الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قرارات حاسمة

المصطفى المغربي

2008 / 12 / 24
الادب والفن


الليلة ليلة الخميس،تهالك على فراشه جنب الزوجة المتعبة ، وقبل أن يداعب النعاس جفنيه،داهمته نفس الأفكار التي كان يطردها كل ليلة والتي كانت تنهمر عليه كلما حاول أن يعطي لوجوده معنى ،في الأول أحس بقسوتها لكنه في الأخير تعايش معها، بل ووجد متعة كبيرة في مناقشتها ، وسار بالنقاش إلى نهايته، وقبل الاستسلام للنوم اتخذ قرارات حاسمة.
غدا لن يذهب إلى العمل، غدا سيغير حياته جذريا، سيستيقظ باكرا، يستحم و يصلي الفجر لأول مرة، و يقرأ ما تيسر من القرآن و يدعو الله أن يغفر له ما تقدم من ذنوبه، ثم يبدأ الاستعداد لصلاة الجمعة الأولى كذلك في حياته.
غدا سيودع ليالي السكر والسهر، غدا سيتصالح مع الله، من الغد لن يعود متأخرا إلى البيت، يذرع الشارع طولا وعرضا، متمايلا ومترنما بأغاني لا يحفظ إلا مقدماتها.من الغد سيعود إلى البيت قبل المغرب، يصلي، ويتعشى مع الأسرة، ثم يحكي للأطفال بعضا من قصص الأنبياء و الصحابة عوض أساطير الأولين، و سيحكي للزوجة بعضا من سيرة أمهات المسلمين عوض القصص الرومانسية و الأشعار، فالشعراء يتبعهم الغاوون.
من الغد سيغض بصره عن نساء حارته و عن زميلاته في العمل، وسيلقي عليهن تحية محتشمة و يعتقل عواطفه حتى ولو كانت صادقة، غدا سيصير إنسانا آخر كي يرضى عنه الرب و يكون له نصيب في الجنة بعدما حرم من خيرات الدنيا.
فجأة وهو يستعرض تلك القرارات، عاودته نفس الأسئلة التي ظل يطرحها منذ أن وعى شيئا من تشابكات هذا العالم المعقد.
ما الله؟أين يختبئ؟لماذا تخلى عنه في كل اللحظات العصيبة؟لم عشاق الله المخلصون كلهم مقهورون و غامضون؟لم بيوت الله ترفل في رونق وجمال ، بينما المدارس التي يتعلم فيها أبناؤه كئيبة وآيلة للسقوط؟لم كل الحكام ، كل الديناصورات يتكلمون باسم الله و لا يتورعون عن القتل و القهر واللصوصية و الطغيان؟
أسئلة كثيرة نزلت على رأسه و أحسها ثقيلة و مستفزة و توشك أن تثنيه عن قراراته.حاول أن يتجاهلها ،لكنها كانت تنغرس في جسده و عقله كضربات السوط . أخيرا اهتدى إلى الخلاص، سينام و غدا مدبرها حكيم.
في الفجر أيقضه صوت الآذان،فالمسجد قريب من بيته،ولطالما اشتكى من ضجته التي تحرمه أعز أوقات النوم. توضأ بسرعة وخرج قاصدا المسجد وهو يلعن الشيطان .
صلى و عاد ،أيقظ الزوجة ،استغربت كثيرا لهذا التحول المفاجئ، و عبرت عن شكها في قدرته على الاستمرار .
تناول الفطور مع الأولاد وودعهم إلى مدارسهم ثم عاد لفراشه يختلس لحظة نوم سرقت منه.
قبل الظهر اغتسل مرة أخرى،لبس الجلباب الأبيض و البلغة الصفراء ،وهما هدية من صديق إثر عودته من الحج، وهو من جعله يعيد النظر في الكثير من عاداته،و يتخذ تلك القرارات الحاسمة. تعطر و مشط وكأنه ذاهب لحفلة راقصة،وأسرع إلى المسجد مبكرا ليفوز بمكان قريب من الإمام،يريد استدراك ما فاته من وعض و إرشاد.
عندما وصل إلى باحة المسجد،جلس في أحد أركانه وأخذ يجول ببصره في أرجائه، يقرأ سور القرآن المنقوشة على جدرانه و يتأمل في الثريات المعلقة في السقف كالمشانق، في لحظة ما أحس أنه غريب، أحس كمن يحضر حفلا بدون دعوة.
عندما بذأ المصلون يتوافدون جماعات، نهض و أخذ له مكانا قريبا من الإمام، لكن أحدا نبهه إلى أن الصفوف الأولى محجوزة. استغرب للأمر،وساورته نفس الأسئلة من جديد، لكنه تجاهلها فهو في حضرة الرب،تراجع قليلا ثم قرر مع نفسه: ربما تكون مخصصة لرجال أتقياء، خصوصا أنه جديد على عالم المساجد.
اقترب وقت الصلاة ،بدأ المسجد يكتظ، و بدأ رجال السلطة و الأعيان يتوافدون و يتخذون أماكنهم في المنطقة المحجوزة و المفروشة بزرابي من الصوف الخالص، بينما فرشت باقي أرضية المسجد بأفرشة بلاستيكية. هذا باشا المدينة و أعوانه اصطفوا خلف الإمام مباشرة، فكر صاحبنا مع نفسه: السلطة و الدين وجهان لعملة واحدة.كان الباشا أنيقا بجلبابه الحريري و بلغته الفاسية و طربوشه الأحمر، ذكره لباس الباشا بما قرأ ذات يوم من أن الجلباب و البلغة تراث روماني دخل إلى البلاد في عهد الإمبراطوريات القديمة قبل مجيء الإسلام و هاهو يتحول إلى لباس إسلامي . وراء الباشا اصطف مستشارو البلدية يتقدمهم عمدتها وبجانبهم المقاولون و المتزلفون و القوادة و السماسرة و كل ناهبي خيرات المدينة.
يعرفهم واحدا واحدا أكثرهم جاؤوا المدينة ذات يوم و هم لا يملكون حتى بيتا للسكن،دخلوا لعبة الكراسي في الانتخابات، فصارت لهم علاقات و مصالح مع رجال السلطة مهدت لهم كل الطرق للنهب و السرقة.
قطع تفكيره صوت مساعد الإمام يدعو الحاضرين لسماع الخطبة، ثم استوي الإمام على منبره وراح يخطب بصوت جهوري قوي، لم يثره موضوع الخطبة إنما أثُاره الخطيب ، إنه يعرفه جيدا ، جاء إلى هذه المدينة منذ بضع سنوات،مدرس بسيط و متفقه في أمور الدين و يعرف من أين تؤكل الكتف، جاء في وقت سطع نجم الإسلاميين، فكانت خطبه تجتذب الناس ، شجعته السلطة وأرشته بعطاءاتها، فصار يجمع ثلاث وظائف: مدرس و إمام و مقاول.
فصار من أعيان المدينة.
كانت الخطبة مملة فهي تتحدث عن الأضحية ومغزاها و مواصفاتها و تلك أمور يعرفها و يعرف أن لا أحد يعمل بها فالأضحية صارت بريستيجا قبل أن تكون عبادة.
تمنى لو أن الخطبة تنتهي بسرعة خصوصا وأن الخطيب يتعمد الإطالة ليثبت جدارته أمام السلطة.
و أخيرا بدأت الصلاة، و انتهت.
فخرج مسرعا من الباب الخلفي و سار إلى بيته و هو يتساءل:
أحقا صليت؟ أحقا تقام الصلاة لوجه الله؟ أحقا هؤلاء أحباب الله؟
و من يومها لم يعد للمسجد و صار يصلي صلاة خاصة به و حده ،كلما أحس بالعالم يضيق في وجهه.

المصطفى المغربي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو


.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس




.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي