الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على هامش -ملتقى الحوار الثقافي العربي الألماني- حول دور المثقف في عالمنا اليوم

ناجح شاهين

2008 / 12 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


ضمن فعاليات "ملتقى الحوار الثقافي العربي الألماني" المنعقد في دبي في يومي 26 و 27 من تشرين ثاني حملت احدى الجلسات عنواناً لافتاً هو "دور المثقف في عالمنا اليوم". وقد استضافت الفعالية ثلاثة من أعلام الفكر: اثنان منهم من العرب هما، محمد عابد الجابري وفهمي هويدي، وواحد ألماني هو أدولف موشج. وما يعنينا هنا هو معالجة أطروحات المفكرين العربيين بسبب حرصنا على عدم تشتيت انتباه القارئ عن محتوى ما قدمه الأستاذان العربيان الغنيان عن كل تعريف. لكننا قبل أن نشرع في قراءة متأنية قليلا لمحتوى ما قدماه نرغب في تقديم بعض الملاحظات الأولية.
لعل أول ما يشد الانتباه هو أن المفكرين –وبالقياس للمدارس الفكرية وما بينها من مسافات شاسعة- هما في الحقيقة من مدرسة واحدة: انها مدرسة الإسلام الليبرالي أو قل الاسلام النقدي. وعلى الرغم من المكانة البارزة التي يتمتع بها الرجلان فإنهما في الحقيقة لا يمثلان خياراً نموذجياً للتصدي لعنوان يتعلق بعالم اليوم، كون كلاً منهما انجز مشروعه الفكري منذ زمن بعيد يسبق اللحظة الجديدة اذا كان هناك من لحظة راهنة يمكن وصفها بالجدة الكاملة. النقطة الثالثة هي أن المفكرين ينطلقان من رؤية استاتيكية للواقع ولتعريف المثقف وتتصف بطابع جوهراني لا يرى الى المصطلح في مراوغته وجريانه وسيولته التي تجعله مصطلحاً نسبياً واديولوجياً بكل ما تثيره الكلمات من تداعيات. لكن دعنا نتوقف عن الخوض في العموميات ولننتقل الى تشريح أكثر تقصيلاً لمحتوى اطروحات المفكرين.
انطلق فهمي هويدي من مقدمة أن الإنسان مكلف في الإسلام، ليصل الى أن ذلك نيطبق على المثقف أكثر، ولكنه لم يلبث أن وسع الفكرة ليعطي للمثقف وصف قائد التغيير وطليعته المتقدمة. كذلك بين كيف أن المثقف في الدول الأوروبية ينعم بالقيام بدوره دون ضغوط. لا بد لنا من التوقف عند هذه الأفكار.
أن يكون المثقف أول من يلتقط رسائل المستقبل هو أمر معقول فيما نظن، باعتبار أنه متفرغ أساسا لهذا النوع من النشاط، وأما أنه يتقدم الصفوف من أجل قلب الأوضاع القائمة فهو أمر يحتاج الى تمحيص. اذ ما الذي سيجعل المثقف مؤهلاً للقيام بهذه المهمة؟ أليس المثقف متكئا كلية على جهة تمهد له الظروف لنشر افكاره؟ بلى، وذلك يعني أمرين في آن: أولاً انه مضطر الى مخاطبة من يملك التدريب الكافي لتلقي مستوى عاليا نسبيا من الخطاب، وثانياً انه مضطر الى تقديم خطاب يمر عبر مصافي من يملك السيطرة على حوامل وأدوات نشر الثقافة من كتاب وصحيفة وتلفاز. من الواضح أن شريحة مجتمعية معينة قد تكون الحكومة بالذات أو السلطان أو من في مقامه أو حتى شرائح تملك القوة الاقتصادية هي من يتحكم في الممرات التي تسمح للثقافة بالنفاذ ناهيك عن دفع أجر للمثقف لقاء "أتعابه". ليس غريباً أن المثقف في الإعم الأغلب ارتبط ببلاط السلطان وأدى دور صانع الاديولوجيا المحافظة. أي أنه أدى عكس الدور الذي ينوطه به فهمي هويدي.
المثقف الحديث بدا أكثر انفلاتاً من شرطه السابق. فقد سمحت أدوات الثقافة الجمعية الحديثة من مطبعة وأجهزة مسموعة ومرئية بأن يصبح خطابه موجهاً بشكل أكبر لجمهور أوسع من ذي قبل. لكننا نتوهم أن هذا التوسع قد تعرض لانتكاسة خطيرة في العقود الأخيرة بسبب تحكم من يملك المال على نطاق أوسع من ذي قبل في النشر الفعال لمنتجات الثقافة. وهو أمر وان يكن لا يغلق الطريق بالكامل أمام عمل المثقف الا أنه يضعه تحت رحمة من يحتكر سوق الثقافة والاعلام، فاما أن يريضيهم واما أن ينتج بضاعة لا يتمكن من ترويجها؛ فلا هو يتلقى أجرا على ما يعمل يقيم به أوده، ولا هو ينتشر بين الناس بحيث يصبح قوة مادية تقود الى خلخلة الثقافة السائدة. ينطبق تحليلنا السابق اشد الانطباق على ما يعرف بالدول الديموقراطية التي تخلو شكليا من الرقابة على النشر في حين أن كل مؤسسة تعمل على ضوء رقابة ذاتية تتسق مع مصلحة من يملك ومن يحكم. لا شك ان عمل المثقف مرتبط بمصالح معينة كما علمنا التراث النقدي الانساني. وليس الظن بخلو المنتج الثقافي من الاديولوجيا الا امنيات طيبة في أحسن الأحوال.
بعد ذلك يشرح هويدي الواقع العربي فيجد ما يمكن أن أسميه بصراع جوهري نابع من التزام فريق بأسس الثقافة الغربية، وبالتالي كونه امتدادا لها، بينما يرتكز الفريق الثاني على ماضيه العربي الإسلامي ويستقل عن الآخر الغربي. نحن نظن أن الممارسة الثقافية العربية في اللحظة المعاصرة وضمن هذا الفهم انما تفتقر الى الاستقلالية في كلا الحالين. وهي بهذا المعنى في حاجة الى فك الارتباط اما مكانيا بالآخر الغربي وأما زمانيا بالماضي. لكننا في واقع الحال نذهب الى أعمق من ذلك لنقترح أن "اشكالية" الثقافة المعاصرة محكومة في اساس تكوينها بالآخر الغربي اما بوصفها امتداداً له مثلما هو حال المغربين واما بوصفها رد فعل يقوم بنفي مقولات الآخر تعسفاً لكي يتظاهر باختلافه عنها، بينما هو في الواقع انما يقوم باعادة انتاجها مقلوبة على رأسها. فهل يفعل الجابري شيئاً مختلفاً؟ لنفحص ذلك.
ينخرط الجابري في مناقشة مستفيضة لنشأة مصطلح المثقف بدءاً من بيان المثقفين الفرنسيين في اخر القرن التاسع عشر -تعقيبا على قضية دريفوس- وانتهاء بمنجزات البنيوية وما بعدها. ما يغيب عن الجابري أن التعريف ليس جوهرياً في هذا المضمار وانما الممارسة. وغني عن البيان أن انتاج تعريف المثقف هو ممارسة اديولوجية بامتياز. ولكن الجابري يصر على أن المثقف هو منافح أصيل عن الحقيقة. واذا كنا نعلم علم اليقين أن الجابري، وهو من هو، لا يمكن أن يجهل كيف توظف المؤسسات العملاقة المثقفين في هذا الزمان بوصفهم بروليتاريين يبيعون عرق "أدمغتهم"، فإنه لا يبقى لدينا من مناص للاستنتاج بأنه انما ينتج تعريفه الاديولوجي للثقافة. يخبرنا الجابري في ثنايا المناقشة التي تلت تقديمه لورقته أنه يعمل لدى الحكومة ولكنه مع ذلك يخدم الشعب. وبودنا أن نسأل مفكرنا الكبير هل تتطابق مصالح الحاكم والمحكوم في كل الأوقات؟ واذا حصل تناقض بينهما فهل ستواصل الحكومة دفع مستحقاته المالية لقاء عمله أم أنها على الأقل سوف تقوم بالاستغناء عن خدماته ان لم تذهب أبعد من ذلك؟
من ناحية أخرى ينتج الجابري فيما يخص الماضي نسخة شبيهة بنسخة هويدي المتعلقة بالحاضر. هنا وعلى طريقة أدونيس سوف تعلق المصائب كلها على شماعة الغزالي الذي كان بحسب رأي الرجلين مثقفاً قمعياً بامتياز، بينما يظهر ابن رشد بوصفه رافع لواء الحق والحرية والتغيير. لكن فحصاً أعمق لفكر الفيلسوفين العظيمين الغزالي وابن رشد يثبت أنهما على الرغم من الاختلاف والخلاف الكبيرين، فإنهما في الواقع أنتجا ثقافة تعتمد نفس المرجعية ونعني بها خدمة الارستقراطية العربية الحاكمة. وهذا يفسر الاتفاق الغريب بين الرجلين على استبعاد جمهور الناس البسطاء. الغزالي كان يتحرق شوقاً الى "الجام العوام عن الكلام" وابن رشد كان مسكونا بهاجس ابعاد العامة عن علوم الخاصة.
نستنتج مما سبق أن الجابري لا ينجح في تقديم ما يختلف عن هويدي. وذلك يعود الى توهم الرجلين أن المفكر/المثقف منفلت من شروطه التاريخية، وهو أمر غريب بالفعل بعد أن أضاف كثير من الباحثين والفلاسفة مقداراً هائلاً من المعرفة التي تستبصر شروط انتاج المعرفة من قبيل الجهود الكلاسيكية كجهود كارل منهايم وسارتر والجهود الأحدث –أو ما بعد الحداثية- مثل جهود ليوتار وفوكو. ان حالة من "الهارمونيتيكا" تحكم انتاج الثقافة/المعرفة وتجعل من ينتج المعرفة أصلاً أحد منتجاتها. ذلك في الحقيقة ما دفع فوكو –مثلا- الى القول بامتناع التغيير. واذا كنا هنا نتفق مع الرجل في صعوبة التغيير المرتكز على الثقافة بسبب المحاذير التي يتوسع فيها باقتدار، فاننا نختلف معه مثلما نختلف مع المفكرين الكبيرين الجابري وهويدي، لأننا نظن أن الاختراق يظل ممكناً شريطة أن توجد حاضنة اجتماعية تشكل الكتلة الأضخم من جبل الجليد الذي يطفو جزءه الصغير فحسب على السطح مشكلاً الممارسة الثقافية المعبرة عن اتجاهات ومصالح تلك الحاضنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شيرو وشهد يختبران مدى التوافق بين عمار وريم ????


.. بحثا عن غذاء صحي.. هل المنتجات العضوية هي الحل؟ • فرانس 24 /




.. خروج مستشفى الأهلي المعمداني عن الخدمة بعد العملية الإسرائيل


.. إسرائيل قطعت خدمات الاتصالات على قطاع غزة منذ نهاية شهر أكتو




.. أمهات المحتجزين الإسرائيليين ينظمن مسيرة في الكنيست