الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الوقت الضائع- للراحل توفيق الحكيم

باسنت موسى

2008 / 12 / 24
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


لحظات الضعف والمرض واحدة من أقسى الفترات التي نمر بها في حياتنا لكنها في ذات الوقت قد تكون محفز إبداعي لأعمق الأفكار، الكتاب محور عرضنا اليوم "في الوقت الضائع" للراحل توفيق الحكيم به عدد من الأفكار التي كتبها أثناء مرضه الأخير أو مرحلة الوقت الإضافي الضائع من حياته كما أطلق عليه هو حيث أنه كان يرى بلغة الكرة أن حياته في الشوط الأخير، وعلى الرغم من أن المنطق يملي عليه أن ينصرف ويغادر الملعب ليقضي وقته المتبقي في نوع من اللعب الذي يختلط فيه الجد بالهزل وينتهي بالإبتسام ليريح نفسه إلا أن القدر ومشيئة الله دفعا به أن ينتهج خطة أخرى لقضاء الوقت الأخير أو الضائع في حياته بين عالم الأفكار والكتابة وذلك عندما دعاه رئيس تحرير الأهرام في ذلك الوقت إبراهيم نافع للإستمرار في الكتابة.

يقول الحكيم أنه كان على صداقة شخصية مع عزرائيل منذ عام 1945 عندما ترك الخدمة في الحكومة وجلس كعاطل على مقهى "ريتز" حيث أنه كان يفكر في حياته ولا يرى لها معنى، ووقتها طلب الحكيم من عزرائيل أن ينهى حياته في أحد الأيام وكان ثلاثاء....وتخيله في شكل رجل بشري ودار بينهم حديث طويل إستخلص منه الحكيم أن عزرائيل ليس صاحب الصورة التي يرسمها لها الغرب كهيكل عظمي حامل لمنجل لحصد أرواح البشر.
فعزرائيل هو في الحقيقة صورة للموظف المجتهد المظلوم... هو العمل المتواصل الذي لا يعرف راحة... هو الجراب الذي يحمل بداخله ما يلقي فيه من لعنات البشر.
العلاقة بين الحكيم والموت كانت دوماً تحمل سر ما، فهي علاقة ممتدة منذ أن كان طفلاًًَ يصاب من حين لأخر بحمى تلزمه الفراش نحو ما يقرب من ثلاثة أيام عندما يقع بصره على جنازة مارة في الطريق، وعندما أدرك أهله هذا كانوا يحرصون على إبعاده عن مناظر الجنازات ولكن بقى سؤال في ذهنه عن ذكريات تلك الطفولة مع الموت وهو "ما هي العلاقة بين شيء خارجي كمنظر جنازة وإصابته السريعة بمرض داخل كالحمى؟ وعندما كبر وقرأ للشاعر "جوته" وجد إجابة في إحدى القصائد التي حكى فيها عن طفل تعلق فجأة بصدر أبيه ليحميه من صوت خفي يعرض عليه هدايا كثيرة ولعب وأزهار كي يذهب معه الطفل، وأعتقد الأب أن حديث طفله عبث أطفال ولم يهتم لكن ما إن بلغ الطفل عتبة البيت حتى فارق الحياة، وبتلك القصة يعتقد الحكيم أن ملك الموت لم يحاول إغرائه وإستدعاءه وهو طفل وإنما فقط إكتفى بأن يشعره بوجوده وهذا الإشعار كان وحده كافي لأن يقعده في الفراش محموماً عدة أيام.

الروح هي الشيء الثابت بإعتقاد الحكيم أما الجسد فهو المتغير، فالإنسان يتغير جسده بتغير مراحل العمر والأشجار تتغير أوراقها بتغير الفصول وحتى ملابس الإنسان تتغير أيضاً بتغير العمر والزمن لكن الروح غير ذلك لا يطالها تغيير مع الزمان أو المكان... الحال متشابه مع الحضارة فمظاهرها المادية تتغير تبعاً للظروف وتغير المكان والزمان لكن روح الحضارة كالشمس تطلق مشاعر وإحساسات قبل أن تظهر وسائلها المادية فهي الإحساس الذي يجعل من الإنسان إنساناً.
هناك مخاوف كانت تواجه الحكيم منها أن يحدث ويتغلب التلقين والحفظ في أمور الدين والدنيا على الفكر، بحيث يثقل الطلاب في المدارس بحفظ الآيات الدينية الطويلة الصعبة الفهم بالنسبة لحجم إدراكهم كصغار مما يؤتي بنتائج عكسية، وعلى رجال الدين أن يتسامحوا مع الأبحاث التي تتحدث عن الدين عن طريق العقل، فملكة العقل لا تنمو إلا بالتفكير الحر لذلك ليترك رجال الدين المفكرين يتحدثون كما يريدون فضجيجهم لن يصل خبره للقلب الذي يخفق رغماً عن كل هذا بالعقيدة.

"إذا أردت أن تكتب اليوم من جديد "عودة الروح" و"عصفور من الشرق" و"أهل الكهف"... كيف تكتبها؟ سؤال وجه للحكيم في باريس ويبدو عليه كما ظن هو أنه سطحي المحتوى لا يهدف سوى للتسلية والفكاهة لكن هذا الظن لم يستمر طويلاًًَ برأس الحكيم فعندما خلا لذاته وتأمل السؤال أجاب مؤكداً أن إفتراض أن يعود لشبابه مرة أخرى ليكتب تلك الروايات من جديد أمر صعب فربما لو عاد للشباب لما حمل القلم بالأساس بل وقد يلجأ لحياة الترف عن حياة الصرامة، خاصة وأن صرامة الفكر لطالما كانت متعبة ومجهدة له لكن ذلك الترف كان حتماً سيرفضه طبعه الذي ولد به ذلك الطبع الذي أهله لرسالة القلم.

سؤال العلم كما حدده الحكيم هو "كيف؟" أما سؤال الفلسفة فهو "لماذا؟" ففي العلم نسأل كيف نعيش؟ في حين أننا في الفلسفة نسأل "لماذا نعيش؟" وهذا السؤال "لماذا؟" يعد من خصائص الإنسان وحده وبغيره لا تقوم الإنسانية، فالحيوان حياته طعام وهواء وغاية الحياة سؤال لا يمكنه الإجابة عليه لقصور وجدانه والعلم هنا لا يمكنه أن يقدم إجابة للحيوان لعجز الآته ومعامل أبحاثه... ولهذا لابد للإنسان أن يشعل نور قلبه ويحرك عضلة عقله ليفتح له الطريق للدين والفن وكل مفردات العالم العلوي الذي لا يعرفه الحيوان ولو تحقق هذا ستكون الفلسفة مقترنة بذات الإنسان مما يجعلها تعيش مهما تقدم العلم لأن الإنسان طوال ما هو إنسان سوف يظل يسأل "لماذا؟".

"ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان، ولكن إلى جانب طعام الفم لابد من طعام الوجدان" عبارة إستهل بها الحكيم الحديث عن "طعام الوجدان" موضحاً أن الإنسان في طفولته بعد أن يترك ثدي أمه يبدأ في الحبو مستخدماً يديه ورجليه ولكن ليس الطفل وحده هو الذي يلعب فصغار الحيوانات تلعب لمعرفة قدراتها العضلية لكن الطفل يفعل ذلك لكي يكتشف الأشياء من حوله، وهذا اللعب في الطفولة هو المنبع الأول للفن الذي يعرف على أنه نشاط ليس مقصده الأكل أو الشرب أو المنفعة المباشرة وإنما الإكتشاف للحياة عن طريق الوجدان.

الوجدان يبقي نائم حتى يهزه الجمال والتناسق في الخلق وهذا يفتح الباب أمام الإنسان للبحث في قوانين الوجود، ويمكن للأم أن تقدم لطفلها ما ينمي وجدانه من خلال عمل فني جميل، المدرسة كذلك يمكنها تنمية وجدان تلاميذها من خلال تزيين الجدران بلوحات جميلة، الدولة عندما تزين ميادينها وحدائقها بروائع فن النحت إنما تدفع بعيون شعبها لأن تتصل دوماً بالجمال مما يجعل المواطنين يحمون بلادهم من التخريب، والدول الغربية الراقية يغذي قادتها شعوبهم وجدانياً من خلال الآثار الفنية الضخمة والجميلة في كل مكان حتى محطات القطار، مما يدفع بتلك الشعوب للحرص على نظافة شوارعها وميادينها العامة وعدم السماح لأحد بأن يخدش هذا الجمال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال رائع
أمير ماركوس ( 2008 / 12 / 23 - 23:30 )
تحية أخرى على عودتكم وعلى فكركم المتدفق


2 - حكمة الحكيم
نور ( 2008 / 12 / 23 - 23:56 )
الاحظ بشدة فى تصرفات توفيق الحكيم وفى كتباتة باشايء عدة لكنى اتوقف كثيرا عند شعورى بالحكمة فى كتباته
ولكنى اظن انهو جلب تلك الحكمة من الكتاب المقدس
حيث اننى الاحظ انهو استخدم كثيرا ايات كثيرة من الكتاب المقدس كمثل ليس بالخبز وحده ولا ننسى ابدا مقاله الجرئ حوار مع الله فلا يشعر اى بنى ادم انه يستطيع بكل بساطة ان يتحدث مع الله فى وقت بكل بساطة فى اى وقت إلا من هم فعلا على درجة حكمة كبيرة وقراءة متفهمة لما فى الكتاب المقدس

اخر الافلام

.. إسرائيل تهدد بحرب واسعة في لبنان وحزب الله يصر على مواصلة ال


.. المنطقة الآمنة لنازحي رفح | #غرفة_الأخبار




.. وثيقة تكشف تفاصيل مقتل الناشطة الإيرانية نيكا شكارامي عام 20


.. تقرير إسباني: سحب الدبابة -أبرامز- من المعارك بسبب مخاوف من




.. السعودية تسعى للتوصل لاتفاقيات شراكة أمنية مع الولايات المتح