الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زينب

علي زين الدين

2008 / 12 / 28
الادب والفن


"مـَن يرحل لا يعود"، قالها الرجل لنفسه قبل أن يغادر مكانه الذي اعتصم فيه زمن طويل. هزّ رأسه، كأنه يؤكد لنفسه:"حتى النهر فانه لا يمر أمامنا مرتين، كذلك الأموات". نظر إلى المكان الذي كانت تشغله زوجته على السرير، وقال كأنه يواعدها:"الأموات لا يعودون، لكننا نذهب إليهم".
عندما شاهده الناس في القرية مارا في شوارعها خارج منزله، لم يصدقوا انه أخيرا اقتنع بقضاء القدر، وعاد ليعاود حياته. وعندما وطأ بقدميه باب منزله عائدا، توجه بناظريه إلى جميع زوايا غرفة الاستقبال كأنه يبحث عنها، ولما لم يجدها استلقى على مقعد. وما أن رفع نظره حتى شاهدها تبتسم وسط إطار معلق على الحائط، نظر طويلا إلى الصورة كأنه يريد إعادة تركيب صورتها بذهنه، تفاجأ كم أن ذاكرته خانته بالاحتفاظ بتفاصيل وجهها وخاصة تلك اللمسات التي لا يمكن رسمها أو وصفها إنما تدرك بالعقل. وعندها سأل نفسه:"كم مضى على رحيلك"؟. وما كاد يهم بحساب الزمن حتى سمع بالخارج وقع أقدام، ثم صوت امرأة عرف أنها جارته، تحمل بعضا من طعام أعدته لعائلتها.
كانت الأيام تدور دورتها المعتادة، دون أن تلتفت إلى غياب احد ما. عادت طيور السنونو لتبني أعشاشها في زوايا البيت. نظر إليها مليا كأنه يرحب بعودتها، إبتسم شيء ما بداخله. لكم أحبت زينب تلك الطيور دون تأفف من برازها وزعيقها:"فأل خير. أنت تعرف إلى أي كم من الطمأنية تحتاج تلك الطيور حتى تقرر أن تجاورك، وكوننا مبعث طمأنينة فان ذلك نعمة من عند الله". كانت تقول دائما عندما كان يتأفف إذا تبرزت تلك الطيور. "أي فأل خير الذي كنت تواعدينني به؟ هل هو غيابك عني؟". كاد أن يغضب من الطيور التي ملأت جو الغرفة جيئة وذهابا. إلا أنه عاد ليبتسم مدفوعا بشيء ما بداخله يدعوه للترحيب بتلك الطيور السوداء الصغيرة، مع شيء من التفاؤل. وعندما أدرك ذلك تبسم مرة أخرى،:" هل انك أنت من تتبسمين يا زينب؟".
في الخارج كانت شمس الربيع تحنو بدفء على براعم أشجاره كأنها تشجعها على أن تتفتح وريقاتها الخضراء، بينما الفراشات تطيح بأجنحتها بين الزهور تنافس حشرات النحل على امتصاص رحيقها. ويدفع الدفء ذاته أولاد الحارة الصغار للخروج على شرفات منازلهم وعلى الطرقات للهو بينما أصوات الأمهات تدعوهن، عبثا، للحذر وعدم اللعب بمستنقعات المياه. كم كان يتمنى لو أنه يسمع صوت زينب تنادي على ابنهما الذي لم يمهله مرضها على منحه إياه. كم كان يتمنى لو أن ابنه يلهو مع أطفال الحارة. "سيكون لنا أجمل طفل في العالم". كانت تمنيه دائما، "بس إنت شد همتك ووصي عليه". كانت تقولها في دلع واغراء كلما أرادت جذبه إلى السرير. كانت تعشق الحياة بكل حذافيرها ولا تريد أن تترك فرصة تذهب من غير عشق، "كأنها كانت تدرك قصر اجلها". حدث نفسه.
قبل 25عاما، كان يلهو مع زينب في نفس المكان، في الجانب الآخر من المكان كانت تقوم خربة تحجب من خلفها عن الناظرين، وهي بذلك كانت المكان الآمن له ولزينب للهوهما، وأيضا حبهما. وهناك ضبطتهما أمها وهما يستطلعان كل جسد الآخر، نهرتهما الأم، جذبت ابنتها ناحيتها وهمت بملاحقته إلا انه استطاع الفرار، ما أن أصبح عند زاوية الخربة حتى التفت إلى زينب مناديا عليها أن توافيه إلى الناحية الأخرى. كان من الصغر ليستوعب ماذا يفعل ولماذا يمنع عليه استطلاع جسد زينب. وعندما أتت أم زينب لتشكيه، أنبته أمه إلا أنها لم تخفِ فرحها, بان ابنها أصبح (رجلا)، وكأنها تريد أن تطمئن أم زينب:"في النهاية زينب لحسن وحسن لزينب". إلا أن أم زينب غضبت:"بعدو العكروت ما طلع من البيضة".
تذكر حسن كل ذلك وهو يقف أمام منزله، أمامه صبية وبنات الحارة. نزلت دمعة على خده، تساءل فجأة:" أين أنت يا زينب؟".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا


.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس




.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام