الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المذياع

عدنان الدراجي

2009 / 1 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


أفاق من قيلولته المعتادة وقبض على عكازه ليحمله إلى حيث يجثم المذياع الحبيب, أدار عجلة التشغيل وأنصت بشغف, نبضَ قلبه بشده إذ استشعر حالا أن في الأفق أخبارا لا تسر, نضح الاهتياج والتشنج ينبئ بالسوء, كان المذياع يذرف خطبا وتصريحات مبطنة بلوم الذبيح الذي عصفت رفساته بالجلاد وشجت جبينه, تساءل المذياع طويلا عن جدوى هذه الرفسات العشوائية التي ستؤدي إلى استثارة غضب الجلاد وتطرف قسوته, هذرَ كثيرا قبل أن يختم ثرثرته بالتباكي الزائف على ضحايا غضب الجلاد الذين لولا تلك الرفسة لما أصابهم سوء.
• ماذا المَّ بهذا المذياع العجوز, أتصاب الأجهزة بالخرف؟ كيف يجترأ على حق الضحية في مقاومة الجلاد!!
لم يخيب ظنه من قبل كما فعل الآن فقد كان مذياعه العتيق أثيرا على قلبه فهو النفيس الفخم الوقور الوفي, تقاسم معه الأخبار خيرها وشرها وطالما زف له بشارات النصر وهون عليه الهزائم وأمّله بالمستقبل المشرق وانس وحشته بأحاديث عن الماضي الزاهي.
كان رؤوفا به إذ حرص دائما على تلميع الأخبار وتنقيتها وتزويقها ولم يخنه أبدا فسلة أخباره مترعة بأصناف الأنباء، لهذا لم يجرؤ على تكذيبه يوما فليس من الوفاء تكذيب الخلان.
شغفه بجهازه الخشبي اعجز التلفزيون العادي والملون عن كسب وده, وكم تأجج من اجل مذياعه وطيس نقاشاته الحامية مع الحاجة زوجته وأبنائه واقرب أصدقائه منتصرا لترفع المذياع عن سفاهات الأجهزة المرئية, وحين اقتنى حفيده جهاز الحاسوب رمقه بنظرة احتقار وغادر مسرعا إلى غرفته.
جلس على طرف الأريكة ممسكا بعكازه بكلتا يديه وأوسد عليهما خده الأيمن ثم أسبل عينيه وراح يستل من ركام ذكرياته أريج تلك الأيام التي اقتنى فيها مذياعه, كانت أياما مكللة بالمجد! لم تزل زغاريد والدته ترن قي أذنيه لكنه لم يعد يتذكر إن كانت زغاريدها لمذياعه الجديد أو لفشل العدوان الثلاثي وانتهاء المظاهرات التي دأب ولدها على الاشتراك بها رغم قمع السلطة آنذاك.
أنتابه شعور بالارتياح, رفع رأسه وملأ رئتيه بشهيق عميق فقد أسكره عبق تلك الأيام التي اقترنت بالمرحومة زوجته الأولى, حبه لها لم يغادر فؤاده أبدا, عاشا عشقا لم يقمعه فقده لها أبان نكسة حزيران, تحسر بحرقة إذ كان جرحا لم تشفه السنون.
انتشل نفسه من الماضي والتفت إلى انيسه, أدار المؤشر لعل المذياع يعود إلى رشده, أزاح صرير الجهاز جانبا بإدارة عجلة المؤشر الصغرى بهدوء واخذ يستمع:
قمم قمم
قمم الأشاوس تنعقد
وستدق أعناق الجزم
قمم قمم
ستنتقم
لدماء عامورية الثكلى
بلعق أعناق الجزم
وسنصافح اللقطاء رغم أنوفهم
وسننتصر وسننتصر وسننتصر
اسند حنكه على قبضته الماسكة بالطرف المعقوف من عكازه مبتعدا عن مسند الأريكة الباهتة الألوان بعد أن تفادى سقوط عقاله بلف طرفي كوفيته حول رأسه ثم راحت يده تدير عجلة المؤشر باحثا عن أخر أخبار العدوان فما وجد غير زعيق المعلق الرياضي الذي احتل معظم الإذاعات العربية.
لعنَ الرياضة والرياضيين وعاد يحرك عجلة المؤشر بغضب فالتقط صوتا رخيما يبشر المستمعين الكرام بقرب إذاعة التعليق السياسي, أنصت العجوز للموسيقى الهادرة التي سبقت التعليق ثم بدأ المذيع يتلو حديث الإذاعة السياسي الذي تفنن في إسباغ صفات العظمة على سيادة القائد المفدى ونصائحه الحكيمة في آداب الانبطاح في حضرة شذاذ الآفاق فهوت قبضة الشيخ على عجلة المؤشر الذي تفادى الصدمة بإزاحة المؤشر نحو نهايته القصوى.
ألقى الشيخ بعكازه جانبا والتجأ إلى مسند الأريكة المتهالكة تاركا ذراعيه ينسابان إلى جانبيه وقد انتفخت أوداجه, كانت لحظة سكون إذ لم يسمع غير صوت زفيره وشهيقه العميقين لكن سرعان ما تبدد الصمت بعاصفة تصفيق انسابت من سماعة المذياع ليرافقها صوت أنثوي رقيق أعلن اسم الفائز بمسابقة الغناء العربي الكبرى.


د.عدنان الدراجي
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حملة ترامب تجمع تبرعات بأكثر من 76 مليون دولار في أبريل


.. القوات الروسية تعلن سيطرتها على قرية -أوتشيرتين- في منطقة دو




.. الاحتلال يهدم مسجد الدعوة ويجبر الغزيين على الصلاة في الخلاء


.. كتائب القسام تقصف تحشدات جيش الاحتلال داخل موقع كرم أبو سالم




.. وزير المالية الإسرائيلي: إبرام صفقة استسلام تنهي الحرب سيكو