الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد الوطن

أحمد جان عثمان

2004 / 3 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


لن يقدّر الوطن حقّ قدره من لم يُمْسِ بلا وطن.
اخترت هنا كلمة "يمسي" للدلالة على المساء حيث لا يعرف المشرَّد إلى أين يأوي. لقد بدأت الكلام بجملة سيعتبرها حسين عجيب عبارة عن حكم تمّ إطلاقه على عجل، لكن بالنسبة إلى مشرَّد بلا وطن، مثلي، سيتوقف عندها شاعراً بما يتركه لديه منظر الشفق في آخر النهار من حزن وحنين، حزن محارب يلقي نظرة أخيرة باتجاه بيته قبل أن يهبط من أعلى الهضبة، وحنينه إليه قبيل المعركة ربما ستكون الأخيرة بالنسبة إليه حيث سيفارق الحياة إلى الأبد.

أما بالنسبة إلي فقد كانت المعركة هي الأخيرة. لم أمت مثلما كان يمكن أن يموت المحارب، لكني فارقت الوطن ربما إلى الأبد؛ فارقته مرتين: أويغوريا كانت الأولى قبل عشر سنوات وسوريا كانت الثانية قبل أقل من شهرين. فلو كنت المحارب لما متّ أكثر من مرة! في كل وطن كانت لي حياة، وكلما غادرت وطنا مات أحمد جان عثمان وولد أحمد جان عثمان الآخر. فالأول كما لو أنه مات وعمره عشرون عاماً، مثلما مات الآخر في العمر نفسه. الآن، وأنا أنتظر هنا، حيث لا وطن، وطناً ثالثاً آوي إليه، فقد أمسيت كمن فَقَدَ ذاكرته.

من كان بلا وطن فهو يهفو إلى ذاكرة جديدة مثلما يحنّ إلى الأبديّة كل من يتأمّل في ظاهرة الموت. بهذا المعنى، فإن الذاكرة هي أبديّة المشرَّد خلف أسوار الأوطان. كما أن الأبدية هي السلوان الوحيد للفانيين، كذلك الذاكرة فهي ما تبقّى من أمل لأولئك الذين لا وطن لهم، ذلك الأمل كشفقٍ تتركه الشمس الغاربة في الغيوم. أتساءل: ترى، هل من شيء في الوجود ذي قيمة، بالنسبة إليّ الآن، سوى استرجاع ذاكرتي القديمة أو إمكانية الشروع، مرة أخرى، في ذاكرة جديدة؟! لا ظِلَّ لشريد الوطن، فالوقت لا يبرح الساعة الثانية عشرة حيث أقف، فاقد الذاكرة، تحت قيض شمس الظهيرة أو محمولاً على زوبعة الظلام في منتصف الليل، لا فرق.

إن الوطن، قبل كل شيء، هو ذاكرة. أظن أن أمثالي يطالبون الهيئات الحقوقية الدولية بالدفاع عن حقّ الفرد في الاستمرار في ذاكرته، فهي (أي الذاكرة) ملكية الفرد المقدَّسة. إن أي دولة تسلب الفرد حقّه هذا يجب اعتبارها مجرمة تعاقَب كما يعاقَب اللصوص. ولكن كيف؟! برأيي، من خلال إلغاء مبدأ سيادة الدول؛ وطرد أي دولة تنتهك هذا الحق من المحافل الدولية؛ ومطالبة جميع دول العالم الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة بقطع علاقاتها الدبلوماسية معها؛ وفرض العقوبات الاقتصادية عليها؛ و... و... هكذا يغدو أمثالي حالمين بقوة قادرة في هذا العالم على الدفاع عن حقّ الإنسان في الاستمرار في الذاكرة. إني متأكد من أن المشرَّدين بلا وطن يُجمِعون على رأيٍ فلسفيّ عميق يقول: إن الإنسان حيوانٌ يتذكّر.

أعتقد أنه لم يكن لي، في الأصل، وطن. وإلا لما غدوت، الآن، بلا وطن. إن ثمة أناساً تعيسي الحظّ يفتقدون إلى الوطن منذ ولادتهم. هؤلاء لن أسميهم شعباً لأنهم أناس ما قبل مرتبة الشعب. أنا من هؤلاء حيث يمكن تصنيفهم كالتالي: مُضْرِبون عن الرأي، وسجناء الرأي، ومشرَّدون. إن الصينيين والسوريين ليسوا شعوباً لأنهم أناس بلا وطن. المضربون عن الرأي هم الخائفون من بطش "الواحد الصمد" السياسي حيث يشكّلون الأغلبية؛ وسجناء الرأي هم "زنادقة" ومشركون في "الله" إذ يرغبون بالتعدّدية السياسية التي لا "كفر" أعظم من ذلك في الديانة السياسية، الصينية أو السورية، ومصيرهم التعفّن في رطوبة السجون أو تلتهمهم الديدان في المقابر الجماعية؛ أما المشرَّدون فهم الناجون بجلدهم من يوم الحساب، ولكن، فقد لحقتهم "اللعنة الإلهية"، ألا وهي فقدان الذاكرة.

لن تقوم للوطن قائمة ما لم يصبح الصينيون، أو السوريون، شعباً. لقد مضى عهد القومية التي كانت تدّعي وحدة العرق، أما اليوم فتدعونا الحاجة الملحّة إلى قيامة الشعب من خلال وحدة الحوار. إن الحوار وحده هو العصا السحرية التي تقلبنا إلى شعب. أستطيع القول إن الشعب، الذي ينضوي تحت وحدة الحوار، هو الوطن ذاته.

أين الوطن؟ حيث ينوجد شعبٌ يتحاور أفراده.
من المواطن؟ ها هو ذا... في حوارٍ مع الشعب.
ما الوطنية؟ الدفاع عن الحوار.

ما الحوار إذاً؟ ليس باستطاعة أحد الإجابة عن هذا السؤال ما عدا الحوار نفسه. الشيء الوحيد، الذي نعرفه عن الحوار، هو القبول بمبدأ التعدّدية، أي، حقي في الاختلاف، كفرد ومواطن، في الائتلاف الإرادي الذي يُدعى الشعب أو الوطن، لا فرق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر أمني: ضربة إسرائيلية أصابت مبنى تديره قوات الأمن السوري


.. طائفة -الحريديم- تغلق طريقًا احتجاجًا على قانون التجنيد قرب




.. في اليوم العالمي لحرية الصحافة.. صحفيون من غزة يتحدثون عن تج


.. جائزة -حرية الصحافة- لجميع الفلسطينيين في غزة




.. الجيش الإسرائيلي.. سلسلة تعيينات جديدة على مستوى القيادة