الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات حقوقية

سعد صلاح خالص

2008 / 12 / 20
حقوق الانسان


"الحق لا يمنح لك، بل ينتزع منك.." رامزي كلارك
مّر اليوم العالمي لحقوق الإنسان في بلادنا مرور الكرام ببيانات لم يقرأها أحد تصدرها منظمات معزولة لم يسمع بها أحد، ومن وزارات لحقوق الإنسان لا تعمل إلا في هذا اليوم. وقبله مر اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة و أيام عالمية عديدة. مرّ اليوم مثله مثل أي يوم من الأيام الثلاثمائة والأربع والستين الأخرى في أوطاننا الحزينة، ولم نعد نبكي حقوقا وحريات وحقا في الحياة كما بقية البشر فهذا بات من السرابات ونحن لا نزال نتسول حرية السير في شوارع أوطاننا بلا رصاص أو قنابل أو عساكر، ونتسول حرية استنشاق نسمة هواء، بل وحرية مراقبة الشمس وهي تشرق، وحرية الجلوس في حديقة عامة مع من نحب، وحرية أن نختلي بعقولنا حتى ولو في غرف مغلقة.

في مثل هذا اليوم، الذي يصادف أيضا الأيام الأخيرة من عام دموي آخر، تودع شعوبنا المزيد من قتلاها، وتستقبل أفواجا جديدة من الأحياء الأموات، ودكتاتوريات جديدة قديمة، ونذر حروب وأزمات، والجيل التالي من أصحاب الجلالة والقداسة والسعادة والفخامة والنيافة، ومزيدا من الإفقار، و بقايا أحلام نحاول عبثا أن نبقي على رفاتها.

شعرت بالقرف وأنا أستذكر كم كتبت وقرأت عن الحقوق والحريات وأنا أتجول في عاصمة عربية ما، أرقب الرجال والنساء والأطفال في يوم عمل طبيعي .. هي ذات الجموع تخرج جيلا إثر جيل إلى العمل والمدارس والشقاء اليومي، كما إلى التسول والبطالة وحتى الدعارة، فيهم من يحلم وفيهم من لم يعد يحلم بعدما فقد الحواس جميعا في أوطان التجهيل وغسيل الأدمغة والقتل غير الرحيم. فهذا طفل يتسول، وذا آخر يذهب إلى مدرسة يتعلم فيها الخرافة والكراهية، وهنالك شاب يبحث في صحف متحجرة عن إعلان وظيفة، وهذه فاتنة تسير بوجل خوفا من الانتهاك وإن غطت خصيلات شعرها وأطراف أصابعها، وأولئك عمال ينتظرون في المسطر بحثا عن سيارة قد تقف لتطلب حمالا أو عتالا أم صباغا لتغطية نفقات لقمة اليوم، أو وجبة من لقمة اليوم فحسب، وهذا متشرد يفترش الطريق، ويمر عن بعد موكب مسرع بسيارات مظللة النوافذ تسحق من أمامها ومن وراءها، فالسيد الرئيس أو الوزير أو الخفير في عجلة من أمره، لئلا يفوته حق من حقوق الآخرين لم ينتهكه بعد..
هي ذات الوجوه والهموم رغم مرور الأجيال والعقود، وجوه اتعبها الحلم بغد أفضل وبوعود لم تتحقق وأكاذيب كبرى وصغرى، فلا الرفاهة وصلت، ولا الحرية أقبلت، ولا الفقر اندحر، ولا الجهل انقرض، فالأنظمة هي ذات الأنظمة، والشعوب هي ذات الشعوب، مع فارق بأن أجيال التنوير قد اندحرت وباتت النخب تكلم نفسها في بروجها، فلم يعد من السهل أن تجد من أبناء جيلك أو حتى من أصدقاء طفولتك وشبابك من له الاستعداد بأن يناقشك في كتاب أو مقال قرأه أو فلم شاهده كما كان الحال قبل ثلاثة أجيال أو أكثر، ذلك إن أغلبهم قد توقف عن القراءة، وقطع دابرها مع أولاده وبناته.

ينصح أدولف هتلر كل طغاة الأرض بحكمة مأثورة إذ يقول لهم "أكذبوا كذبة كبيرة وبسيطة الاستيعاب، وكرروها، فسيصدقونكم" ، وهكذا تراكمت الأكاذيب فكان وهم العدالة الشيوعية والنهضة القومية والديمقراطية الليبرالية، واليوم أعاد العقل الاجتماعي العربي الكذبة الأكبر والأقدم والأكثر فاعلية التي وقفت في وجه كل تلك الأفكار لتسحقها وتمسخها وتستنسخ جمهورها على أنها ستحقق لنا كل ما نريد، ولكن في الحياة الأخرى. وإن كنا سابقا نعيش للفكرة أملا في وهم تحقيها، فإن جيوشا من أجيال اليوم جاهزة للموت المجاني والتفجر إلى أشلاء للغرق في مباهج تلك الحياة الأخرى. وهكذا، وفي سابقة نادرة الحدوث في تأريخ التطور البشري، قفز العقل القديم على ظهور الجميع فاحتكر السلطة والمعارضة، والصحيفة والفضاء، والمدرسة والشارع، بدءا من "إعادة فتح مصر" وفق تعبير سيد القمني، مرورا بإجهاض لبنان - تلك التي كانت نافذة صغيرة جميلة لبعض الهواء الطلق- والتي حلمنا معها في 14آذار لعدة أشهر قبل لفها في عباءة حسن نصرالله وفتح الإسلام وتحويلها إلى استقطاب طائفي، وليس انتهاء بفتوح العراق التي ظننا جميعا بأن إنهاء الدكتاتورية الوحشية فيه سيملأ الأرض زهورا ورياحين، فإذا به ينضح موتا وقتلا وخرابا.

لم يغب هؤلاء يوما عن الساحة، ولكن الفرق بينهم وبين الآخرين بأنهم كانوا يعملون وإن تحت الأرض، بينما كان الآخرون يحلمون ويهيمون في عوالم نخبوية لا وجود لها على الأرض، وقريبا سيقفزون إلى الكراسي في كل مكان بالانتخابات وليس عنوة، وبرعاية غربية منافقة التي تبحث عن "إسلاميين معتدلين لامتصاص الإرهاب" على شاكلة الإخوان المسلمين والنسخ المشابهة في المذاهب الأخرى، في فذلكة سياسية وكذبة كبرى جديدة تعيد إلى الأذهان حكمة أدولف هتلر الآنفة الذكر في شعوب تبحث عن رموز فتجدها في أبي مصعب الزرقاوي وأسامة بن لادن ومقتدى الصدر وحسن نصرالله ، ليدفنوا كل ما تبقى من أحلام الحرية والعدالة والمساواة والارتقاء، وليبقى الغرب غربا الشرق شرقا، ويتعايشا على أساس العزلة و"عدم المساس بالخصوصيات" الذي بات شعار جميع مؤتمرات حوار الطرشان.
في هذا اليوم العالمي لحقوق الإنسان، يعيد المرء اكتشاف ذاته ومجتمعه، ويعيد قراءة التاريخ والجغرافيا، ويستعد لدفن ما تبقى من حلم جميل مضى..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لوعة مثقف
طلال شاكر ( 2008 / 12 / 20 - 16:38 )
أني اشاطرك الاحساس بهذا التوجع النبيل الذي استحضرته من واقع ارهقنا ,اورهقناه ليس لنا من عزاء سوى الاستضاءة بنور الكلمة وعفة الضمير ونحن نتجالد عازمين الصمود في وجه هذه المحن وهذا الاغتراب .احييك وأثني على قلمك الجميل

اخر الافلام

.. اعتقالات وإعفاءات في تونس بسبب العلم التونسي


.. تونس– اعتقالات وتوقيف بحق محامين وإعلاميين




.. العالم الليلة | قصف إسرائيلي على شمال غزة.. وترمب يتعهد بطرد


.. ترمب يواصل تصريحاته الصادمة بشأن المهاجرين غير الشرعيين




.. تصريحات ترمب السلبية ضد المهاجرين غير الشرعيين تجذب أصواتا ا