذين يهبون لجني ثمار ليست لهم ، فينسلون هاربين أو مختفين وسط سنابل القمح التي بدأت في الارتفاع أو على أغصان الأشجار العالية.
لكن بالمقابل فعبد الله بحشرجاته المختلفة يتميز بحاسة سمع استثنائية تلتقط كل حركة أو ماشابهها من بعيد ، حينها يضبط عبد الله بخبرته الطويلة وسط ردهات الحقول مكان تواجد السارق / الفريسة ، يستعد جيدا ، يقطع تنفسه لأمتار عديدة ويأخذ قنبا زرقاء يحملها معه منذ سنين ، يقترب رويدا رويدا فلا يشعر الهدف إلا وعبد الله يطوقه، يحاول تقييده بها مستعينا بقلدته وجثته الضخمة والتي تشل أي محاولة للتفكير في الهروب ، فيضبطه ويطلق حشرجاته ليستعيد تنفسه المتوقف قبل دقائق ، ومن بعيد تسمع الزفرات، فيهب الفضلاء الذين يعانقون الليل في جلسات صاخبة وسط الطبيعة، إذ يدركون أن معركة حدثت وانتصر فيها عبد الله ، فيتدخلون لفك الحصار عن الضحية بعد اكتشافه، حينها يقبلون رأسه ويحاولون التوسط لديه ولو بعلبة سجائر رخيصة الثمن.
يحاول عبد الله تملك انضباطه والحفاظ على جديته، لكن حين يقدمون له علبة السجائر يفقد توازنه الخاص وتبدو أسنانه الصفراء كمقدمه لقبوله الصفقة لكن حتى الصباح فقط صائحا في الفريسة :
اذهب فأنت معروف وهؤلاء شهود عليك .
يبحث عن المصباح ليتبين وجه الضحية وينصرف.
يواصل عبد الله طريقه منتشيا بالمهمة التي أنجزها والتي سيتقاضى عنها صباحا أجرا خاصا من صاحب الحقل الذي اشتكى إليه مرات من سرقة الرمان...
بعد ساعتين مازال عبد الله يواصل الطريق فرحا ، يتجول ليلا مكتسحا المكان كأنه ملك في غابته الخاصة ، يقف أمام أحد المنازل المهجورة ، يجلس ليستريح....تمضي لحظات قبل أن يبدأ سماع شخيره..تبدأ حركات أخرى في التحرك، ينتبه بسرعة، فهو الذي يبقى يقظا ولو كان نائما، إنها أرانب ألفت زيارة المكان.... يستيقظ فجأة نادما على عدم أخذ آلة خاصة يصطاد بها الأرانب والتي تصبح مرشحة لتكون وجبته المفضلة في اليوم الموالي.
عبد الله إنسان ليل بامتياز، ينام طول النهار، ألف الوحدة وعشقها، ككرة مغلقة بإحكام عجيب . مفتوح كشارع عام وسط مدينة كبيرة ، وحيد كعش نسر في أعالي جبل بعيد، غامض لدرجة مقرفة لا يعرف عنه أهل القصر شيئا إلا أنه راعي، يظهر ليلا فقط ونهارا لأخذ أجرته من الثمار والخضر التي يستعين بها على آلام الحياة المختلفة التي يبدو أنها لا تؤثر فيه من قريب ولا من بعيد .
لا يغادر القرية إلا لماما حتى أصبح من مكوناتها الليلية حتى حفلات النهار يقاطعها ، يطلق لحيته وفقا لفلسفة خاصة في الحياة.
حاول أحد الأساتذة وصف حالته، ففكر جليا وصرح أنه حل في الحلول مع جني ، وحين سأله مع صلاة الفجر حول التفسير المفترض، كان جواب عبد الله مدويا في دماغ المفكر : كأنك لم تغادر القرية ولا رأيت المدينة، أنا الذي حللت في الجني، يالك من مفكر متخلف أين يوجد الجني ...؟؟ هل تؤمن به ..؟؟؟
واختفى ....تاركا الغموض يلف كينونة المثقف الذي كان يقوم ببحث ميداني في علم الاجتماع، فاغرا فاه من مصطلح التخلف الذي صدر عن عبد الله .....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أول ظهور لفنان العرب محمد عبده بعد إعلان إصابته بالسرطان


.. «جمع ماشية ورحيم ومرادف البؤس».. أسئلة أثارت جدلًا في امتحان




.. تششيع جنازة والدة الفنان كريم عبد العزيز


.. تشييع جثمان والدة الفنان كريم عبد العزيز.. وتعديل موعد العزا




.. ما اقدرش اتخيل البيت من غير أمى.. كلمات حزينة من الفنان كريم