الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المواطن الأول

صبحي حديدي

2004 / 3 / 9
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


الصورة الفوتوغرافية نادرة فريدة من نوعها، لأنها ببساطة تلتقط حدثاً نادراً فريداً من نوعه، لا يتكرر كثيراً في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، بل لعلّ الواقعة لم تحدث إلا مرّة واحدة على هذا النحو من الرقيّ والصفاء و... الجمال أيضاً. الصورة تعود إلى عام 1955، وتحديداً يوم 6 أيلول (سبتمبر)، وثمة رجلان يتبادلان التوقيع على وثيقة من نسختين: الأوّل هو المرحوم هاشم الأتاسي (1875 ـ 1960) رئيس الجمهورية آنذاك، والثاني هو المرحوم شكري القوتلي (1891 ـ 1967) رئيس الجمهورية المنتخب، وأمّا الورقة التي تبادلا التوقيع عليها فهي وثيقة انتقال السلطات الدستورية!
هذه الممارسة، الديمقراطية والحضارية والراقية، تبدو اليوم غريبة على أبصار وأسماع العرب في مشارق أرضهم ومغاربها، وافتقدتها ـ إذ لم يحدث أنها تكرّرت مراراً في حياة ـ الأجيال العربية بعد ذلك التاريخ، حين استولى أصحاب العروش والتيجان والقبعات العسكرية على مقاليد الأمور، وتراجعت السياسة إلى الباحة الخلفية، أو قبعت في الزنازين، أو تلقفتها المنافي هنا وهناك.
والصورة بديعة جميلة بسبب المحتوى العظيم لتلك الوثيقة الفريدة، التي تقول التالي في بعض سطورها: "في هذا اليوم (...) جرى في ندوة مجلس النواب انتقال السلطات التي خوّلها الدستور لحضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السيد هاشم الأتاسي إلى حضرة صاحب الفخامة السيد شكري القوتلي الذي انتخبه مجلس النوّاب رئيساً للجمهورية (...)، وقد شهد ذلك صاحب الدولة الدكتور ناظم القدسي رئيس مجلس النواب والأستاذ صبري العسلي رئيس مجلس الوزراء والسيد وجيه الأسطواني رئيس المحكمة العليا...". وبالطبع، لا يفوتكم ملاحظة ترتيب السلطات الثلاث الشاهدة على التوقيع: السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، والسلطة القضائية!
لا أحد من أبناء جيلنا نحن، وقد عبرنا سنّ الخمسين، يذكر أنه أبصر انتقالاً سلمياً للسلطات بين رئيس انتهت ولايته وآخر انتُخب لتوّه. في المقابل شهدنا الكثير من الانقلابات، والانقلابات على الانقلابيين، وتحويل السياسة إلى مسخرة عن طريق تحويل المواطن إلى واحد من اثنين: سواد أعظم يلهث خلف الرزق اليومي مثل حيوان دون أن يفلح في بلوغ كرامة العيش، وفئة قليلة من الطغاة واللصوص وقوّادي السلطة والفاسدين المفسدين. وفي بلدي سورية، مثلاً، ثمة جيل كامل يبلغ اليوم سنّ الرابعة والثلاثين، لم يعرف سوى رئيس واحد هو حافظ الأسد طيلة ثلاثين سنة، وحين وافته المنية حلّ نجله خليفة بعده!
ولم يكن أقلّ سوءاً ذلك "التوجيه السياسي"، الاسم الحرفي للكتاب المدرسي المقرّر على الطلاب، والذي يشتم تلك الديمقراطية بدعوى أنها "برجوازية" أو "رجعية" أو "إقطاعية"، ليست بسموّ وعظمة ورقيّ "الديمقراطية الشعبية" التي بشّر بها حزب البعث! في عبارة أخرى، لم تقتل حكومات البعث المتعاقبة كلّ ما راكمته سورية من تجارب دستورية وبرلمانية وانتخابية فحسب، بل سعت على نحو منظّم إلى قدحها وهجائها وتشويهها.
وليس بغير أسباب كبرى، وجيهة وأصيلة ومبدئية، أنّ السوريين اليوم يعودون إلى استذكار مآثر رجالات ذلك الرعيل الرائد، والذي يأتي "المواطن الأوّل" شكري القوتلي في طليعته. ومناسبة هذا العمود صنعها الكتاب الجديد الجميل "جهاد شكري القوتلي في سبيل الاستقلال والوحدة"، الذي وقّعه عبد الله فكري الخاني رئيس ديوان رئاسة الجمهورية الأسبق والوزير المستشار والدبلوماسي والأستاذ في الجامعة السورية، وكتبه ـ الآن إذْ يقارب التاسعة والسبعين ـ بروح الشابّ المتفائل الناظر إلى أمام. وليس غريباً أن يستخدم الخاني مفردة الجهاد في وصف نضالات القوتلي، إذ أنّ الوقائع التي يسردها المؤلف تعيد المفردة إلى مدلولاتها النبيلة الحقّة والإنسانية، على نقيض من المعاني المبتذلة التي أشاعها الاستشراق السياسي الغربي طيلة العقود الأخيرة.
أليس في صلب الجهاد أن يقطع القوتلي شرايينه بشفرة، هرّبها إلى السجن داخل رغيف خبز، خشية أن تضعف إرادته تحت التعذيب، فيفشي أسرار جمعية "العربية الفتاة" وأسماء رفاقه الذين تنتظرهم مشانق جمال باشا السفاح، في سورية مطالع القرن الماضي؟ أليس جهاداً بالنفس أن يبيع الرجل أملاكه لتمويل نضالات الحركة الوطنية، ضدّ الأتراك وضدّ الاستعمار الفرنسي في آن؟ وموقفه المشرّف في وجه ونستون تشرشل، حين اجتمع به في السعودية وقال له بعد أن التفت إلى البحر القريب: "شعبنا لن يكبّل وطنه بقيد العبودية والذلّ والاستعمار حتي لو أصبحت مياه هذا البحر الزرقاء حمراء قانية"؟ أليس في أنبل أشكال الجهاد أنه تخلى طواعية عن منصبه كرئيس للجمهورية السورية، منتخب ديمقراطياً ومحبوب من شعبه وصاحب حظوة واحترام في العالم، مقابل تحقيق الوحدة السورية ـ المصرية؟
"في تاريخ العرب الحديث رجل واحد ضحى بمنصبه في سبيل ما يؤمن به، لأنه كان منسجماً مع نفسه، ولأن الإخلاص لأمّته ولفكرة الوحدة العربية سجيّة من سجاياه"، يقول ناشر كتاب عبد الله فكري الخاني. كلام يبدو اليوم وكأنه هبط من كوكب آخر، ربما، في ظلّ ما نعيش من هزائم يومية. الحقيقة، مع ذلك، تقول إنّ الكلام جاء من بطون التاريخ... التاريخ القريب أيضاً!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد| اعتراض قذائف أطلقت من جنوب لبنان على مستوطنة كريات شمو


.. حصانة جزئية.. ماذا يعني قرار المحكمة العليا بالنسبة لترمب؟




.. المتحدثة باسم البيت الأبيض تتجاهل سؤال صحفية حول تلقي بايدن


.. اليابان تصدر أوراقا نقدية جديدة تحمل صورا ثلاثية الأبعاد




.. تزايد الطلب على الشوكولا في روسيا رغم ارتفاع سعرها لعدة أضعا