الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العودة إلى السياسة.. مهمة وطنية بامتياز

مفيد ديوب

2004 / 3 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


لم يكن تاريخ شعوبنا و"حضارتنا" العربية الإسلامية,ومن ثم التاريخ الحديث ,سوى تاريخ ممارسة العنف الشديد,أو بالأصح تاريخ ممارسة السياسة عبر آلية العنف ومؤسساته. كما لم يكن يسمح هذا العنف بمساحة من الهدوء والاستقرار ,لتتمكن خلاله مدنيتنا من استعادة أنفاسها ولملمة جراحها. بل كان عنفا متواترا ,شكّل أبرز مظاهره,الهجمات الرعوية المتتالية والمتلاحقة,التي كانت تحضّر من الخزان البشري الكبير الذي تضمه الصحاري العربية من قبائل رعوية ,وحتى الصحاري الآسيوية أو الأفريقية الغير عربية . "وليس من قبيل المبالغة القول أن القصور في الأداء السياسي العربي العام المتأتي عن طبيعة السوسيولوجيا العربية كان "كعب أخيل" في بنيان النهضة الحديثة من محمد على إلى عبد الناصر,ومقتلا من مقاتل الحضارة العربية الإسلامية ,من الفتنة الكبرى في صدر الإسلام إلى سقوط الحواضر الكبرى, دون مقاومة تذكر, في يد العسكر الرعوي ,عصرا بعد آخر..."1"
ــ كما أن النفق الآخر للعنف, كان في دخول الحضارة العربية الإسلامية في نفق العسكرة, وشن الحروب والتوّسع ,حيث وفرّ الدين أيديولوجيا التعبئة والتحشيد ,ووفرّ غطاء أيديولوجيا للتوسع بحجة نشره. وساعد في التوّحد الشكلاني المؤقت للقبائل الرعوية, وحشدها في الجيوش الغازية ,والتي لاحقتها سمة العسكرة ولعنتها, إلى أن كانت السبب الرئيس في تدميرها وانحطاطها إلى يومنا هذا . والتي تستمر آثار ونتائج العسكرة إلى اليوم والغد أيضا.
ــ أما المظهر الآخر للعنف, كان من طبيعة الدولة/ الخلافيّة والخراجّية للحكم ,والتي حكمت العرب طيلة مراحل حضارتهم المذكورة, بما في ذلك الحكم الرعوي العثماني الأشدّ تخلّفا. والتي أسّست دولتهم على العنف وآليّاته ومؤسساته ,والتي لم تسمح بنمو أجنّة المدينة والمدنيّة وقواها, لتحرف مسار تلك الحضارة
وتدّمر آلة العنف .لذا استمر العنف هو المكّون الرئيس لثقافة هذه الشعوب ,ولم تكن المراحل المتعاقبة سوى إعادة إنتاج العنف, بأشكال متجدّدة تناسب كل عصر تمر به.
لذا كان حضور الثنائية: استبداد/ خضوع ,أو قمع /خوف .هو الحاضر الوحيد في وعي الإنسان العربي
وفي حياته, وفي نظرته إلى الأشياء, وفي ارتباطه الشديد بالماضي, وخوفه المرضي من المستقبل وعداوته له .
هذا هو المشهد الثقافي المستمر إلى يومنا وعصرنا الحديث ,حيث لم يؤسس إلى يومنا ما يوهن ويبدّل المشهد الثقافي القديم ,ويستبدله بعناصر ثقافة جديدة .بل بالعكس من ذلك, فقد استمرت العسكرة واستمرت معها آلة العنف هي التي تحكم وتمسك بالقرار .. لكن ما تبّدل هو نوع تلك الموجات الغازية لمدينتنا ومدنيّتنا العربية .من رعوّية في الماضي إلى موجات ريفية في الحاضر, والتي احتلت الهرم السلطوي بأسره, وليس الرأس فحسب. منذ منتصف القرن المنصرم في أغلب الدول العربية,والتي كانت قبل استلامها السلطة, مضطهدة ومهملة من سادة المدن ومحرومة من التعليم والعمل, وأبسط الخدمات والحقوق .. "فأقامت حكمها الشعبوي عن طريق الجيش والأحزاب الشعبية على أهل المدن التي اضطرت عناصرها وكوادرها المتعلمة والمؤهلة للهجرة إلى الخارج ,وهكذا تم تريّيف المدينة العربية مؤخرا بعد أن تم" بدونتها" سياسيا في عهود سابقة."2"
هذه الموجات الريفية التي هيمنت على السلطة أعادت إحياء العصبّيات القديمةـ بعد أن وهنت قليلا قبل قدوم العسكر الريفيين ــواستنهضت من بطون الموروثات كل التقسيمات القبلية والعشائرية والطائفية, عبر عدة آليات ومحاور :
ــ استخدام الأوراق الطائفية والعشائرية في خلق توازنات تؤمن استمرار السلطة بيدها.
ــ تسليم المواقع والمفاصل السلطوية المهمة إلى عناصر شديدة الولاء من القرابات العائلية أو العشائرية أو
الطائفية وتسلسلاتها.
ــ استمرار آلية القمع في إدارة السياسة وشؤون البلاد, والتي تدفع المجتمع إلى الانكفاء إلى عصبياته القديمة.
ــ إلغاء القانون الناظم لعلاقات البشر بالعدل ,والحامي لحياتهم ولحقوقهم ,واستبداله بقوانين استثنائية,وقوانين طوارئ ,تحولت إلى فزّاعه على رؤوس المواطنين ,مما دفعهم أكثر إلى عصبياتهم القديمه كبديل حمائي لهم ولأمنهم .
* * *
أمام عجز قوى المدينة عن إنجاز مشروعها"الديمقراطي البرجوازي" وحل المشكلة المحتقنة في الريف بين الفلاحين وكبار الملاك ,والتي أدى انفجارها إلى سيطرة الموجة الريفية بواسطة مؤسسة العنف /الجيش/.
وأمام عجز الموجة الريفية هي الأخرى أيضا, وأحزابها البرجوازية الصغيرة ذات الملامح (القومية الاشتراكية ) في حل المسائل التنموية والتحرير, وولوجها في نفق الفساد ونهب المال العام ,هذا من جهة ,ومصادرة الحريات والحقوق وممارسة القمع ضد المجتمع من جهة ثانية. نحن أمام أزمة حادة ومتفاقمة باطراد,تتشابك معها ظروف دولية مهددة للوجود . كل ذلك ساهم بخلق الشروط المناسبة لانتشار الفكر الإسلامي الأصولي ,على حساب الاتجاهات الأخرى .
مما يهدد بقدوم موجة رعوية جديدة, تحت راية الإسلام الأصولي, تعيدنا فعلا إلى /15../عام إلى الوراء ومن ثم إلى أرهاط الرعّاع . ومما يزيد في حصول هذا الاحتمال, أن القوى المدافعة عن المدينة والمدنيّة لم تزل ضعيفة وغير قادرة على الدفاع عن مشروعها .
ويبقى مشروع إنقاذ الأوطان من الضياع في مهب الريح, خاضع لشرط واحد ,وهو تمكّن القوى الوطنية الديمقراطية من مختلف المشارب الفكرية والأيديولوجية والسياسية, من العودة إلى ممارسة السياسة بمختلف حقولها وتشكيلاتها, وتسجيل حضورها المهم والفعّال في الحياة والمجتمع والحدث .
وبذل أقصى جهودها لقطع الطريق على الموجة الرعويّة الجديدة ,وسحب ورقة العنف من يدها ,وتفريغ شحنة اندفاعها في الاتجاه السلمي .كما أن العودة إلى ممارسة السياسة هي التي تعيد إحياء الترابطات الاجتماعية المختلفة بين مختلف الشرائح الاجتماعية على أساس المصالح المشتركة ,بعكس ما تعمد إليه التقسيمات العمودية القائمة على العصبّيات القديمة, من تعميق الانقسامات وتهديد المجتمع بالتشظي .
إن عودة الألق للسياسة ,أو تسيّيس السياسة ذاتها بعد أن بات كل شيء في حياتنا مسّيس ما عداها,لملء الفراغ الذي أحدثه الاستبداد ,يمنع العصبيات الطائفية والعشائرية والقبلية من التمدد لتحتل كامل المساحة في الوعي وفي الثقافة وفي ممارسة السياسة .خصيصا أن كل شيء في واقعنا مهيأ للاستجابة لهذه العصبيات . إلا أن تسييس السياسة ذاتها وإعادة الألق إليها, يقتضي قبل كل شيء إجراء المراجعة النقدية
للسياسة في الماضي القريب, وتصويب لمفهومها وآلية ممارستها . وبصفتها فن إدارة الاختلاف ,وإدارة الاتفاق أيضا ,ذلك يقتضي أيضا إلغاء كل آليات العنف في ممارسة السياسة ,وكل أشكال إلغاء الآخر.
وبغير ذلك ستبقى السياسة مثلما كانت عليه في الماضي, الطريق لتعقيد المشكلات عوضا أن تكون أداة ووسيلة لحل المشكلات وطريق لإبداع الحلول .

20/2/2004 مفيد ديوب

1)ـ العرب والسياسة. .أين الخلل د. محمد جابر الأنصاري ص1.8
2) المصدر السابق ص116








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خطة بايدن تزيد الانقسام في حكومة نتنياهو| #غرفة_الأخبار


.. الانتخابات الرئاسية الإيرانية.. مرشحون كثر وتحديات كبيرة| #غ




.. السعودية تسعى أن تكون قوة نووية محمية باتفاقية دفاع أميركية


.. لجنة طوارئ البلديات في شمال قطاع غزة تعلن جباليا ومخيمها وبي




.. إعلام موال للنظام السوري: مقتل 17 شخصا وإصابة 15 آخرين جراء