الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فينيسيا.. من كاناليتّو إلى مونيه

يوسف ليمود

2008 / 12 / 21
الادب والفن


في القطار من تورينو، حيث انهار نيتشه في نوبة جنونه الحاسمة، وكان بصحبة صديقه أوفربك الذي ارتأى اصطحابه إلى مدينة بازل، غنى نيتشه "أغنية الجندول"، صورة صوتية لكأني سمعتها في أذني من كيانه المتهدج وأنا خارج من مشاهدة هذا المعرض:

منذ وقت قريب
في الليل الأدهم
وقفت على الجسر.
ومن بعيد
تهادت أغنية
كقطرة ذهب على الماء المتموج
وعامت جنادل فينيسيا،
الأنوار والموسيقى صوب الغروب.
وكما آلة مسّت أوتارهَا يد خفية
غنت روحي لِذَاتها
في رجفة سعادتها الملونة بالأقزاح.
غنّت
أغنية جندول فينيسيا الغامضة
هل أصغى إليها أحد؟

معرض أنيق، ليس بالضخم ولا هو بالصغير، يضيف إلى الأعين التي لمست فينيسيا في الواقع أو في الصور، فينيسيا أخرى بعيون فنانين عديدين على امتداد قرنين، عاشوا فيها أو زاروها وكلهم عشقوها، على ما تقوله اللوحات والرسومات والفوتوغرافيا التي نراها في هذا المعرض، وهل هناك من زار فينيسيا ولم يعشقها، اللهم إلا من هرب منها بسبب جمالها غير المحتمل؟ مكان المعرض متحف بايلار في بازل ويمتد حتى الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني.

معرض كهذا، اعتبارا لمقاييس الحس الفني المعاصر، يعتبر وثيقة فنية تاريخية أكثر منه فنية، رغم أن الأمر نسبي في الواقع، إذ كثير من زوار عرضٍ كهذا هم من الأجيال التي توقفت ذائقتها الفنية عند حدود الانطباعية المدغدغة بألوانها ومواضيعها، والتي انتهي عندها المعرض في رحلته الزمنية متمثلا في نموذج كلود مونيه 1840 - 1926، بادئا بنموذج رسام المناظر الفينيسي كاناليتو، ابن المدينة المولود في 1697 والراحل في 1768. هو جيوفاني أنتونيو كانال، معروف أكثر بكاناليتو، أشهر من رسم، كلاسيكيا، موانئ وجنادل ومباني وسماء وأضواء ومعابر مدينة أمه فينيسيا. لوحات زيتية متوسطة الحجم في أطرٍ ذهبية مهيبة تسبح داخلها شرائط المدينة ومراكبها كما لو على زجاج يعلوه بخار: سمفونية من مراكب تضرب فيها المجاديف كأسهم حرب خفية بينها وبين الوقت، بينما المباني أصنامٌ منتصبة غير مبالية بتهديدات البحر والزمن. في هذا الصراع الدفين بين الحي والجامد، لا تحكي لنا لمسات الرسام سوى ظلال عابرين ـ لا بد أن تاجر البندقية بينهم ـ يقيمون الأسواق ويروْنها تنفض، وما من شاهد سوى أحجار المباني والمناظر ذاتها التي جمّدتها اللوحات وصارت في عداد الأحجار.

يأتي البريطاني الشهير ويليام تيرنر، خطفا، إلى المدينة التي يصفها بأنها لا تُوصف، وفي ثلاثة أيام يخرج بخمسة عشر اسكتشا بالقلم الرصاص، ليعود بعدها مرتين أخريين في 1833 و 1840 مازجا الشمس بالبحر في بؤرة تذوب فيها المدينة بكائناتها وجماداتها وكأنه يقول باللون ما قاله رامبو ذات قصيدة: "عرفت ما هي الأبدية! هي البحر ممتزجا بالشمس". هذا ثابت في أعمال تيرنر جلها: زيتياته الكبيرة، ومائياته خصوصا، التي أفرد لها المعرض قاعةً خاصة بلون وإضاءة خاصيْن، أشبه بغرفة مضاءة بمصباح ليلي، عكس معظم قاعات العرض الأخرى التي يغمرها نور النهار المنبعث من التصميم المعماري الجميل للمكان.

خلافا لحس الذوبان في الأبد عند تيرنر، نرى سلسلة من رسومات الجرافيك لابن بلده الإنجليزي جيمس ماك نيل ويستلر الذي كان قد جاء فينيسيا في مهمة انجاز اثنتا عشرة لوحة جرافيك، وبدلا من ثمانية أسابيع كانت مفترضة لإنجاز المهمة، مكث عاما وشهرين وعاد بمائة لوحة بألوان الباستيل، وخمسين رسما بالحفر من أرق وأهم ما رسم في رحلته مع الخط وعالمه، في رقة من يرسم على ورقة خريف جافة تعكس خفة وجود هذه المدينة على سطح الماء الذي يهددها بالغمر في كل لحظة، ربما إمكانية الزوال هذه هي بالتحديد منشأ جمال المدينة، ولا شك هي منبع جمال رسومات ذلك الفنان الذي مثلت رحلته إلى فينيسيا خروجا من ضائقة مادية وفنية أتاه من بعدها الفرج.

الأمريكي جون سينجر سرجنت، واحد من أكثر المصورين الأجانب تأثرا وارتباطا عاطفيا بفينيسا، ربما لقضائه سنينا من شبابه في إيطاليا التي ولد بمدينتها المنسوجة من الرقة فلورنسا، ترك إرثا فنيا يفوق مائة وثمانين لوحة تهيم بفينيسيا وتفاصيلها كمكان وبشر وزمن: من زاوية الشارع حيث البنت التي بلغت بالأمس تتعثر في شهوتها الطارئة بينما البيوت بشبابيكها المشرعة على نهار لا شخصية له ترى وتسمع أنين صرصور الحياة النابت بين فخذيها، إلى البهجة الزاعقة حول المراكب التي هيجتها الشمس، إلى صالونات المساء المغلقة على برجوازيين مسنين يحتكمون على فتيات بريئات أو غير بريئات تماما، إلى الأزقة التي يغلقعها الليل بمفتاحه الخشبي الكبير المكتوم. لقطات لا تخلو من انفعالية كما لا تخلو من لعبة النور والظل، تبدو في الغالب كتفصيلات مقتطعة من زمن أكثر منها مقتطعة من فضاء. قريب من هذا الحس وإن بشكلٍ أكثر صلابة في التناول وأكثر صخبا في التلوين، نرى لوحتين لكلود مونيه، ومعظمنا يعرف من هو مونيه!

نعرف كذلك بيير اوغست رينوار الذي ترك تلوينَه الانطباعي كبصمة ما كان ليفوتها ترك تعرجاتها على مساحات مستلهمة من مناظر المدينة تلك. حين زار فينيسيا مرته الوحيدة في 1881 التقى فيها كاناليتو وويستلر الذي تركت رسومه الجرافيك أثرها على صديقنا رينوار، رغم أن الأخير كان وسيطه اللون ليس الخط. الدنيا بصمات. هذا يبصم هنا وذاك هناك، وهذا على ذاك وذاك على تلك! من صاحب البصمة الأخيرة في الدنيا يا ترى؟

مرورا كريما على رسام يدعى أوديلون ريدون، كان قد جاء إلى المدينة في مهمة تزيين بيتِ أرستقراطيٍٍّ، أنجز فيها، من ذاكرته، ثماني لوحات انطباعية تعبيرية، فيها حس هو مزيج من دراماتيكية وتزيينية لا تهتم بالتفاصيل قدر إيحائها باغتراب الراسم (الناظر) عن المكان الذي بدا بعيدا كما في حلم لا يتذكره صاحبه حين يستيقظ.
نصل إلى الانطباعي التنقطيطي بول سينياك، الذي انشغل بمحاكاة تكنيك الموزاييك في لوحاته بدل أن ينشغل بحيوية اللوحة نفسها، فينظر البعض اليوم إلى عمله بروح من يبخل حتى بابتسامة سخرية. لكنه جزء من تاريخ الفن في كل حال!

أما كلود مونيه فله في المعرض حظ النمر في وليمة قطط، نظرا لتأخّره تاريخيا عن باقي العارضين وريادته الانطباعية التي تجلت في تجاربه اللونية/الضوئية التي كرر فيها المنظر نفسه مرات، إنْ كانت كنيسة أو انعكاسات مبنى على ماء أخضر، في حالات الضوء المختلفة لساعات النهار، تغلفت فيها التفاصيل بما يشبه غلالات من ألوان قزح. إنه المحطة الأخيرة في ذلك المعرض، تاريخيا وتسلسلا في العرض كذلك، يتداخلان ويُبرزان الدرس الفني/التاريخي/التطوّري. المغامرة والصراع الذي خاضه الفن في رحلته الطويلة حتى تحرر إلى ما هو عليه الفن المعاصر اليوم.

يوسف ليمود
النهار اللبنانية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي