الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تهذيب العولمة

صبحي حديدي

2004 / 3 / 11
العولمة وتطورات العالم المعاصر


في مقالة شهيرة بعنوان "ما يُرى، وما لا يُرى"، روى الإقتصادي والسياسي والكاتب الفرنسي فردريك باستيا الحكاية التالية، ولم يكن يدري أنه إنما يستبطن واحداً من أطرف ـ ولكن أدقّ ـ تعريفات العولمة كما نعيشها في هذه العقود. قال باستيا: لو ألقى صبيّ حجراً على نافذة متجر صغير وكسر الزجاج، فإنّ صاحب المتجر سيخسر ستة فرنكات لإصلاح الزجاج. هذا خبر سيء بالنسبة إليه. ولكن مهلاً! قد يكون خبراً سارّاً تماماً للبعض من مراقبي المشهد، خصوصاً الاقتصاديين. هذا الفعل التدميري أمر مفيد في الواقع: فكّروا في بائع الزجاج الذي سيركّب لوحاً جديداً وسيقبض أجره! فكّروا فيه نفسه وهو يدفع الفرنكات الستة إلى سواه، لينفقها هذا الشخص الثالث، ثمّ ينفقها الرابع، وهكذا... منافع كسر زجاج المتجر لا عدّ لها ولا حصر!
وباستيا روى الحكاية هذه ليميّز بين الاقتصادي الرديء الذي ينظر إلى النتائج القريبة، التي تُرى مباشرة، والاقتصادي الجيّد الذي يستبصر النتائج البعيدة التي لا تُرى إلا بصفة غير مباشرة. ما يُرى في مشهد الصبي وهو يكسر زجاج المتجر ليس سوى انتعاش سلسلة من الصناعات واستفادة حفنة من قابضي الأجور. ما لا يُرى هو ان المواطن صاحب المتجر، والذي وجد نفسه مجبراً على إنفاق ستة فرنكات، سيجد نفسه مضطراً أيضاً لحرمان نفسه من حاجيات أخرى ضرورية كان سيبتاعها بالفرنكات إياها! وفي المحصلة، ثمة صاحب المتجر الذي خسر، وبائع الزجاج الذي ربح.
تبدأ العولمة من اتساع الروابط العالمية، وتنظيم الحياة الإجتماعية على ركائز عالمية أكثر منها محلية، وتنمية الوعي العالمي، وتوطيد ما يسمّى بـ "المجتمع العالمي". وهي تنطوي في آن معاً على انضغاط العالم وعلى تكثيف الوعي بالعالم بوصفه مجموعاً كلّياً، وتسفر عن بلورة أربعة مكوّنات رئيسية لشرط الوجود الإنساني: المجتمعات (أو الدول ـ الأمم)، النظام العالمي، الأفراد (بوصفهم نفوساً)، والبشرية قاطبة. ولأنها سيرورة تربط الوعي وتحرّض على الوعي بالارتباط في آن، تسعى العولمة إلى حلّ الاستقلال الذاتي لأطراف النظام العالمي وأعرافه.
وفي ما يخصّ العواقب الثقافية للعولمة، هنالك نوعان من السيناريوهات. الأوّل، والأكثر شيوعاً، يرى أنّ العولمة تجانس ثقافي جوهرياً، حيث يجري جَرْف المجتمعات ذات الثقافات المتميّزة في فيضانات عولمة البضائع ووسائل الإعلام والأفكار والمؤسسات. وفي عالم يستهلك شطائر الماكدونالد من أقصاه إلى أقصاه، ويرتدي سراويل الـ "جينز"، ويشاهد الـ CNN، ويتحدّث عن حقوق الإنسان، ويعمل على برامج بيل غيتس الكومبيوترية... في عالم كهذا ثمة أخطار كبرى تتهدّد الخصائص الثقافية المحلية. ولأنّ معظم هذه البضائع غربية أو أمريكية، فإنّ العولمة تُرى كظاهرة غربية أو أمريكية حصراً. السيناريو الثاني يتنبأ بالكارثة لأنه يفترض التشظي الثقافي والنزاع ما بين ثقافة وأخرى، وأبرز تنظيراته نظرية صمويل هنتنغتون الشهيرة حول "صراع الحضارات".
وينبغي القول إنّ معظم نظريات العولمة مالت، في البدء، إلى منح الصدارة إلى الثقافة غير الأدبية إذا جاز القول، أي وسائل الإعلام و الميديا بصفة عامة، فضلاً عن التركيز على عناصر العولمة الكلاسيكية (تكنولوجيا المعلومات، رأس المال التمويلي، اضمحلال سيادة الدولة ـ الأمة، صعود القيم الكونية...). ذلك كله جري على حساب دور الأدب. ويبدو أن الحال قد تغيّرت جذرياً في السنوات الأخيرة، وبدا واضحاً أكثر من ذي قبل ذلك التشديد على العلاقة بين العولمة والثقافة (وفي مستوى أضيق: بين العولمة والأدب). فمن ناحية أولى بدت النصوص الأدبية وكأنها تكمل صورة وسيرورة عولمة العالم. ومن ناحية أخرى، ولكن أشدّ أهمية ضمن منطوق العولمة ذاتها، ترسّخ مبدأ الملكية الفكرية وحقوق المؤلف وأخذ يصنع اقتصاداً نشطاً قائماً على سلعة من نوع جديد.
ومن الإنصاف القول إن الأدب، في معترك مثل هذا، لا يبدو وكأنه فقد قدرته على تمثيل مختلف الموضوعات الاجتماعية والنفسية والسياسية ( الأدبية التقليدية في عبارة أخرى)، أو أنّ النضال من أجل نيل أو تطوير أساليب وأجناس جديدة في التعبير قد انحسر أو كلّ أو تراجع. لكنّ الأدب، بوصفه ملكية فكرية، أخذ ينحني أكثر فأكثر لمتطلبات العولمة ولاقتصاد سياسي محدّد خاصّ بقوانين وشروط وسياقات تلك العولمة. وهذا، في الواقع، ليس أمراً باعثاً على الدهشة لأنّ حركة الحداثة ارتبطت منذ انطلاقتها الأولى بالمال والأعمال والاستثمار، على عكس ما قد يرسخ في الأذهان.
وثمة إجماع على أنّ النصوص الأدبية، وسواها من الأعمال الفنية، هي العلامات الأشدّ قوّة في التدليل على عولمة التخييل. وللباحثين عن الهجنة، والتجانس، وامحاء الحدود، وانبناء وعي مترابط في نظام عالمي جديد، وتهذيب القِيَم الكونية، وسوى ذلك من خصائص عولمية... أيّ موقع أفضل وأشمل وأجمل من ذاك الذي توفّره رواية غابرييل غارسيا ماركيز "مائة عام من العزلة" مثلاً؟ ألا يصبح مثل هذا العمل نصاً عالمياً لأنه يحتوي على إطار مرجعية لم يعد يخصّ الدولة ـ الأمة (كولومبيا، في هذه الحال)، بل الكيان الأوسع، القارّة الأعرض، ونظام العالم بوصفه مجموعاً كلياً؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد| اعتراض قذائف أطلقت من جنوب لبنان على مستوطنة كريات شمو


.. حصانة جزئية.. ماذا يعني قرار المحكمة العليا بالنسبة لترمب؟




.. المتحدثة باسم البيت الأبيض تتجاهل سؤال صحفية حول تلقي بايدن


.. اليابان تصدر أوراقا نقدية جديدة تحمل صورا ثلاثية الأبعاد




.. تزايد الطلب على الشوكولا في روسيا رغم ارتفاع سعرها لعدة أضعا