الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثوابت والمتغيرات في فكرنا السياسي

أسعد الخفاجي

2004 / 3 / 11
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


مفاهيم العَنَت والعصبية والتزمت والراديكالية والإنضباط هي ثوابت الموقف والسلوك الفردي والإجتماعي في ثقافة المنطقة العربية المعاصرة. يقابلها في الثقافة العالمية متغيرات سلوكية

كالتوفيقية والمرونة والتسامح. أما المبدئية والعقائدية في ثقافتنا المحلية فتقابلها البراغماتية في ثقافتهم! والصراع بين الطبقات ضمن المجتمع الواحد يقابله التضامن الطبقي والتوافق المجتمعي. أما

النزاع بين الشعوب وبين مستعمريها حسب مفهومنا الثقافي المحلي فيقابله في ثقافة المتغيرات في الغرب التعايش والتعاون السلمي والعولمة على جميع المستويات.

وحينما نتحدث عن ثقافة مجتمع ما فإننا نقصد منظومة الظواهر المادية والمعنوية ذات الجذور التاريخية ، التي تشكل ثوابت نسبية في الحياة الإنسانية لذلك المجتمع. وبما أنه لا توجد ثوابت مطلقة في ثقافة المجتمعات ، لذلك نتحدث عن الثوابت النسبية التي تتلبسها الثقافة لحين تجديدها وتطويرها بفعل المتغيرات. وحينما أفاقت مجتمعاتنا العربية على تخوم القرن العشرين بعد إنهيار الإمبراطورية العثمانية ذات الخطاب الديني التقليدي ألفت نفسها بمستواها الثقافي المتواضع إزاء ألق الحضارة العالمية. وكما هو الحال مع الشخص النائم إذا فتح عينيه فجأة أمام مصدر للضوء الساطع. وكانت الحصيلة طبيعية وتخضع لشكل التوزيع الإحصائي إزاء مثل هذه الحالات. أصاب الغالبية من المجتمع في المنطقة نوع من رد الفعل الهستيري لايخلو من (حق) الدفاع عن الثوابت (المقدسة). فإرتفعت أصوات عنيفة تدعو العباد إلى (الحفاظ) الآلي على ماهو موجود من الثقافة ، ومنازعة كل أشكال الحداثة التي تهدف إلى القضاء على الأصالة في ثقافتنا التأريخية. ولم يخل المجتمع ، في الوقت نفسه ، من أصوات تدعو إلى الإستفادة والتفاعل مع المستوى المعاصر من الحضارة العالمية. ومن يومها ، وغلى يومنا هذا ، إشتد الصراع بين هاتين المدرستين الثقافيتين.



الحق أن الحضارة الإنسانية ليست خاصة بأمة من الأمم. ومن التأريخ نتعلم أن الحضارة العالمية هي سلسلة من الحلقات الصغيرة التي هي حصيلة الجهود الخلاقة لجميع المجتمعات البشرية على مر العصور. ولاينكر المنصفون من المؤرخين أن جزءً لا يستهان به من سلسلة الحضارات الإنسانية كان من إبداع مجتمعات منطقتنا العربية ، وفي مقدمتها مجتمع وادي الرافدين في خلال فترة إستمرت آلاف السنين. من هنا يجد (المحافظون) على ثوابتنا الثقافية تبريراتهم في نبذ الحلقات الثقافية التي (جاءت) إلى سلسلة الحضارة بعد أن أصاب مجتمعاتنا سبات القرون الوسطى ومابعدها! لقد ترجم هؤلاء الثوابتيون الإضافات الإنسانية التي إكتشفوها في سلسلة الحضارة الإنسانية بعد النهوض من رقدتهم الطويلة على أنها محاولات (غربية) لتخريب (الإصالة) الشرقية. ومن الأسئلة التي تُطرح على هؤلاء المثقفين المحافظين بإستمرار: لماذا تلزمنا ثوابت نوعية لكي تزدهر ثقافتنا الوطنية إذا كانت هناك متغيرات عالمية أعم وأشمل؟ بعبارة أخرى لماذا يسعى هؤلاء إلى إستئصال الحلقات الثقافية (الغريبة) التي أضافتها الإنسانية من جميع المجتمعات بتعاقب الأجيال إلى تلك السلسلة الإنسانية؟ لماذا يحاولون العودة بنا إلى مستوى الثقافة الذي (بارحناه) خلال إغترابنا الحضاري؟ لِمَ نعيد الكرّة في خلق حلقات ثقافية جديدة (نسد) من خلالها الفجوة الحضارية التي مانزال نقبع فيها؟ ألا يمكن الإستفادة من موجود الخزين الحضاري البشري كي نستكمل به (نقصنا) الثقافي؟



ولأجل العودة إلى جدلية الموازنة بين الثوابت والمتغيرات في الثقافة ، لابد من الإشارة بداية إلى حقيقة ناصعة وهي أن الثابت أكثر لصوقاً بالسكون وتبعية للجمود من المتغير. إضافة إلى أن الثابت ، كونه أسير حالة ساكنة غير متحركة ، يعد في مردوداته ووظائفه الإجتماعية أقل نفعاً للناس وللتطور الحضاري من المتغير. فالثوابت بعكس المتغيرات عقيمة وعاجزة لأنها ترفض أي نشاط أو فعل يفضي إلى تغيير الحال وتطويره. وفي الوقت الذي تكون الثوابت فيه أسيرة الركود والجمود والرتابة ، تتسم المتغيرات بالمرونة والتأقلم والقابلية على الحركة والتقدم. بعبارة أخرى: بالمتغيرات وحدها ، لا بالثوابت ، تتطور المجتمعات وتتقدم الأمم. ومتما أَلبست الثقافة حلة جامدة وإتخذت لها برنامج عمل قائماً على الثوابت والنصوص الساكنة ، أصيبت بلا شك بوهن يشل حركتها ومسيرتها ويعرقل تطورها. على الضد من ذلك ، تكتسب الثقافة القوة والديمومة والدينامية في حالة إعتمادها المتغيرات أسلوباً ومدخلاً لعملها سواء أكان على الصعيد التكتيكي اللوجستي أو الإستراتيجي.



نقرأ في صفحات التأريخ أن جذور الحضارة الإنسانية مغروسة في منطقتنا العربية الغنية بالموارد والتقاليد التليدة والفكر الإنساني الأصيل. وإذا ما حاول مثقفونا الإستفادة من معين الحضارات الإنسانية التي تلت حضارتنا ، لاسيما الحضارة الغربية المعاصرة لأكتسبت جهودنا الثقافية فرصة ذهبية مضاعفة. أولاهما مزية الإستناد إلى أقدم حلقتين من سلسلة الحضارة الإنسانية ألا وهما حضارة وادي الرافدين وحضارة حوض النيل. وثانيهما الإستفادة من المتغيرات الثقافية والنتائج المعرفية الأخرى في حلقات الحضارات الإنسانية الأحدث. ومن تكامل الرصيدين الحضاريين المتاحين يمكن لمجتمعات المنطقة العربية ، إذا أرادت ، أن تلحق بالركب الحضاري الإنساني الصاعد لتكون طرفاً فاعلاً بل ومتميزاً في مسيرة الحضارة الإنسانية الكوكبية! على أن تلك الفرصة تستلزم من المثقفين ومتلقي الثقافة في منطقتنا العربية إستيعاب عملية التغير الدينامي وإتقان مهارة تطويع المتغيرات لإيجاد الظروف الذاتية والموضوعية لجني ثمار الحضارة النوعية المتميزة لمنطقتنا العربية. كذلك يتعين توفر الشروط الملائمة والمناخ الصحي لإسناد المثقفين وتطوير العملية الثقافية ، مثل خلق الأجواء المتسامحة غير المتشنجة التي تقوم على أساس حسن النية والثقة التامة ، أجواء تمنح الآخر الحق في إبداء ما يتبناه من خطاب فكري متجدد (غير مألوف) دون أن تتهدده العوامل السلبية القائمة على سوء الظن ، وألا ينظر إلى أطروحاته الفكرية ، مهما أتسمت بالغرابة والإختلاف والإبتعاد عن النصوص التقليدية بأنها حيود عن الثوابت (القومية) و (الدينية) و (الوطنية) ، ولا تعطى لها تفسيرات قائمة على نظريات المؤامرة والتسقيط والتكفير. لقد برهنت الأيام على أن إعتماد منهج الديمقراطية والتعددية هو المناخ الأضمن لإزدهار الثقافة وتطورها السليم بإتجاه المستوى الحضاري العالمي ، دون التعرض إلى نكسات وردات فعل إجتماعية كالتطير من (الجديد) المختلف أو التعرض إلى ما يسمى بالصدمة الحضارية مثلاً.



وليس ما حدث في البلاد الغربية ببعيد عن هذه الإشكالية ، حيث كانت الأفكار التي تتبنى منهج التغير والتطور حتى بدايات القرن التاسع عشر مكبلة تحت سطوة الثوابت الإقطاعية المحافظة والنصوص الكنسية (المقدسة). ولم يكتب لتلك الأفكار المتجددة النجاح والإزدهار إلا بعد التحرر الإجتماعي التام من الثوابت الإجتماعية والنصوص الدينية ، وبعد أن أَرسيت دعائم الديمقراطية. وكان المفكرون الغربيون قد كابدوا الأمرين ، لقرون خوال ، وهم يتعرضون إلى عنت السلطة وقشرتها الفكرية ، ويناضلون من أجل إنتصار الديمقراطية في بلدانهم. وفي واقع الحال لم يوجد مثقف واحد من هؤلاء في خلال تلك الحقبة التأريخية إلا وكان في داخله كابح (تقليدي) يؤرقه ويمنعه من إبداء آرائه المتجددة بصراحة ، إما بسبب جمود البيئة الإجتماعية أو عسف وتسلط النخبة السياسية ذات المصالح الأنانية أو ـ وليس بمعزل عن هذا ـ تخلف الفكر التيولوجي الذي تحمله الكنيسة. وظلت تلك الأفكار المختلفة والإبداعات الثقافية الخلاقة سجينة عهدها ، وكان المثقفون على الدوام مهددين بالخطر الذي مصدره السلطة والطبقات المتحالفة أو الخاضعة لها ، الأمر الذي إنتهى بدوامة جمود الفكر وموت الثقافة لقرون طويلة. وتعد الحرية الثقافية وقبول المتغيرات في المناهج الفكرية ، إلى جانب المنهج التعددي في التفكير من مستلزمات وأولويات النهضة الثقافية التي نريد بها لعراقنا الجديد ـ نموذجاً للمنطقة ككل ـ أن يدخل عصر الحداثة والعالمية والشفافة. ومن الواضح أن جميع الإنجازات الحضارية الكوكبية التي نشاهدها اليوم والتطوّر الهائل في المجال الثقافي إنما هو ثمرة إنتعاش الديمقراطية وإنحسار الإضطهاد الفكري وهيمنة الثوابت والنصوص. ولو نظرنا في هذه اللحظة الراهنة إلى العراق الذي يولد فيه الإتجاه الديمقراطي التعددي المتسامح ، بعد عهود من الإستبداد السياسي والكبت الفكري والجمود الثقافي لألفينا علامات النهضة الثقافية بادية في الأفق القريب. إن النهضة الثقافية العراقية الجديدة قادمة لامحالة! وأول ما نشاهده في تلك النهضة ثورة شاملة تتفجر على قشرة الثوابت الجامدة التي رزحت ضمن قيودها ثقافتنا العراقية طيلة تلك العهود المظلمة.



من جانب آخر نعلم أن المجتمع الأمريكي القائم على أسس الحضارة المسيحية ، المفعمة (أصلاً) بالثوابت الثقافية ونصوص التقاليد ، لم يكن بإستطاعته أن يتبوأ المركز الأول الحالي في ركب الحضارة الإنسانية العالمية لو أنه ظل حبيس ثقافته المسيحية التقليدية ، متمسكاً بالثوابت الدينية المذكورة في الكتاب المقدس على شكل نصوص جامدة لم تعد تصلح للقرن الحادي والعشرين. وكما هو معلوم فإن المرأة ، على سبيل المثال ، محجّمة الشخصية ، غير متساوية بأخيها الرجل بحسب تلك الثوابت والنصوص البايبلية العتيدة ، بينما ، في واقع الحال ، نجدها في المجتمع الأمريكي الحديث تتمتع بأقصى حدود التحرر والمساواة التامة بالرجل! ولم تعد المرأة الأمريكية تدري أن الكتاب المقدس يعدها مواطناً من الدرجة الثانية! وحسبما تعلمنا مناهجنا الدينية المدرسية ، فإن القرآن الكريم هو الآخر يبيح مبدأ التغيير و يعتمد منهج التحديث ، حيث أنه على مدى زمني يساوي الفترة الرسالية المحمدية نقرأ السور المدنية والسور المكية التي فيها من المبادئ والتعاليم والآيات ماينسخ (أي يغيّر ويحدّث) بعضه البعض. من هنا يتضح لنا أن منهج الإجتهاد والتحديث وإعتماد المتغيرات بدلاً عن الإلتزام الصارم بالثوابت والنصوص هو العنصر الأساسي الذي أهّل الأديان وغيرها من المناهج المجتمعية للحياة وتجاوز الإختناقات والإلتحاق بركب الحضارة والتطور نحو الأفضل. وفي التسعينيات قرأت مقالاً يبين مسار تغيّر الخطاب السياسي لأحد الأحزاب السياسية الماركسية في أوربا الشرقية. فبعد أن كان ذلك الحزب لمدة أربعين عاماً يضع له الدكتاتورية منهجاً ثابتاً وغاية نهائية للمجتمع الذي يراد له أن تختفي فيه جميع صور الإستغلال الإنساني ، أضحى اليوم يؤمن بالديمقراطية المجتمعية الشاملة ، ويتخذ له منهجاً لايسمح بتسلط طبقة إجتماعية على أخرى ، بغض النظر عن موقعها من العملية الإنتاجية ، تجاوباً مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يضمن الديمقراطية للجميع! حقاً لقد أثبت الواقع العالمي أن منهج الديكتاتورية التي تمارسها طبقة ضد أخرى ، أياً كانت الدوافع والمسوغات ، هو من الثوابت العقيمة ، ولا بد أن يستبدل بمتغير الديمقراطية الكاملة التي تشمل الجميع. كذلك فأن ثوابت الضبط الحديدي والمركزية والطاعة العمياء للمافوق قد برهنت التجارب على عقمها ، هي الأخرى ، لأنها ثوابت جامدة أكل عليها الدهر وشرب ، وليس متغيرات متجددة ذات دينامية قادرة على ضمان التطور الإجتماعي الحقيقي.



وفي الختام نشير إلى أن بلداً فقيراً متخلفاً تأكل أبناءه الحروب والمجاعة والجهل والمرض ، ونعني السودان ، قد لاحت له أخيراً تباشير الأمان الإجتماعي والإستقرار السياسي بعد أن تنازل حكامه في نهاية المطاف عما كانوا يسمونها بالثوابت القومية ، ووافقوا على إشراك مواطنيهم في الجنوب بالثروات الوطنية! ومن أمثلة العدول عن الثوابت الضارة ما سمعناه عن حاكم عربي ترجل للتو عن فرس الثوابت النارية ، ويبدو أنه يريد التخلص أخيراً من عقدة الثورة الدائمة والإنتقال إلى متغيراته الجديدة المقبولة دولياً بعدما باح للأجنبي بأسراره القومية وتنصل عن ثوابته القومية التي أثقلت كاهل شعبه لمدة ثلاثة عقود!. كذلك فأن هناك بعض الدلالات على تخلي إيران الإسلامية بعد عقدين عقيمين عن نواياها (الثابتة) في مجابهة الشيطان الأكبر والتنازل عن (بغلة) الثوابت المقدسة. ومن يعلم فقد يتغير الخطاب الثقافي لبعض الذين ينشدون رحيل الإحتلال وإستعادة (الأرض السليبة) في يوماً ما ، إذا هم إقتنعوا بأن الزمن لم يعد يصلح لثوابتهم (القومية العتيدة) غير المثمرة ، وعسى أن يقودهم تكتيك المواءمة مع زخم المتغيرات الدولية الجديدة إلى نتيجة أفضل وأكثر جدوى من إستراتيجية الجلوس في الخنادق لخمسين عاماً أخرى بإنتظار الحلم الأكبر وإستعادة "كامل التراب" من النهر إلى البحر وإعادة ملايين المغتصبين إلى بلدانهم الأصلية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -غادرنا القطاع بالدموع-.. طبيب أمريكي يروي لشبكتنا تجربته في


.. مكتب نتنياهو: الحرب لن تنتهي إلا بعد القضاء على قدرات حماس ع




.. وزير الخارجية السعودي يتلقى اتصالًا هاتفيًا من نظيره الأميرك


.. حرب غزة: بنود الخطة الإسرائيلية




.. الجيش الأميركي: الحوثيون أطلقوا صاروخين ومسيّرات من اليمن |