الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدكتاتور القادم المستقبل الماضي

حمزة الحسن

2008 / 12 / 25
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


الافراط في رثاء الواقع هو عجز معرفي عن وصفه والثقافة السياسية السائدة اليوم هي ثقافة تأويل أكثر منها ثقافة تفكيك وتحليل ووصف، وحين تصبح ثقافة المراثي السياسية وبكاء الحاضر هي السائدة، فهذا يعني اننا في الطريق الى مستقبل بلا ملامح وضبابي ومجهول.


بكاء الحاضر يمكن ان يكون مهمة الثكالى وزوار القبور والمشارح والمآتم وليست مهمة الكتابة المعرفة الاستشرافية والاستباقية: من قال ان المستقبل في رحم الغيب؟
المستقبل هو خطواتنا اليوم، كل ما نحلم به ، ونتوهمه، ونتمناه.
اليوم هناك علم يدرس اسمه : علم المستقبل.

بدل الهروب من خلال شتم الحاضر، لماذا لا نواجه الحقائق القادمة المهملة مثل كل المعضلات الصعبة قبل أن تنفجر في أوقات وأزمنة غبر مناسبة وبعد أن يصبح الخطر أكبر من القدرة على الحل؟

الافراط في شتم الماضي والحاضر، في لعن الدكتاتورية وغيرها، لا يلغي الكثير من الحقائق الصلبة القادمة التي تنمو في هدوء وسرية وكتمان وتنخر القادم من الايام.

الدكتاتورية ليست شخصا بل عقلية، ليست مؤسسة اقتصادية وسياسية واجتماعية بل ذهنية ونمط تفكير وطريقة تعامل واسلوب حياة. ليس لعن الدكتاتورية يعني الوقوف على الطرف الاخر من الحرية والانفتاح والوضوح والمحبة.

لماذا يميل العقل العراقي ـ والمشرقي عموما ـ الى الهيام في لعن الحاضر والماضي والهروب من مواجهة المستقبل؟ لماذا لا يقترب من وصف الحاضر وتحليله وشرحه ويكتفي بالشتم والمراثي والبكاء؟

السبب لأنه عقل صوري اخباري، شعاراتي، يقرأ الاعلان والصورة القائمة، اي انه عقل بصري يقوم على الرؤية لا الرؤيا، عقل مؤسس على المرئي لا على المختفي. هذه خاصية العقل" المستقيل".

لا توجد حقيقة في الحياة مرئية. لم يعثر أحد في العالم على حقيقة في الطريق. طبيعة الحقيقة انها تميل الى الاختفاء لذلك فهي تكتشف: الحقيقة اكتشاف. الحقائق الجاهزة سجن يصنعه الانسان من اجل الشعور بالطمأنينة الزائفة.


العقل الصوري، عقل المراثي، عقل التأويل، العقل البصري، هو تنازل الكائن البشري عن القدرة الانسانية الخلاقة في رؤية المستتر والمخبوء وغير المرئي.
المستقبل هو حقائق مخفية، غير مكتشفة، مخبوءة.

في مواجهة كل تحديات اللحظة الراهنة، الاحتلال والارهاب وفقدان السلم الاهلي، هناك كارثة قادمة تضيع بين هذا الكم الهائل من المقالات والمراثي والاخبار والحوادث اليومية: هذه الكارثة كما تؤكد تقارير دولية موثوقة وحتى تقارير المؤسسة الحاكمة اليوم هي ان عدد اليتامى وصل الى أكثر من خمسة ملايين.

كابوس يثقل الصدر حين أفكر في المستقبل ورسم ملامحه واكتشاف دروبه حين أصل الى هذا الرقم المتحرك كأفعى قاتلة تزحف في عشب الايام، تزحف بهدوء وكتمان وسرية داخل غابات العجز والبلادة وثقافة المراثي والوصم.

في المستقبل القريب سنكون في مواجهة خمسة ملايين مشروع دكتاتور.
طبعة منقحة ومزيدة ومحسنة ستخرج علينا في القادم من الايام ليس حتما نسخة طبق الاصل.

دكتاتورنا القادم ـ ومن معه ـ هو ايضا جريح العائلة والمجتمع والقبيلة والحزب وفكرة" الانقلاب" والسخط على المجتمع، وهوس" التغيير".

هو أيضا خريج سجون أو اصلاحيات ان وجدت وابن شارع وعقلية قلب الكراسي في المقهى ومداهمة بيوت الناس في أسرتهم من أجل الحصول على شهادة وجود لذات ملغية ومحذوفة ومحتقرة.

هو ايضا ـ من معه ـ جريح ذاكرة وسلطة ومجتمع.
هو أيضا يقرأ ويكتب ـ كغيره ـ ولا يستطيع أن يكون نبيا في مجتمع مسلح وعنفي وتراتبي مؤسس كالدولة العراقية منذ التأسيس وحتى اليوم على نظام" العزل" والتراتبية الاجتماعية في المعايير وفي بناء الضواحي والعمل.

نظام" العزل" الاجتماعي العراقي يمنح فرضة استثنائية لولادة الدكتاتور أو المؤسسة الفاسدة: هذا النظام يزرع عقد التشفي والانتقام ومشاعر الاهمال والاحتقار ويلغي المواطن في الدولة ويحل محله المواطن في وظيفة، في شريحة، في عشيرة، في حزب.
هذا هو السبب الرئيس الذي جعل الكثير من ابناء الطوائف الدينية والعرقية والقومية المهمشة والخائفة كاليهود العراقيين والصابئة يلجأون الى البحث عن انتماءات حزبية احتجاجا أولا على غياب الدولة الأمة، الدولة العادلة، وثانيا البحث عن غطاء حماية أكبر في دولة العزل السياسي والاجتماعي والاخلاقي.

ونظام العزل قائم وموجود حتى في صفوف النخبة" المثقفة" المتباهية بالاصول العائلية والطبقية والثقافية وكل امتيازات التراتبية أو امتيازات الفصل الاجتماعي.

التراتبية اليوم أكثر حدة وقوة من الأمس في وجود الهرم الكهنوتي المسيطر. شكل جديد من اشكال الهيمنة الايديولوجية: قدرنا منذ عشرات القرون ان نحتاج الى وصاية ورعاية وحماية مؤسسة أكبر لأن كل هذه القرون لم تبلغ بنا سن الرشد ومازلنا في حاجة الى وصاية/ حماية/ رعاية/ وهي عناصر الحياة البدائية الاولى.

الدكتاتور لا يأتي الا اذا استدعيناه، بتعبير الروائي ماريا فارغاس يوسا مؤلف رواية" حفلة التيس" التفكيك والتحليل والوصف المذهل للدكتاتورية في امريكا اللاتينية.

أمامنا خمسة ملايين منهم ـ لن نتحدث عن ضحايا الحروب والتعذيب والتهميش فهؤلاء يشكلون جيشا خاصا في انتظار لحظة قادمة.

المؤسسة الدكتاتورية القادمة ستخرج علينا يوما من أكواخ وضواحي العزل ومقاهي المنبوذين والمحتقرين.

وستنتقم ، كما فعل الدكتاتور السابق، وتعيد بناء صورة المجتمع على شاكلتها: تقلب التراتبية القائمة وتبني هويات مغايرة وتفتح نفقا جديدا من الدم والانتقام في حين نغرق اليوم في لعن الماضي ووصم الحاضر والتعليق على نشرات الاخبار.














التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا جرى في «مفاوضات الهدنة»؟| #الظهير


.. مخاوف من اتساع الحرب.. تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل| #




.. في غضون أسبوع.. نتنياهو يخشى -أمر- الجنائية الدولية باعتقاله


.. هل تشعل فرنسا حربا نووية لمواجهة موسكو؟ | #الظهيرة




.. متحدث الخارجية القطرية لهآرتس: الاتفاق بحاجة لمزيد من التناز