الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فتح الفلسفات على بعضها كلود ليفي ستروس نموذجاً

سامي العباس

2008 / 12 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


يصف ليفي ستروس الجيولوجيا والتحليل النفسي والماركسية بعشيقاته الثلاث .عن الماركسية يقول :"تسير في الطريق ذاته الذي تسير فيه الجيولوجيا والتحليل النفسي ....فهي تبين مثلهما أن الفهم يقوم على رد ّ نمط من الواقع إلى نمط آخر ,وأن الواقع الحقيقي ليس الأوضح بين أنماط الواقع ...كما أن الإشكالية واحدة في جميع هذه الحالات الثلاث ,ألا وهي العلاقة ..بين العقل والإدراك الحسي ..."(1)
يترك هذا المقطع في درب التعرف على موقف ستروس من المدارس الفكرية الثلاثة مساحات معتمة أكثر من المضاءة ..في العبارة رنة استهزاء من ضعف "خلْقي " تعانيه عملية وعي الواقع الذي يقوم بها الدماغ البشري .. رنة السخرية هي صدى للفكرة العامة للبنيوية –وستروس من أبرز ممثليها – يمكن اختصارها بما يلي :ما نعرفه عن العالم الخارجي يأتينا عبر الحواس التي نملكها. .أي أن الخصائص التي تتميز بها ظواهر العالم الخارجي والتي ندركها حسيا, تعود في حقيقة الأمر إلى الطريقة التي تعمل بها حواسنا والتي هي بدورها عائدة إلى الطريقة التي صمم بها الدماغ البشري لجهة تفسيره وتنظيمه للمنبهات الواردة إليه ..هذا يحيل من جهة إلى نسبية تعرفنا على العالم ,ومن جهة أخرى إلى خضوع ثقافتنا للآليات التي تخضع لها عملية الإدراك للطبيعة ,وأهمها ما يتصل بالتنظيم الذي تخضع له عملية نقل المنبهات داخل الدارات العصبية للوصول إلى مراكز فك التشفير واتخاذ القرارات بدءا من جزع الدماغ المحيط بقمة الحبل الشوكي"المخ البدئي" ووصولا إلى القشرة الدماغية الجديدة التي تكون الطبقات العليا من المخ البشري (للتوسع يراجع :دانييل جولمان –الذكاء العاطفي –عالم المعرفة –ص26) .
على سبيل المثال :من صفات عملية التنظيم تجزئة متصل المكان والزمان ..مما يهيئنا للنظر إلى المكان بوصفه عددا هائلا من الأشياء المنفصلة ,وإلى الزمان بوصفه سلسلة من الحوادث المنفصلة ..من هنا فإننا حين نقوم كبشر بإنتاج المواد أو الأفكار نخضع لنفس الآليات التي خضعت لها عملية إدراكنا للطبيعة ..فتأتي ثقافتنا مجزأة ومنظمة على النحو الذي نفترض أنه حال منتجات الطبيعة ..أنظر في هذا الإطار : محاكات منتوجنا الثقافي للطبيعة (كما تدركها الأدمغة البشرية ) مثال ألوان الطيف /الإشارات الضوئية (2)..رنة السخرية الآنفة من الفلسفات الثلاث لكونها منتوج ثقافي يتشارك هذا الضعف
"الخلْقي"..يشبه التقاط ستروس لنقطة الضعف هذه محاولة الوعي لوعي نفسه ..أن نعي وعينا منصة جديدة تفتح أفقا وتغلق متاهات متناثرة على ضفتي المغامرة البشرية في هذا الكون ..
إلاأننا يجب أن نتحرز من موضعة تحفظات ستروس على مصداقية" تعرفنا على الطبيعة كما هي " داخل الخط المثالي للفلسفة , الذي يرى الطبيعة موجودة فقط في إدراك العقول البشرية لها ..وإنما الطبيعة واقع خارجي قائم حقيقة وتحكمه قوانين طبيعية يمكن للإدراك أن ينفذ إليها جزئيا على الأقل ,لأن قدرتنا على الإحاطة بالطبيعة محكومة بطبيعة الجهاز الذي ندركها به ..

• *

يعترف ستروس في الفكر البري بأنه "يشعر بنفسه قريبا جدا من سارتر كلما انكب هذا الأخير ,بما لديه من مهارة لا تضاهى ,على التقاط تجربة اجتماعية راهنة أو سابقة في حركتها الديالكتيكية "(3) يفتح هذا القول على الجذور الماركسية المشتركة لكليهما .إلاأن هذا لايعني تماثل مواقف البنيوية والوجودية ..ينحصر خلاف ستروس مع سارتر على التاريخ :"الأنثربولوجي يحترم التاريخ ,لكنه لايضفي عليه قيمة خاصة .وهو يضعه بمنزلة الدراسة المتممة لدراسته .ففي حين تكشف إحداهما النقاب عن المجتمعات البشرية في الزمان ,تكشف الأخرى النقاب عنها في المكان .والتباين بينهما أقل حدة مما قد يبدو عليه ..."(4) فكل من المؤرخ والأنثربيولوجي يقوما ن بطريقتين مختلفتين بالشيء ذاته وهذا في المحصلة يقود إلى مساحة التكامل التي تتيحها الطرق المختلفة للتقرب المعرفي من الظواهر .."في بعض الأحيان..نجد على صدع خفي نباتين أخضرين من نوعين مختلفين ,وقد انتقى كل منهما التربة التي تلائمه .كما نجد ضمن الصخرة الواحدة صدفتين متحجرتين :التفافات إحداهما أقل تعقيدا من الأخرى .فندرك بلمح البصر أن ذلك يعني اختلافا بآلاف عديدة من السنين .وأن الزمان والمكان يختلطان فجأة .وأن ما في تلك اللحظة من تنوع حيوي يقرب عصرا من عصر ويؤبدهما .."(5)
يضيء المقطع المقتبس اختلاف اهتمام الأنثربيولوجي عن المؤرخ ...ما أثار فضول الأنثربيولوجي ستروس ليس النباتين الأخضرين ,بل الصدفتين المتحجرتين والعلاقة بينهما :كتجريد يلقي ضوءاًعلى الحاضر ,أي على الفارق بين نباتيه الأخضرين .
"إن ما يبتغيه الجيولوجي والمحلل النفساني من التاريخ كما يريانه .وبخلاف المؤرخين ,هو أن يجسد زمنيا-وعلى طريقة المشهد السكوني –خصائص جوهرية معينة في العالم المادي والنفسي"(9).
وتحتل الخصائص الجوهرية موضع الصدارة في أعمال ليفي ستروس لأن ما هو جوهري وكوني في رأيه لابد أن يشكل جوهر طبيعتنا الحقيقية .الطبيعة التي يساعدنا فهمها على أن نصبح أفضل.إلا أن ستروس كصاحب رؤى يتشاطر مع زملائه هؤلاء على تنوع مدارسهم" كعباً" يمكن لسهام النقد أن تخرقه .فهم جميعا يجدون صعوبة بالغة في إدراك العالم الواقعي الذي نراه في كل مكان حولنا . يحجبهم عن ذلك نموذجٌ مصغرٌ لما هو جوهري. يقوم بينهم وبين العالم مقام الفلتر .
ليست الحاجة ماسة لإنفتاح الفلسفات على بعضها إلا لترميم هذا الضعف بطابقيه :
- المتعلق بتكوين الجهاز الذي نعي به الطبيعة
- والمتعلق بالستائر التي تسدلها الأفكار المسبقة على الجهاز إياه.

هامش :
-1-المداران الحزينان-المقطع من الترجمة الإنجليزية ,لندن 1961-ص 61
-2-للتوسع أنظر إدموند ليتش –دراسة فكرية عن شتراوش – ص 21-27وزارة الثقافة السورية
-3- نفس المصدر –ص-12
-4- = = -ص-14
-5- المصدر رقم واحد ص-60
-6- = = ص60-61












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فصل جديد من التوتر بين تركيا وإسرائيل.. والعنوان حرب غزة | #


.. تونس.. مساع لمنع وباء زراعي من إتلاف أشجار التين الشوكي | #م




.. رويترز: لمسات أخيرة على اتفاق أمني سعودي أمريكي| #الظهيرة


.. أوضاع كارثية في رفح.. وخوف من اجتياح إسرائيلي مرتقب




.. واشنطن والرياض.. اتفاقية أمنية قد تُستثنى منها إسرائيل |#غرف