الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أين ندفن جثمان الشهيد كامل عصام الداغستاني ؟

محمد حسين الداغستاني
صحفي وشاعر وناقد

2008 / 12 / 16
حقوق الانسان


كثيرة هي الوقائع المأساوية التي تفتح ألف كوة للأحزان في الأفئدة الملتاعة ، بعضها مجرد قصص وحكايات وإبداعات أدبية لشعراء وكتاب يتبارون في إحداث أقصى درجات التأثير في نفوس المتلقين من القراء ، وبعضها الآخر أحداث حقيقية وحقائق مرّة تغلف القلب بالألم والشجن وتتشظى بين الناس دون رتوش .
هذه حادثة حقيقية ، هي والمئات مثلها ، نتاج الوضع الأمني المتردي الذي يعيشه الناس في بلادي ، بعد الإحتلال البغيض عام 2003 ، وهي قصة والد مفجوع إحتار كثيراً أين يدفن جثمان إبنه البكر الشهيد بعد أن توزعت أسرته بين عدد من المحافظات العراقية وبين بلد الملجأ سوريا .
عصام الداغستاني ، مدرسٌ كان يعيش آمناً ومستقراً مع عائلته بين أبناء عمومته من الداغستان والشيشان في قرية الشيشان ( الحميدية) قرب مركز قضاء المقدادية في محافظة ديالى، تعرضت القرية النموذجية ببساتينها وأبنيتها الحديثة الى غزو همجي أهوج من قبل الميليشيات الطائفية والعصابات المسلحة التي حولت العراق الى جحيم حقيقي ، وذلك ليلة 17,18/أيلول /2008 ، إستطاع عصام بإعجوبة من الأفلات هو وأسرته أسوة بأقربائه الشيشان والداغستان من بين أزيز الرصاص والدخان والنار وبراثن الموت المحقق وإنسّل الى مركز قضاء المقدادية القريب ومن هناك بدأت رحلة التشتت المريعة الى حيث المجهول ، كما فعلها اجداده من قبل بعد أن ألقوا بأنفسهم الى العراء تحت رحمة البرد والثلج والأمواج الطاحنة تاركين من خلفهم القفقاس ، وها جاءه الدور فأين يتوجه ؟
قرر أن يغادر البلاد كلها حيث بعض اقربائه في سوريا الشقيقة التي إحتضنت أحزان الآلاف من العوائل العراقية المشردة والهاربة من لهيب الموت .. في شقة صغيرة بمدينة حمص إستقر قليلاً ليلتقط الأنفاس ! لكن القلق على من تبقى من العائلة كان ينهش عقله ، فنجله البكر عصام لا يزال بمحافظة كركوك حيث يعمل في هندسة الإتصالات بشركة نفط الشمال ، وإبنته المتزوجة إختارت مع زوجها السكن في محافظة الموصل ، وكان عليه أن يعود لوحده لينظم شؤون وظيفته وينتقل الى إحدى المحافظات بعد أن عز العيش في القرية العتيدة .
عاد عصام بعد فترة إلى ديالى حيث وظيفته ، ولأنه مهددٌ في حياته قرر أن ينتقل الى الموصل حيث إبنته المتزوجة ، راجع مديرية التربية بصدد تنسيبه لإحدى المدارس بعد أن أنجز معاملة النقل ، قيل له : عد إلينا بعد عطلة العيد لكي نختار لك مدرسة . فنوى أن يسافر الى سوريا ليقضي العيد مع أسرته لكن إجراءات الحدود حالت دونه فعاد الى الموصل في ضيافة إبنته وتعذر على كامل أن يلتحق هو الآخر بوالده لكونه كان مناوبا في العمل فطلب من والده أن يأتي الى كركوك الخميس (ثالث يوم عيد الأضحى) لكي يزورا معاً اقاربهما في قرية الشيشان (جارشلو) في قضاء الحويجة ، ثم هاتف والده ثانية وطلب منه أن يؤجل مجيئه الى يوم الجمعة لأن عدداً من أصدقائه المهندسين العزاب في القسم الذي يعمل فيه ، وهم من مناطق شتى ، إتفقوا على تناول وجبة غداء معاً في مطعم سياحي يقع على حافة مدينة كركوك الشمالية إحتفاءً بالعيد .
ظهر يوم الخميس 11/ 12/ 2008 كان القدر يرصد حركة العوائل والأشخاص الذين تملصوا من اجواء كركوك الكئيبة وإختاروا أحد المطاعم السياحية ليقضوا بعض الوقت خارج حدود المدينة حيث المنطقة آمنة ، ثم حصل الإنفجار الكبير في المطعم وتطايرت الأجساد والأيدي والرؤوس المقطوعة للأطفال والنساء وكل القريبين من المكان ، قيل أنه ربما تكون إنتحارية تحمل معها حزاماً ناسفاً ، وقيل وقيل ، لكن المهم كان جسد كامل عصام الداغستاني مع أربعة من زملائه المهندسين قد تمزقت وإمتزجت دمائهم مع أكثر من دماء واجساد ستين شهيدا وشهيدة عراقية .
وصل الوالد المكلوم الى كركوك بعد أن تلقى النبأ الصدمة ، كان أحد الأقرباء قد وجد الجثمان في براد الطب العدلي لإحدى المستشفيات الرئيسية ، وكان اللقاء المأساوي بين الوالد وولده .بكى عصام كثيراً ، هاهو إبنه يرقد أمامه مضرجاً بدمه بعد أن تقوضت كل الآمال الوردية التي كان يرسمها لزواجه ومستقبله .. ها هو ممددا دون حراك ، غريباً لا مأوى ولا دار ولا عائلة !
كانت الوالدة المرعوبة تصر على معرفة مصير ولدها ، ثم حان الوقت لكي تعرف الحقيقة المرّة ، وتحامل الوالد على نفسه وبدأ الحديث المعجون بالنشيج الصامت المكبوت : قولي لي بالله عليك أين أدفن عصام ، فلا مقبرة لنا في ديارنا المكبولة بالقيود والحراب ، ولا مكان ، أأذهب به الى ديالى حيث لا أحد يعزينا فيه ، أم أذهب به الى الموصل الذي ليس فيه سوى شقيقة هي الثانية غريبة عن الديار ، أم .. أم ؟
تناخت العشيرة في قرية الشيشان الثانية في الحويجة (جارشلو) وقرروا أن يدفنوا كامل في مقبرة القرية ، وبين نحيب الرجال والنساء معاً ، الذين عرفوه أو الذين لم يعرفوه ، أودعوا جثمان الشهيد في قبره الذي منحه الإستقرار الأبدي بعد أن ضاقت به وباسرته المشتتة الأرض ، وبعد أن عانى من التشتت والقلق والتهجير القسري الظالم .
من إنتزع من كامل عصام الداغستاني حقه في أن يدفن في مقبرة الأهل الى جانب أجداده وأعمامه ..؟
من هجّر أهله وأقربائه من الشيشان والداغستان من قريتهم وحرق دورهم وسلبهم ممتلكاتهم وتذكاراتهم ؟
من قتل كامل في مدن الغربة والتهجير ؟
من يزرع المآسي والأحزان في ديار العراقيين يومياً ؟
من يصّر على غرس السكين عميقاً في القلب العراقي ليوسع من مساحة الجرح ويزيد من كثافة شلال النجيع ؟
من .. ؟
من ..؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آلاف الإسرائيليين يتظاهرون للمطالبة بقبول مقترح -خارطة الطري


.. آلاف المجريين يتظاهرون في بودابست دعما لرئيس الوزراء أوربان




.. إسرائيل وافقت على قبول 33 محتجزا حيا أو ميتا في المرحلة الأو


.. مظاهرات لعدة أيام ضد المهاجرين الجزائريين في جزر مايوركا الإ




.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يتظاهرون في باريس بفرنسا