الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الحذاء والإرهاب
سعد صلاح خالص
2008 / 12 / 22الارهاب, الحرب والسلام
"الإرهاب أعرفه عندما أراه.." مسؤول أوربي ردا على سؤال حول تعريف الإرهاب
من المؤلم أن يمر "حادث" مثل جريمة كركوك مر الكرام في الإعلام العربي تحديدا، فلم تعد (وربما لم تكن يوما) جثث أطفال العراق لتعني الكثير لدى ابواق الإعلام العربي المسّيس في كل أنحاء العالم العربي ما لم يكن الفاعل أمريكا أو إسرائيل، وحينئذ تقام المآتم والمزادات الكاذبة ليوم أو أثنين، أما إذا كان الفاعل من نعرف جميعا، فإنه التبرير بل والاحتفال والقصص الخيالية عن وجود جواسيس سريين وعملاء للموساد وسط مئات الضحايا البريئة، ورمي التهم على آخرين أحيانا، والصمت غالبا.
عندما ينفجر معتوه في وسط عشرات العائلات ويراكم جثث أطفالنا ونسائنا، لا يستحق الأمر أن نقطع الإرسال الفضائي ونعيد اللقطة عشرات المرات ونفرغ المعلقين والمحللين على مدار الساعة للتعليق على الحادث الجلل كما فعلت فضائيات العرب في حادث "الحذاء" الشهير، بل ونحوك القصائد وننشد الأناشيد للحذاء المجيد، وننفق عشرات الدولارات في إرسال قصص وأفلام "الحذاء" عبر الهواتف الجوالة، ونجند "كتبة" الأعمدة في الصحف من المحيط إلى الخليج للرقص في زفة الحذاء، ونرسل الآلاف (أكثرهم بالمناسبة كانوا من اتجاه معين) إلى للشوارع للتظاهر تمجيدا للحذاء، بينما لم يكلف أحد نفسه للتظاهر احتجاجا على جثث غزوة مطعم عبدا لله المباركة في كركوك، وفتوحات ساحات بغداد وبعقوبة والموصل، وبالطبع لا نتوقع أن يحتج أحد على فتح الفتوح في الهند وما يحدث في الجزائر واليمن ولبنان وغيرها، بل أن هنالك من عرض عشرة ملايين دولار لشراء الحذاء وسط بركات وتهليل الغوغاء، الذين لم يسألوا لماذا لم يخصص ملايينه العشرة لإيواء مشردين من أبناء جلدته، أو لإنشاء مدارس أو مستشفيات، أو لتوزيع الغذاء على آلاف الفقراء، إلا أن الحذاء أهم من هؤلاء جميعا كما يبدو.
لقد نجحت حكومات العرب وأبواقها في تحصين جماهيرها وإكسابها المناعة ضد تأثيرات مشاهد الموت المجاني حتى لم تعد تعنيها، خصوصا إذا كان هذا الموت عراقيا، وعلى الأخص عندما يكون على يد "المجاهدين" مهما كان صنفهم أو لونهم ما دامت الضحية عراقية، تلك الجنسية التي باتت عندهم مرادفة للخيانة منذ أن نبذت دكتاتورها، فمنذ نيسان 2003 وحتى اليوم بات العراقي نجسا ممنوع اللمس في العالم العربي، فلا تأشيرات ولا إقامات ولا تصاريح عمل وإذلال في المطارات والشوارع، بل وبات على العراقي ارتداء لبوس البعث أو القاعدة، وربما "الحذاء" غدا، ليكسب لقمة عيشه.
قد يكون حادث "طريفا" ولكنه (أي الحذاء) والحكم على صاحبه ليسا موضوعنا اليوم، بل الموضوع هو ردود الأفعال المنتقاة بدقة لإدارة العقل العربي وتوجيه اهتماماته وصناعة رموزه. فالأبطال يصنعهم الإعلام، وكذا الشهداء، وما صاحب الحذاء إلا أحدهم. ولك أن تتخيل كم من بطل حقيقي أغفله الإعلام، ولنأخذ "عثمان" صاحب ملحمة جسر الأئمة في بغداد الذي بصق في وجه الطائفية، والذي لم يعد يذكره أحد، وأين هو من صاحب الحذاء الذي بات بطلا قوميا.
منذ أن شمر الأمريكان عن سواعدهم بحثا عن أسامة بن لادن بعدما بات يعرف كونيا بـ 11/9 داعين العالم للانضمام إلى حملتهم على الإرهاب والعرب يطلبون تعريفا للإرهاب للتكرم بالانضمام، وكأن الإرهاب يحتاج إلى تعريف- والتحجج بارتباك المصطلح مع مفهوم المقاومة والتحرر الوطني، وهي كلمة حق يراد بها باطل، ذلك أن ما يسمونه مقاومة وجهادا في بلاد الآخرين يصبح إرهابا عندما يمس عروشهم، وكذا الحال مع مفهوم إرهاب الدولة، وهي كلمة حق أخرى يراد بها باطل، ذلك أن الدول التي يقصدون يجب ألا تشملهم بكل الأحوال، ولا تشمل سجونهم الرهيبة، ولا ممارستهم العنف والقمع الأعمى، ولا إبادتهم للآخرين في أوطانهم بالجملة والمفرق، ولا امتصاصهم لثروات شعوبهم وإفقارها حتى الموت. وهل أتاك حديث الإرهاب المستورد والمصنوع خارجيا، بينما تكفي جولة يوم واحد في مدارس وشوارع ومساجد تلك البلدان لترى كيف يولد الإرهاب ويتم تلقينه مع الحليب في رياض الأطفال، والمناهج المدرسية، وخطب المساجد،بل وحتى أحاديث المقاهي. نعم: الفقر والظلم عاملان هامان في نشأة الإرهاب، ولكنهما قطعا ليسا بالعاملين الوحيدين، فهنالك من يديرهما ويقود حركتهما.
الإرهاب ليس صناعة خاصة بمنطقة من العالم أو بعقيدة معينة، فقد مارسه الجميع – دولا وجماعات وأفراد- على اختلاف مشاربهم عبر العصور، فهو نتاج للتطرف، والتطرف نتاج للانغلاق، و الانغلاق نتاج للتجهيل الهادف إلى فصل المجتمع عن العالم وحركته وتطوره، وحجب التفاعل الحضاري مع شعوب العالم بالنظر إلى مستقبل مشترك للإنسانية جمعاء. ينشأ التطرف من البحث عن عالم خاص بالجماعة المعنية التي يلقنها قادتها بأن كل تفاعل مع العالم الخارجي خروج عن الخصوصية والأصالة التي يغلفونها لهم كهوية ممكنة وحيدة لهذا المجتمع في ضوء عدم إمكانية الاندماج مع الآخر والتعايش معه إلا بشروط تلك الجماعة وليس بشروط القواسم والمصلحة المشتركة.
يحكم المجتمع الانغلاقي على الآخرين وفق هويتهم الدينية أو المعتقدية أو الحضارية أو اللغوية، ويبني علاقته بهم قربا أو ابتعادا بناء على تلك المعايير. وتنفرد الأصوليات الدينية (جميعها بلا استثناء) بمحاولة إحياء الماضي وإسقاطه على الحاضر في ضوء عدم وجود رؤية للمستقبل إلا في العالم الآخر. إنها أخيرا، كأية عقيدة سياسية أخرى في العالم، تدور أولا وأخيرا حول السيطرة على الأفراد والجماعات والموارد بمختلف الذرائع، وبوعي أو بدون وعي. وفي مجتمعات التطرف هذه، يسهل توجيه الأفعال وردود الأفعال نحو العنف الأعمى في تقسيم العالم إلى معسكرين، نحن وهم، لا يمكنهما التعايش إلا بالعزلة التامة أو بالقضاء على المعسكر الآخر ووراثة الأرض وما عليها. وقد نجح هذا التيار في الاستئثار بالإعلام العربي بعد إخضاع اليساريين والقوميين المحبطين إلى تياره تحت شعار "العدو المشترك".
في عالم عربي يفترض أنه يعيش في القرن الحادي والعشرين، لا السابع، تمت هزيمة الفكر النهضوي بمجمله، رغم اتفاقنا أو اختلافنا مع هذا الاتجاه أو ذاك، وبات حتى الليبراليون واليساريون والقوميون يسقطون تباعا في فخ الأصولية السياسية الدينية، آخذين في تزييف "نقاط التقاء إستراتيجية" لا وجود لها إلا في مخيلتهم آملين في كسرة من خبزة السلطة التي يدركون بأن المتأسلمين السياسيين سينتزعونها كلية وسط عالم شديد الاستقطاب، وبعد أن فشلوا لعقود في إدارة بلدان استلموها واعدة مبشرة وتركوها مفلسة مدمرة. سيبحثون عن عدو مشترك قد يكون الغرب اليوم والشرق الأقصى غدا، ولا بأس ما دام هنالك عدوا ما يتم "توجيه موارد الأمة" نحوه عوضا عن البناء والتنمية. وهنا لا بد أن نبارك ما يتراكم من جثث الأبرياء، فهم وقود "النضال" اليوم أو غدا، ولا بأس من تبرير القتل اليومي للنفوس والبراءة والحرية، بعد أن نجح الإعلام في تصوير الحقوق والحريات وكأنها صناعات غربية، والماركسية إلحادا، والقومية تخلفا، والديمقراطية فوضى وانحلالا.
تحليل قتل العراقيين جزء من سياسة إعلامية عربية عامة، وقد يكون غيرهم ضحايا زمان ومكان آخرين، ولكنهم كذلك اليوم نظرا للظرف التاريخي العربي والإسلامي و الأمريكي، فلذا لا يجب أن يستغرب المرء الإقبال على "ملحمة الحذاء" والإعراض عن مذبحة كركوك..
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
التعليقات
1 - تحيه وتثنيه
الدكتور علي الشيخ حسين الساعدي
(
2008 / 12 / 21 - 21:53
)
شكرا استاذ سعد على هذه المقاله الرائعه في ادانة الغوغائيه
والبهائميه التي تسود الشارع في غالبية البلدان الناطقه بالعربيه
انا اتاءلم اشد مااتاءلم على هؤلاء الذين يسمون باليساريين
الذين لا يرون في هذا الكون الرائع بكل نتاجات العقل والعمل البشري والذي يخلق ظروفا وشروطا لحياة الناس لم يسبق ان حلم بها احد حتى قبل مئة عام وذالك فقط لان النظام الاقتصادي الاجتماعي هو الراءسماليه
ماذا ترى اليس من الضروري تخصيص بعض من جهود ممتازي كتابنا لاظهار الممياءات الفكريه على حقيقتها المتخلفه والناقضه للتاءريخ ام ترك تلك المومياءات تموت موتا طبيعيا
مع اخلص تمنيات التوفيق والصحه
2 - العامة والشعب
مختار
(
2008 / 12 / 21 - 23:33
)
مقالك دكتور في الصميم. نقطة واحدة لا أتفق معك حولها هي عندما تقول -لقد نجحت حكومات العرب وأبواقها في تحصين جماهيرها وإكسابها المناعة ضد تأثيرات مشاهد الموت المجاني حتى لم تعد تعنيها، خصوصا إذا كان هذا الموت عراقيا-، أنا أعتقد أن أزمتنا ليست في الأنظمة، ولا هي في الاشتراكية ولا في الرأسمالية، بل هي في كوننا لم نرتق بعد إلى مستوى الشعب، وبقينا في مستوى العامة منذ قرون. الناس عندنا عامة يسيطر عليهم رجال الدين وتتملكهم الخرافات وحتى عندما تعطى لهم فرصة الاختيار بين الديمقراطية والحرية من جهة والاستبداد يختارون مباشرة الاستبداد (مثال الجزائر التي أنا منها)، فقد فضل الناس السير وراء الحزاب الإسلامية التي لا تؤمن بالجرية والديمقراطية ، وانساقوا وراء دجالين باسم الدين يكفرون الحرية والديمقراطية، وأدى هذا إلى غرق البلاد في دوامة من العنف الأعمى حصدت عشرات الآلاف. مثالهم الأعلى هو صدام لأنهم صغار يتطلعون إلى من يبسط عليهم جناحه ول كان طاغية. لقد تألموا كثيرا لإعدامه وفقدوه فيه الأب الذي رفع غيابه عنهم غطاء لا يريدون الاستغناء عنه.
3 - مقال رائع
محمد خليل عبد اللطيف
(
2008 / 12 / 21 - 23:36
)
الاستاذ سعد خالص...مقارنة رائعة قد عقدتها...اهنئك من قلبي عليها فعندما يعرض عدنان حمد مائة الف دولار مقابل حذاء الزيدي فانه يغمسه بدماء غزوة مطعم عبد الله...شكرا جزيلا لك
4 - شكرا لك
امجد العراقي
(
2008 / 12 / 22 - 17:35
)
توضيح الحقائق واجب اخلاقي ويجب وضع النقاط على الحروف
.. -هبّة ديموغرافية- للعراق.. لماذا كل هذا الجدل بشأن نتائج ال
.. هل مازال بإمكان سوريا التعويل على إيران وروسيا؟
.. أسبوع حاسم أمام الحكومة الفرنسية يبدأ بالتصويت على مشروع قان
.. هل تعرضت إيران لخدعة من روسيا في سوريا؟ | #التاسعة
.. المعارضة السورية المسلحة تعلن سيطرتها على مدينة تل رفعت الخا