الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السومرية والفرعوني

صالح جبار

2008 / 12 / 16
الادب والفن




في سجال ألأيام , مضغت ذكرياتي الهشة , بعيدا في أقاصي الجنوب , تغمرني الملابس العسكرية بعنوة . وتمطي صهوة رأسي , خوذة حديدية ثقلها يدق عنقي , لكن لامناص من ذلك .

في السواتر الترابية , تنام أحلى سنيني , تلوك أوحال الشتاء , وغبار الصيف القائظ , لايوحي سوى بالرتابة , والخوف المستمر . والضابط الذي همه إصدار الأوامر العسكرية المملة , ببدلته (المرقطة ) .. يشعرني بالسقم يسري في بدني المترع بالأحلام الممتدة دون نهايات هل غفوت في رقدة أبدية .. توقا للهروب من جحيم الواقع المر ؟

حاصرتني زوابع الذهول , متى تنتهي المأساة ؟! ليس سوى صفير الريح يمضي , بين الملاجىء المتناثرة , أستشعر سخونة اللهب يلفح طيات ملابسي المتسخة , والخوذة المتسمرة فوق أصداغي , الموجوعة من خطوط المنتشرة , كخرائط على جسدي النحيل ...


لازالت ملامح ألمرآة (السومرية ) تحصد مخيلتي , وومض عينيها , مزروع في قلبي يأبى الرحيل , رغم بؤس المكان ..

تحسست البندقية , بحرارتها اللاذعة , أشعلت وجيب الخوف ألمتأصل , تحت أضلاعي , ورغم عدم التماسك , فقد كنت أذوي مثل شمعة يأكل جوفها اللهب ..
أخبرني (العريف ) بواجب المضي للساتر الأول .. ( هناك سألقي حتفي , ولايعد لي أي مبرر للحلم . سأكتشف , مثابة أخرى , تنقلني لعالم جديد)

أخذتني التداعيات , لصور حزينة . جعلت الدمع المتحجر في عيني , ينهمر بصمت , والوجوم ينحت أنينه ..

عند المساء , تحركت الجحافل , نحو الهدف , أتقدت ألأفاق بنيران , وحمم متواصلة , فقد أزفت ألآزفة , أخذت السريا تتقدم الواحدة تلو أخرى

سكت الضابط, أمتقع لونه, وعينيه الزائغتين , تدوران في محجريهما تعكس أضطرابا يفضح التلاشي المحيط بنا ..

الخوذة الحديدية ممسكة برأسي الثقيل , من الوسواس , والاجتراءت المضنية .

صمتت أرادتنا , تحركت شظايا القنابل , بهلع يزرع الجنون .. دوي
ألانفجارات , سيد الموقف , أنه تعبير همجي , عن ألإنسانية المستباحة في هذا الظلام المتقطع , من نيران المدافع .

لم أعد أكره الضابط فقد كنا غرباء , في محنة لاخيار لنا فيها , تمنيت لو أنه تخلى عن بدلته (المرقطة ) ..!

كانت المرأة (السومرية ) تنتظرني في الأجازات , عند أقصى الشارع البعيد للطرف ألاخرمن المدينة .
وحتى أصل أليها , يجب أن أعبر الجسر , العتيد الرابض فوق النهر الممتد , وسط ألاحياء الفقيرة , يشدها بقوة , كمن يخاف عليها من التقسيم ..

أتطلع لقامتهاالفارعة , وحينما نلتقي يعتريني الفرح المشبوب , أبدو مثل طفل , لا يأبه للنظرات المزدرية ..
يكفي رؤية شهقة , النخل تتزاحم وسط عينيها لأ أدرك عالم يفصح عن
البراءة والتوق للحنان ..

هز المكان صوت قنبلة , انفجرت قربنا , رائحة البارود , تشبه رائحة العتمة
تقود لدهليز التناثر بين آلاف المجرات , تنام مع سدم بلا بصيص أمل ..
تمقتني الحياة , أود لحظة سلام , تعيدني لمنبع الصفو , لعلي أحظى بلقاء برعم أمتنان الهدوء الذي يعيد الطمأنينة...


يتبرم الضابط , ويصدر أصواتا مكتومة , لشتائم ليس لها صلة , بالأوامر العسكرية , التي أدمن عليها ..

ضحكت في سري , بدا لي لأول مرة مألوفا , وهو بهذه الحال , كالمغني الخجول يفسد ألحانه من فرط المعاناة , بحثا عن شيء يخفي ارتباكه..
بقي صعق ألانفلاقات , يطيح بالسكينة , ويمتص أمل البقاء أحياء ..

أختبئت في الشق المحفور , بعناية للجهة المقابلة ..
لم أعد أسمع صوت الضابط , الذي أنتابته نوبة التبرم والامتعاض الشديد كان لايزال واقفا , رغم صفير الانفجارات .. لم يحاول ألاختباء خلف السواتر , المتناثرة في الفضاء الموحش ..
عند أخرموعد للاجازة الدورية , أخبرتني (سومريتي ) ,عن شخص تقدم لخطبتها , وليس أمامها سوى , الموافقة عليه ..

أنه (فرعوني) سيبقى معها , ولن يذهب لجبهات القتال . ضحكت طويلا ,
وأبديت عدم الاكتراث , أرادت أن تخبرني المزيد , تركتها ومضيت . لأن
ألأمر ما عاد يهمني ..

فكرت , لابد أنها تعيش , في أحضان الوهم , تتمرى فوق خاصرة الآمال الزائفة ..

انتشرت ريح الموت في الأرجاء , وأنقطع صراخ الضابط , رفعت رأسي ,
المؤطر بالخوذة الحديدية , لمحته ممدا أسفل الساتر القريب , وقد ذبحته
شظية , بعد حز رقبته ...
هرعت أليه , كان يشخب دما , وعيناه جاحظتان , بشكل مخيف .. حاولت
سحبه الى الشق الترابي , لكن صفعة قوية , لطمتني , رمتني بعيدا عنه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة