الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو مناقشة -شيوعية- لقضية اسم الحزب

مجدي الجزولي

2008 / 12 / 19
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


2008 / 12 / 18
مقدمة فتحت المناقشة العامة رئة جديدة للحزب، من بين ما أدخلت من هواء حسن وفاسد النقاش الضاري حول اسمه، أنحتفظ به أم نبدله، وقد اصطدم النقاش بحواجز عاطفية أكثر منها فكرية، أو قل بلغة التقارير الحزبية، ذاتية أكثر منها موضوعية، مما أحال القضية في بعض أوراق نقاشها إلى "مكاجرة" بين الذين "ما بدلوا تبديلا"، والذين نكصوا في عرف "الرجالة" الحزبية عن العهد القديم. وفي ذلك انعكاس، ليس لمقتضيات البرنامج أو العصر أو الشيوعية أو "الماركسية" معرفة بالألف واللام، وإنما لتدابير الزمان بين تاريخين، أحدهما مودع والآخر مستجد، ولكل شيعة. تحاول المؤسسة الحزبية قدر ما تستطيع أن تخرج من بأسهما المتبادل "ديالكتيك انتقال" يحفظ للحزب تماسكه التنظيمي والفكري، وهي مهمة شاقة، خاصة عندما تطغى العواطف على الفطن. في هذا السياق تحاول هذه المساهمة أن تنتقل بالنقاش إلى أرض موضوعية دون أن تدعي فك الاشتباك، وهو مما لا يفك بالهندسة الحزبية، أغلبية وأقلية.

1 القارئ لأوراق المناقشة العامة ولغيرها من الكتابات التي تناولت قضية الاسم يلحظ اتجاهين، كما سبق الذكر، لكن يفتقد جيد الحجة لكليهما، فإما حجج "فقهية" من شاكلة نهاية الشيوعية والاشتراكية لسند تغيير الاسم أو حجج "جهادية" من شاكلة كيف لنا أن نبدل راية مات من أجلها الشهداء، وفي الحالتين مفارقة بينة للتقييم الملموس للوضع الملموس، أي البيان العلمي لما هو ضروري وما هو مواتي على أساس من معرفة موضوعية بالتاريخ وأحواله من حيث اتصاله بما سبق واستشرافه لما هو مقبل، الخطة الشيوعية التي هدت سعي لينين وهو يدير الثورة الروسية في بلاد لما تعرف الصناعة بحقها، فدبر وفكر ممسكا التاريخ من قرونه بشريعة الواقع. إن مفارقة الخطة "الشيوعية" في تناول مسألة الاسم جعل من "شيوعي" صفة صنمية (fetish) ترمز إلى حالة نفسية جماعية وتستدعي ذكريات وأقدار، مرة ومبهجة، لكن لا تشير إلى برنامج ملموس أو خطة حسنة لتحقيق هذا البرنامج، ثورة كانت أم إصلاح. وهذا أبلغ تحول عن عزائم المادية التاريخية، وقد أخرجت إلى السياسة السودانية بعضا من أفضل حصادها، نحو مثالية يسارية تستحق وصف لينين بالطفولية، فالطفل أكثر من غيره يتعلق لعبة أو قطعة أثاث فيرسم لها عالما من خيال لا محل له سوى في رأسه. إن كان من عيب كبير يسود مساعي العمل الشيوعي في بلادنا فهي ليست "اليمينية التصفوية" بعبارة مسؤول التثقيف المركزي يوبخ عضوا في سكرتارية اللجنة المركزية على وجهة نظر قاسها وسايسها ودبر لها قولا ظاهرا يقرأ، وإنما التحول عن يسارية مادية تريد التغيير الاجتماعي بمعرفة التاريخ والاجتماع والاقتصاد علما لا تكهنا، ودراسة لا رغبة، إلى يسارية مثالية همها صنم الشعار والراية وتراث الأولين كأنما الأمر بيننا دين نجدد عهده كل صباح، وفي ذلك عيب منهجي لا يسعف صاحبه تكرار قال ماركس وقال لينين وإن صح قولهما، بل يزيد الأمر بلة على طينه، إذ أن قولهما ينحرف عن جادته ليصبح دليلا من السنن. التحرر من هذه "الطفولية" أو "الحساسية" هو شرط نهضتنا من ناد للمناجاة السياسية إلى حزب فعال، يقطع إن قاس.

2 باعتبار تاريخ حزبنا لم يعدم تحولات في الإسم والشعار، بل كانت أشد فتراته حيوية وفعالية هي تلك التي شهدت هذه التحولات بما في ذلك اتخاذ اسم "الحزب الشيوعي" على "دبارة" من أمره. نشأ الحزب في خضم حركة التحرر الوطني إذ يؤرخ عبد الخالق محجوب لنشوء التنظيم الشيوعي بتأسيس "الحركة السودانية للتحرر الوطني" (حستو) أول العام 1946 فصيلا مستقلا عن "الحركة المصرية للتحرر الوطني" (حدتو)، والإثنتين خرجتا إلى الوجود بعقل شيوعي لكن بسمت المرحلة، أي برنامج التحرر من الاستعمار كأولوية سياسية وتنظيمية، وبذا اتخذتا الاسم الذي يطابق البرنامج دون تردد. لما كان أمر (حستو) في ذلك الوقت هم مستقبلي هو هدف التحرر من الاستعمار وليس هم ماضوي، هو التطابق مع التراث، لم يجد الشيوعيين السودانيين حرجا في طرد عبارة شيوعي عن اسم تنظيمهم رغم أن الكومنترن كان قد أصدر فرمانه بتحول كل الحركات الاشتراكية والتحررية إلى أحزاب شيوعية شرطا للانضمام إليه في 1921 أعواما عديدة قبل تأسيس الشيوعيين السودانيين لأول تنظيم سياسي يضمهم. لم يخطر ببال أحد، من الذين سجل التاريخ مقالهم، أن يشكك حينها في شيوعية أو ماركسية وقتالية عبد الوهاب زين العابدين وحسن الطاهر زروق وعبد الحميد أبو القاسم وعبده دهب ومحمد أمين حسين وعبد الرحيم أحمد وأحمد زين العابدين وعبد الرحيم كدودة، وقد اعتمدوا في شيوعيتهم على "البيان الشيوعي" و"مبادئ اللينينية".

3 لكن، هؤلاء المؤسسون لم يجدوا رحمة من نقد أول مجدد للعمل الشيوعي في بلادنا، عبد الخالق محجوب، فوصفهم في (لمحات) بأنهم "جماعة مثقفة من الطبقات المتيسرة سلكت طريقا انتهازيا في بناء الحزب – وفي الميدان الفكري والسياسة-." مع تقريظه لنشاط حلقتهم الناشئة حيث "استطاعت بالتعاون الصادق مع الحركة الشيوعية المصرية أن تقدم عموميات الماركسية اللينينية باللغة العربية؛ واستطاعت أن تجذب إلى صف الماركسية عددا من المثقفين الوطنيين الذين لعبوا دورا هاما وسط أحزاب الطبقة المتوسطة فيما بعد وخاصة إبان المعركة الوطنية الكبرى عام 1948؛ واستطاعت أن ترتبط مباشرة بالحركة الوطنية التحررية منذ نشأتها وأصبح هذا تقليدا ثابتا للشيوعيين السودانيين." أهم ما في انتقاد عبد الخالق لهذه الحلقة الأولى قوله أنها كانت "حلقة لقراءة بعض النصوص الماركسية الجامدة" وعفت عن "الدراسات المنتظمة لأوضاع البلاد والحوادث من زاوية الاشتراكية العلمية"، وعدمت "أية محاولات جدية لتطبيق الماركسية على ظروف البلاد". إذن فقد وجه نقده ليس لنقص "الكراس" الشيوعي وإنما لنقص "الراس" الذي يجعل من العلم عملا واكتفى بصنم العبارات، وقد ميز بين ما هو ماركسية جامدة وما هو مسعى اشتراكي علمي، فالأول نصوص، قيل وقال، والثاني دراسة منتظمة.

4 وصف عبد الخالق محجوب الانتقال الذي تحقق للحزب بتشكيل لجنة مركزية جديدة في صيف العام 1947 بأنه تطور ثوري أزاح العناصر الانتهازية وفتح الباب لاتصال أوثق مع الطبقة العاملة إذ أقر "مبدأ التحالف مع الرأسمالية الوطنية مع الاحتفاظ بالاستقلال التام للحزب في تنظيم الجماهير". ثم عاد ليصف نفوذ تيار عوض عبد الرازق الذي تصاعد مطلع العام 1949 بأنه تيار "انتهازي" وفق مسطرة العمل الجماهيري الذي انحسر مده، ولخروج "المثقفين" من الحزب يأسا من فعاليته. هذا الاتجاه تبنى بحسب عبد الخالق "مفاهيم معزولة للنظرية الماركسية يفصل بينها وبين حاجات النضال الجماهيري والقضايا التي تواجه الحزب. كانت الماركسية تشوه وتسلب روحها وتقطع أوصالها بتدريسها مجردة في (كورسات) منقولة من الكتب ولا تمت للقضايا الحية بشئ". انتهت هذه المرحلة بانعقاد أول مؤتمر للحزب عام 1950، ثم مؤتمره الثاني في العام 1951 "مؤتمر الوحدة"، وتطور عمله الجبهوي عبر مراحل أبرزها الجبهة الوطنية (1946) ثم جبهة الكفاح (1948)، ثم الجبهة المتحدة لتحرير السودان (1952)، حتى تشكيل إحدى أنفع تنظيماته "الجبهة المعادية للاستعمار" في العام 1953 والتي فارق بها درب "ستالين" القائل بضرورة أن يعمل الشيوعيين داخل الأحزاب البرجوزاية الصغيرة دون تنظيم أو حزب مستقل لهم في البلدان المستعمرة لضعف وجود الطبقة العاملة أو انعدامها. حل عبد الخالق لهذه المعضلة كان حلا مبدعا من جهتين، فقد قاوم بشدة الرضوخ النصي لستالين فاستقل بالعمل الشيوعي عن الاندماج كلا في سياسة "البرجوازية الصغيرة"، كما لم ينزلق دون دبارة إلى شعارات شيوعية جوفاء بل جعل من المنظمة الحزبية بؤرة للقوى الديموقراطية التي اجتمعت مع الشيوعيين على أهداف برنامجهم القصير – الوطني الديموقراطي. كدأبه انتقد عبد الخالق وجهة نظر من وصفهم بـ "التيار الانتهازي الانهزامي" في اللجنة المركزية، أي من رأوا في الجبهة المعادية للاستعمار حائلا دون نمو الحزب الشيوعي وتحوله إلى قوة اجتماعية، مشددا على أن "الجبهة" أتاحت لمن صبغهم العمل السري بصفات انعزالية أن يتحولوا إلى قادة جماهيريين يزكون ما بأنفسهم من سلبية يسارية، وأنها قربت أقساما نائية من السكان إلى مواقع الحزب الشيوعي. مرة أخرى يتضح أن الاسم لم يكن صنما بل آلة جماهيرية وأن القياس لمن يكن التطابق مع نص وإن خطه "ستالين العظيم" بل مقتضيات العمل الجماهيري وفعاليته، إذ لم يكن صعبا أن يتخذ الشيوعيون آنذاك أسماء رنانة الجرس اليساري لتنظيمهم الجماهيري، لكن قادتهم البصيرة الشيوعية إلى ما يوافق واقع عملهم السياسي، وليس أحلامهم الثورية.

5 خرج الشيوعيون السودانيون إلى الناس من مؤتمرهم الثالث في فبراير 1956 وقد خلعوا عباءة "الجبهة المعادية للاستعمار"، إذ تحقق الاستقلال السياسي، ورفعوا راية "الحزب الشيوعي السوداني". لكن لم تكن تلك خرقة كالتميمة، وإنما رداءا لبرنامج استقى من الثقة الشيوعية آنذاك في قرب "الانتصار النهائي" وانفتاح الطريق المؤدي من المرحلة الوطنية الديموقراطية إلى بناء الاشتراكية. هذا بحسب ما توفرت لديهم من قراءة للواقع، والمد اليساري كاسح يقتلع ترسا استعماريا تلو الآخر، والاتحاد السوفييتي "العظيم" يشهد ازدهارا تنمويا غير مسبوق ينافس المعسكر الرأسمالي أشد المنافسة، والماركسية اللينينية تبدو "قوانين" يجب تطبيقها ليس إلا. عليه كان الواجب الأول هو تقديم شعار "الاشتراكية" وهي مشهودة ما وراء البحار "بوصفها المنقذ الوحيد (لبلادنا) والممكن تحقيقه بانجاز مهام الثورة الديموقراطية واستكمالها." في هذا الخصوص أكد عبد الخالق محجوب على ضرورة مواجهة "الأفكار المحافظة والجامدة"، وهي عنده العزوف عن ابتكار أشكال مستجدة من الاتصال بالجماهير والعمى عن الفرص الجديدة، وقد ضرب لذلك مثلا بمعارضي الجبهة المعادية للاستعمار، الذين رأوا في جدتها "اضعافا للحزب الشيوعي وادخالا لأساليب العمل البرجوازي الصغير فيه"، إلى جانب المتشدقة بالطبقة العاملة الذين يعارضون عمل الحزب بين الفئات "الثورية" الأخرى، بخاصة المزارعين، تحت ستار تركيز قوى الحزب بين الطبقة العاملة. إذن، حتى مع الانتقال إلى "الحزب الشيوعي" ظلت الفعالية الجماهيرية هي مسطرة القياس للتنظيم وليس الرضا "الثوري" العقيم.

6 عليه، ما كان اعتماد اسم "الحزب الشيوعي" شأنا لا تاريخيا وإنما يقرأ ضمن النهوض العام للحركة الثورية، خاصة على مستوى العالم الثالث المنتصر لتوه على الاستعمار، المتأثرة منها بالصيغ السوفييتية أو الصينية، ولقد اتخذت هذه شكلا تنظيميا دوليا يجمع الثوريين "المحترفين" من حول العالم بقيادة موسكو منذ العام 1919، تاريخ تأسيس الكومنترن. يذكر أن هذه الأممية الشيوعية أصدرت في العام 1921 كراسا بعنوان "مبادئ التنظيم الحزبي"، وفيه توجيه أممي أقره مؤتمرها الثالث بتعميم الشكل التنظيمي للحزب الشيوعي السوفييتي، بما في ذلك الاسم والتعريف وهياكل ومبادئ التنظيم، فولدت بالتالي أحزابا شيوعية على النمط السوفييتي في كل بلد عنوة واقتدارا. وذلك وفق قراءة تقول بأن الثورة منتشرة لا بد إلى كل بقعة، وإنها حتما تنويع على الثورة الروسية، بالتالي يجدر بالثوريين الحق اعتماد الخطة السوفييتية حذوك النعل بالنعل. يقرأ هذا التصور في سياق صراع لينين ضد الكتلة التي خرج منها، أي الاشتراكية الديموقراطية "الأوروبية"، وقد عفها منذ أن تعرت سياسيا بموافقتها على مراسيم الحرب (العالمية الأولى) فأنشق عنها في جماعة إبان مؤتمر "زيمرفالد" عام 1915، ليشكل أولا "يسار زيمرفالد" واصفا الداعمين لمراسيم الحرب بأنهم اشتراكيون شوفينيون، اشتراكيون شعارا وشوفينيون عملا، وذلك في كراسته "الاشتراكية والحرب". لم تتعافى الأممية الثانية (الاشتراكية الديموقراطية) من هذا الانشقاق فانحلت عام 1916 والحرب على أوارها لتخلفها أممية لينين الثالثة عام 1919 بعيد انتصار الثورة الروسية. هذه الثالثة خرجت باسم "الأممية الشيوعية" طلبا لجذرية تفوق "الاشتراكية الديموقراطية" مزهوة بانتصار أكتوبر 1917، رغم أن عددا من الأحزاب المكونة لها كانت ما تزال على أسمائها القديمة "الاشتراكية الديموقراطية" بما في ذلك أحزاب كبرى مثل الحزب الاشتراكي الإيطالي والحزب الاشتراكي الديموقراطي اليساري السويدي. أما حزب لينين فقد خلع اسمه القديم "حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي – بلشفيك" ليتحول إلى "الحزب الشيوعي – بلشفيك" ظنا أن الثورة الشيوعية العالمية في أوروبا أصبحت وشيكة، وأن الأمر في روسيا هو "بناء الاشتراكية" المفضية إلى المجتمع الشيوعي، ومن ثم على الحزب أن يطرح في إسمه شعار ما هو قادم لا بد قانونا حاكما للتاريخ. هذا الروح القائد للعمل الشيوعي الأممي تصلب في فرمان الكومنترن عام 1912 والداعي إلى توحيد الأحزاب الاشتراكية فصائل متجانسة تحمل الاسم "الشيوعي" تميزا عن الاشتراكية الديموقراطية البائدة، وطلبا لثورة أممية بدت لهؤلاء المناضلين المحترفين قيد التحقق بعد الانتصار الروسي.

7 منذ ميلاده، في مارس 1919، والكومنترن واقع في تناقض تاريخي، فهدفه تحقيق الثورة الكونية بقيادة روسية ظنها أهله، بما في ذلك لينين، أنها انتقالية تنتظر انتصار الثورة في ألمانيا لتنتقل من موسكو إلى برلين، والتي بدأت ارهاصاتها في نوفمبر 1918 حتى أن اللغة الرسمية للكومنترن أول أمره كانت الألمانية وليس الروسية. لكن تضعضع هذا الأمل بهزيمة الشيوعيين الألمان ومقتل قياداتهم، روزا لوكسمبرغ وكارل ليبكنخت، على يد الضباط الملكيين في 15 يناير 1919، حتى تأسيس جمهورية فايمار في أغسطس من ذات العام. في العام 1943 والحرب العالمية الثانية محتدمة، انتهى العمر الرسمي للكومنترن، وإن لم ينقطع تراثه، فستالين رأي أن يهدئ روع حلفائه في الحرب ضد الفاشية، روزفلت وتشرشل، وقد ارتابوا من أن الاتحاد السوفييتي قد يستغل ظروف الحرب لدفع أجندته الثورية الأممية. أقر الكومنترن في إعلانه حل نفسه، والصادر عن لجنته التنفيذية، بتاريخ 15 مايو 1943، "أن الوضع الداخلي والدولي للعديد من البلدان أصبح معقدا جدا بحيث يستحيل حل مشاكل الحركة العمالية في كل بلد من مركز دولي." منذها والأممية مكتب دولي تابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، يختص بإدارة العلاقات الخارجية للدولة السوفييتية أكثر منه إدارة الثورة العالمية. انتقلت بعض مهام هذه الهيئة إلى "مكتب الإعلام الشيوعي" (الكونفورم) الذي أسسه ستالين عام 1947 ليدير شبكة من الأحزاب الشيوعية في البلدان الواقعة في حلف السوفييت بعد الحرب العالمية الثانية بالإضافة إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، ذلك وفي الاعتبار خطة مارشال التي نفذتها الولايات المتحدة الأميركية لإعادة بناء النصف الغربي من أوروبا. انتهى الكونفورم كسابقه الكومنترن إلى الحل عام 1956 بعيد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي وثلاثة أعوام بعد وفاة ستالين في العام 1953. هذا وقد اقتضى الصراع بين المعسكرين، الاشتراكي والرأسمالي، أن يجمع الاتحاد السوفييتي الدول الواقعة تحت نفوذه في حلف ينافس حلف شمال الأطلنطي (الناتو) فأسس "حلف وارسو" في 14 مايو 1955 كرد مباشر على انضمام ألمانيا الغربية إلى حلف الناتو في ذات العام. بذا فإن الوحدة النضالية الشيوعية التي ارتسمت في ذهن مؤسسي الكومنترن تحولت بفرض وقائع التاريخ إلى شبكة لإدارة العمل الدبلوماسي للاتحاد السوفييتي وهو يجابه التحدي الرأسمالي حتى انهياره في 1991. هذا بينما انتقل الثقل الثوري من مركز موسكو إلى عواصم العالم الثالث فتأسست أمميات بديلة لإدارة "الثورة العالمية" خلال الستينات أبرزها ربما وأكثرها جذرية "منظمة تضامن شعوب افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية" (التراي – كونتننتال) بزعامة كوبا.

8 مما سبق يمكن الخلوص إلى الآتي: أولا، تاريخية الاسم الذي ارتضى حزبنا وارتباطه بحقبة من عمله قامت على عدة مقولات، سقطت في اختبار التاريخ، أبرزها التصور الخطي للانتقال من الثورة الوطنية الديموقراطية إلى الاشتراكية فالشيوعية، وهذه قد أثبتت حوادث التاريخ أنها تبسيط مخل للصراع الاجتماعي. ثانيا، أهدت الفرضية الشيوعية، أي القول بامكانية التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بخلع الملكية الفردية، منذ بيانها الأول للعالم، تنظيمات وأحزاب متباينة اتخذت أسماء مختلفة تعكس كل منها مقتضيات تاريخها الخاص. نحن جزء من هذه الحركة المستمرة والتي تدخل في عصرنا هذا مرحلة مستجدة، ليست هي التي نشأ فيها حزبنا، وإن كان لنا أن نأخذ مكاننا فيها فعلينا التحرر من "طفولية" التمسك الصنمي بصيغ وعبارات وتصورات لم تعد تلائم عصرنا ولا احداثيات الصراع الاجتماعي فيه. ثالثا، ونحن نفكر في تبديل اسم الحزب أم الاحتفاظ به يجب أن يكون قياسنا فعالية عملنا الجماهيري والمهام الملقاة على عاتق منظمتنا الحزبية، المباشر منها والمتصل. يجب أن يعكس اسم الحزب طبيعة هذه المهام ويتبلور على أساسها خطه التنظيمي والسياسي. رابعا، لم تنقص حزبنا الجرأة في السابق وهو يقتحم المستقبل، كان ذلك باسم الجبهة المعادية للاستعمار، أم باسم الحزب الشيوعي، أم باسم الحزب الاشتراكي قصير العمر، في كل كان الهدف هو صناعة المستقبل واستشراف آفاقه لا التطابق مع الماضي. بذا فإن مناقشة اسم الحزب في أسر أمجاده واخفاقاته لا يبارحها ولا يتعلم منها رجعية لا تغتفر، المطلوب هو الرؤية التي تطرح الحياة القادمة مادة لها لا التي تجتر الذكريات، وإلا فلا تقدمية ولا شيوعية ولا يحزنون.
نوفمبر 2008



استفدت في هذه الورقة من عدد من المصادر أهمها مساهمتي الزميل عبد الرحمن (الشيوعي 170، 07/2007)؛ كتاب عبد الخالق محجوب "لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني" (ط 3، دار الوسيلة، الخرطوم 1987)؛ التلخيص الختامي للمناقشة العامة، الكتاب الثاني أ (06/2006)؛ دراسة الدكتور محمد نوري الأمين "الحركة الشيوعية السودانية: الخمس سنوات الأولى" (مجلة دراسات الشرق الأوسط، 07/01/1996)؛ ووثيقة الكومنترن "مبادئ التنظيم الحزبي" (دار النشر الجماهيري، كلكتا، 11/1975).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من


.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال




.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار


.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل




.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز