الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منطق الأمراض

عدنان الدراجي

2008 / 12 / 17
الادب والفن


وضع يده الغضة على صدره وقال:(بابا) قلبي يؤلمني, اشعر بارتفاع ضغط دمي, كانت شفتاه ترتجفان وبدا الاصفرار ظاهرا على قسمات وجهه الطفولي.
جلدني بخوفه وآلمه فاكتظت جنباتي بمشاعر الحب الأبوي وغريزة الدفاع عن فلذة الكبد, بعد برهة أفقت من هول الصدمة على تساؤل مرعب ارتج له لساني: من لي غيرك يا خلاصة آمالي وأنا العالق بوحل خريف العمر؟ يقينا إنه يعاني فأنا اعرفه جلدا كتوما طالما أعاب على إخوته لجاجتهم وهو ذا يلجأ إلى حضن أبوتي ملتمسا الخلاص من أسقامه.
لازال واقفا منتصبا بجسده الرشيق مسترسلا بتفصيل دقيق عن أعراض مرضه إلا أن صخب قلبي أصمني.
أخرجت جهاز قياس ضغط الدم من احد الأدراج, كان قديما إذ اقتنيته قبل ثلاثة عقود لمراقبة ضغط دم والدي, وحين ورثت داء المرحوم أبان الحرب العراقية الإيرانية أمسيت أكثر حرصا على هذا الجهاز.
كنت عازما على فحص ولدي للتحقق من ادعائه فليس شائعا أن يصاب ولد يافع لمّا يودع مراهقته بهذا المرض, أعدت الفحص وكانت النتيجة ارتفاع ملحوظ في ضغط الدم مع عدم انتظام نبض القلب.
هدأة الليل أفرغت طرقات المدينة فهب جارنا لنجدتي إذ اقلنا مسرعا إلى المستشفى الصغير, التحقنا بطابور متعرج ينتهي في باب غرفة الطبيب الخافر, أثارت انتباهي ملابس المرضى المتواضعة فتبادر إلى ذهني أن جلهم من الفقراء لكن سرعان ما تذكرت أنني لم أكلف نفسي عناء النظر إلى ملابسي أو تسوية شعري حين غادرت إلى المستشفى, كنت اغبط الخارجين من غرفة الطبيب وكأنهم اكتسبوا الشفاء التام, كم عذبني تباطؤ حركة عقارب ساعتي.
احتكر ولدي فيض مشاعري فلم أتعاطف مع تأوهات الشيخ الشاحب الذي اقتعد أرضية الردهة كما لم ترقّ نفسي لنحيب الطفلة الشقراء ذات الذوائب الذهبية على خلاف عادتي.
تغافل الطبيب عن رد سلامي إذ كان منكبا على كتابة وصفة للرجل الذي سبقنا, قدرت انه لم يتجاوز منتصف عقده الثالث, لمحت بوضوح تشبث الطبيب بوسامة مزعومة رغم سمرته الفاحمة وشعر رأسه الخشن الكثيف الذي ضيق جبهته إلى حد كبير إلا أن رداءه الطبي الأبيض المفتوح الأزرار أضفى عليه شيئا من الجاذبية كما فعل بنطاله (الجينز) الملتصق به التصاقا عجيبا.
رمقني كأنه يستعجلني, قلت: ولدي هذا يعاني من ارتفاع ضغط الدم وعدم انتظام....
قاطعني باستنكار وكأني نطقت كفرا: كيف عرفت أن ضغطه مرتفع؟ من الذي فحصه؟ من غير المعقول إصابة شاب صغير بهذا المرض!!
دكتور: أنا فحصته, امتلك جهاز فحص الضغط منذ أكثر من ربع قرن.
أشار الطبيب إلى ولدي قائلا: اجلس بقربي ثم لف قطعة القماش المتدلية من الأنبوب المطاطي المنساب من الجزء المعدني من جهاز القياس على ذراع الولد ثم دس نهاية سماعته تحت طية القماش الملتف, وبعد أن وضع طرفي السماعة على أذنيه أجرى الفحص ثم كرره, نظر إلي وقد تبخرت نبرة الاستعلاء التي استقبلنا بها ووضع يده على معصم الولد ومضى يعد نبضات القلب كما يبدو.
خربش على قصاصة ثم ناولها لولدي قائلا: اذهب لإجراء تخطيط القلب, كان ولدي مستسلما لتوتره صامتا متجهما.
عدنا إلى الطبيب سراعا, دقق النظر في المخطط وقال: انتظرا في الاستراحة, سأستدعي الطبيب الأخصائي.
بعد دقائق وصل الطبيب الأخصائي فتبعناه إلى غرفة الطبيب الخافر, كان رجلا أربعينيا رقيق الملامح دمث الأخلاق بسيطا في حديثه وملبسه مما جعلني اشك بما اخبرني به قريبي قبل قليل فليس هناك ما ينبئ أن هذا الطبيب قد عاد للتو من غربة طويلة.
استقبلنا الرجل بابتسامة دافئة, حييته بهدوء ووضعت مخطط فحص القلب على المنضدة, تأمل الورقة بتأني وقد ظهرت علامات الحيرة على وجهه, طلب من ولدي بتهذيب محبب ارتقاء سرير الفحص واستغرق في فحصه بحذاقة لا تتلاءم مع أساليب أطباء المستشفيات الحكومية, ورغم تمكنه كنت ألاحظ محاولاته اليائسة لإخفاء توتره.
عاد إلى مقعده بعد فراغه من الفحص ورطن مع الطبيب الخافر قليلا ثم قال وهو يتحسر: ما أعجبه وطنا أطاح بمنطق الأمراض!!!
د.عدنان الدراجي
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري