الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيمفونيات و..مراحيض

فاتن نور

2009 / 1 / 12
الادب والفن



في صيف مضى، سرت بأمتعتي الثقيلة على الممر المؤدي الى ردهة الجنون، احدى ردهات المستشفى التي أنصفتني بوظيفة بعد ان بال الزمن على شهادة الدكتوراه التي احمل، وهي شهادة نادرة ومتخصصة جدا في سايكلوجيا المقارنات الآدمية وانعطافاتها المثيولوجية..
لم يكن كل شيء كما توقعته في مستشفى المجانين والأحوال النفسية تلك، واولهم النزلاء المقيمون بها منذ آواخر العصر الرومانطيقي، كانوا ظرفاء،حكماء فعلا ومجانين!
بذح ملفت للنظر في الأفضية والديكورات، اناقة خرافية وذوق ملائكي في اختيار الأثات والسجاجيد والمعلقات،
السوناتات والكونشيرتوات والسيمفونيات العالمية، الصادحة كانت في اروقتها ليل نهار.
كل شيء كان محيرا ومثيرا للجدل حتى المراحيض!، وهذا ما افسد فسحة الأمل التي دخلتني منذ نجاة سام، اذ وجدت المجانين في زبية الفن العاقل!

اول جلسة مع اول نزيل التقيت به كانت على شرفة المرحاض الكبير وحسب رغبته، آجل! لكل مرحاض شرفة مؤثثة، فمراحيضها كانت أجمل من حدائق فرساي وأنظف من جنات عدن، وقد خرجت من وراءها بنكسة اقعدتني ست سنوات عجاف فقط!..
فقد سألني النزيل وقتها مباغتا هدوء الإسترسال، وكنا نحتسي القهوة وننصت الى الناي السحري لموزارت: من اي بلاط أنت يا كسارة البندق
قلت له بأدب مهني، وبمعالجة إستكشافية ناعمة: افهم سؤالك تماما..انت تسأل من اي بلد أنا..آليس كذلك
لا ادري كيف اختفى النزيل بلمح البصر، ولم اره لغايته ، سمعت لاحقا بانه انتحر من شرفة مرحاض!، وبعد ان اصر على سماع سيمفونية الجمال النائم!

تكررت جلساتي مع النزلاء رغم قعودي منذ النكسة..
في جلسة مع أثنين توأم اذكرها جيدا، هاجمني الأقصر قامة وهو ينبش أنفه، بسؤال طويل ومكثف: آتذكرين جنيات الثلج والديك الذهبي والصبار والحلفاء..وبجعات فولتير ابن بطوطة وكونشيرتو روسو بن العاص..
أجبته بجدية، وكنت متيقنة تماما من كثافة خزينه المعلوماتي المبعثر، والمتزاوج دون فهرسة شرعية: بلى بلى، أنا مثلك تماما اتذكر كل شيء ..
يبدو أن "كل شيء" ازعجته قليلا اذ بدأ يقرض آنذاك، أظفاره بأسنانه المرصوفة بإتقان، والأكثر بياضا من سني اليتيم الذي ما أنفككت أناضل من اجل الإحتفاظ به..
أكمل شقيقه الأطول نسبيا،ساخرا او متسائلا: ولكنك يا كسارة اليمامة، لا تذكرين حتى رقم هذه الإفتتاحية التي بها نستعين، وتدعين تذكر كل شيء عن أبي الفرعون وانا لقيط..
أجبته وكأني تلميذ شاطر يحاول إفحام مدرسه، وكنت،كما خيل لي، قد فهمت مغزى السؤال: قطعا اذكره..نحن في الردهة رقم 14..ولكن....
..لم اكمل اجابتي او إستفهامي عن الشق الآخر فقد أصابتني نوبة ذهول لوهلة من شدة الفزع والإنبهار، بهرت فعلا بردة فعل التوأم وكأنها قادمة من جسد مجنون واحد، فقد دخلا في نوبة صرع طارئة لبضع دقائق كأنها ثلت قرن او ضعف، وعلى أثر الإجابة مباشرة..
..فجأة نهضا سوية، وبرمشة عين تحول المرحاض المتوسط الذي التقينا فيه، الى حلبة رقص وغناء..

لا اخفي إستجمامي وقتها، فقد رقصا بإتساق وحرفية وكأنهما من مقيمي الديسكوات، او مايكل جاكسون بعينه ولكن بوجهين مدغمين، اسود حي قبل التجميل/ابيض ميت بعده.
فسر لي جوزيف، عامل تنظيف زجاج الصالونات، وهو من المجانين المعتدلين الذين انضموا الى الحلبة وقتها، فسر لي مقطعا من مؤخرة الأغنية، لم يكن متمرسا في لغة الجنون التوأمي ومقدماتها، ويرطن احيانا بلغة الأنغلوا والبرابرة الجرمانيون مؤسسو اوربا..
وقد صرخ بوجهي بعد التفسير مرددا: ليحفظ الله القيصر، ليحفظ القيصر الله، انتصر الراعي المقتول، انهز ِموا بالزرع قبل الجنون!
معاناتي كانت طويلة ومشوشة بعد نزولي على متن التفسير، وصراخ جوزبف. اكثر ما شد انتباهي هو مفردة جنون، كيف يستوعب المجنون هذه المفردة وماذا تعني بالنسبة له، بعد مراجعات مضنية في بطون كتبي الأكاديمية وكراريس الرياضيات للمرحلة المتوسطة، وجدتها!:الحياة زخم لا محدود من المعادلات المتضخمة، ولا معادلة هناك دون طرفين متساويين وإن كانت بالغة التعقيد والتضخم ويصعب فكها، تبسيطها او حتى تصورها، فالمجنون يحسب العاقل مجنونا، تماما مثلما يحسب العاقل، المجنون مجنونا!، ومعنى الجنون وقيمته في الإتجاهين، تكامل وتفاضل ليس إلا!.


آخر سيمفونية سمعتها في تلك المستشفى بعد فصلي لإثارة الصرع، نوستالجيا الإنتحار، وإتاحة الرقص المسيء للذات الرومانطيقية، كانت واحدة من سيمفونيات بتهوفن الخمس بعد الصمم، سيمفونيته الخامسة ، الكارما.
ولكني اذكر مازلت، وانا قافلة بأمتعتي خارج المبنى، محبطة وبإنتظار باص ينصفني بمقعد شاغر، اذكر بأني سمعت اصداء سيمفونيته الثالثة، البطولة، تنبعث من صوب نوافذه المشرعة، وهي واحدة من اربع له قبل الصمم، تلك التي كانت هدية منه الى نابليون بونابرت، والتي غير اسمها لاحقا الى: سيمفونية البطولة للإحتفاء برجل عظيم . فقد خيب، كما يحكى، بونابرت آمال بتهوفن عندما اعلن نفسه امبراطورا لفرنسا.


مازلت عاطلة عن العمل بعد الفشل الذي حصدته في تلك الردهة، اشعر بالملل احيانا فقد تعودت على مفاجآت المجانين وردود افعالهم الفنية غالبا، عدا بعض المتطرفين!!
استجم غالبا بمعاينة مقولاتهم وأسئلتهم للوقوف على بواطنها ودلالاتها، ومنها اللغز المحير الذي تركه نزيل معاق كان قد هرب من المستشفى قبل رحيلي بيوم، وكان رسالة مختصرة جدا تركها على شرفة المرحاض الصغير، قال فيها: أنتظروني، ساعود حالا برقصة الموت الأخضر، بعد لقاء حفيدتي بارساني عند تاهات الأمبراطور حلاق أشبيليا!
وقد اكتشفت مما أكتشفته وبعد المطالعة، بأن رقصة الموت سيمفونية شعرية لعازف أرغن محترف ولد في باريس ومات في الجزائر!، والغريب حقا هو اسمه: سان!.وألأغرب أن تاهات: اعلى قمة في الجزائر!
اما الأمبراطور الحلاق فقد زارني في المنام بعد إقامته المطولة في عقلي الباطن،وتعارفنا خير معرفة ونحن الآن اصدقاء على طرفي نقيض!،وخصوصا في فنون الحلاقة..

فسحة أمل قد تدخلني قريبا للإحتفاء برجل مجنون!
حجر الأساس لبناء مستشفيات مماثلة بدأ يتناسل في هذا البلد او ذاك، وحسب لغو المجنون المنتحر ونطقه، في هذا البلاط او ذاك..
لا يهمني البحث عن علة هذا النشاط المعماري لاستضافة المجانين ورعايتهم، فأنا ابحث عن وظيفة فقط ، وفراغاتي مجندة لسؤال بوجهين ما زال يشغلني:
لماذا يفضل المجنون المرحاض عندما يلتقيه عاقل...ولماذا يقبل العاقل مرحاضا يجمعه بمجنون!
اما السؤال الذي لم اجند له اي فراغ يذكر، لقوة متن الجواب وتواتر سنده: لماذا حشرت في ردهة الجنون وشهادتي تنسجم ولحد ما، مع ردهة الأحوال النفسية!


فاتن نور
09/01/10








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية محبة
بان ضياء حبيب الخيالي ( 2009 / 1 / 11 - 20:20 )
قرأت هذا الموضوع في موقع عراق الغد وقد اعجبني كثيرا ورغم انشغالي لم استطع حين وجدته في موقعنا الغالي الحوار الا ان اعيده من جديد نص رائع


2 - كسبتي مجنونا
علوان ( 2009 / 1 / 11 - 22:02 )
قرأت مقالك وتجننت


3 - نعمة الجنون حسرة العقلاء أحيانآ
كامل الشطري ( 2009 / 1 / 11 - 22:23 )
يقول المثل الشعبي من خرج من داره قل مقداره.

ثم هناك بالتأكيد خلل ما في قدراتنا في عدم تكامل مقاييس الارتقاء الى مستوى أقراننا الذين يعملون في حقل اختصاصاتنا في بلدان المهجر أي السكان الاصليين... خصوصآ في مجال تكامل اللغة الجديدة واستيعابها وتكنولوجيا المعلومات خصوصآ الكومبيوتر وبرامجه واستعمالاته وممارسة واستيعاب اختصاصاتناواكتساب الخبرة المطلوبة في ممارسة العمل الذي نسعى الية او ضياع الزمن في الانتظار الطويل اوعدم فتح أرباب العمل أبوابهم لنا والاخذ بايدينا وهكذا ضاع العمركلهُ وكم منا من يحمل القاب و اسماء كبيرة واختصاصات نادرة ونياشين في علم المنطق والعلوم والسياسة والنضال والفداء كنياشين جنرالات الحروب الكبرى او اوسمة المحاربين القدماء التي تعلو صدورهم ولكنهم بلا عطاء وقيمة الانسان في عطائة وليس بالقابه الاكاديمية والعلمية وشهاداته ونياشينه فالحياة عطاء وعطاء مبكر وليس انتظار لسراب لم يتحقق حتى وان مضى العمر كلة ومن يزرع الاوهام يحصد السراب وهكذا حياتنا في دول المهجر او الغربة

سامحيني قد اكون قاسيآ ولكن ثقي ان العيب فينا وفي تراخينا نحن وليس في بلدان الاقامة المتطورة فنضيع الفرص تلو الفرص ولم نستفد من تجاربنا ولم نوظف من يبدأ بالقليل سيصل الى الكثير....ولكن لاتحزني


4 - عملك هذا هو الاسمى
علي جواد ( 2009 / 1 / 12 - 12:31 )
هذا هوصدق لاحساس ممزوج بدرايه لماهيات وثوابت انجاز عمل يدلل ضمن ادراكي على الاقل على حجم معاناة كاتبه بهذا المستوى الرائع كفاتن نور-- انها ترتفع بمجنوناتها الذاتيه وتلقح افكارنزلاء محطات الجنون عبر هواجس الجمال الابدي لمقطوعات وسمفونيات حملتها الانسانيه وشاحا خالدا للذوق--- اعتقد ان هذا العمل ينقلنا نقله *نحن بحاجه ماسه اليهاالى الامام* اما انت يافاتن لست بحاجه الى عمل اسمى


5 - كلهم اصدقاء ولامن يصارحك
قاسم الدرويش ( 2009 / 1 / 12 - 19:15 )
اولا استخدام كلمة مراحيض وبهذه الكثافه المقززه مم يدل على الجهل اما بمعناها او بما تحدثه من صدمه نفسيه وهو ما تبتغيه على مايبدو
واعلمى ان هذه الكلمة وهى من مقطعبن اثنين المرأة والحيض واعتقد ان استخدام هكذا كلمات فى غير محلها امر مقرف ولايعطى اى مردود او الادلجه التى تبتغيها وكان حسب عند تعاملك مع هكذا بشر (مجانين كما اسميتهم )ان يمنحك تجربة فى اشياء تريديها ولم اعرف ماهى هل هو ادب ام قصه ام ادلجه معينه ولكنك مع الاسف فشلت وكل من اشاد بك هو مجاملة ليس الا


6 - ياوردة البصرة
محمد الزين ( 2009 / 1 / 12 - 19:39 )
ياتفاحة المرفأ الجميل وبسمة الثغر الخالد اتحفينا بسمفونياتك

اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعد خضر يرد على شائعات وفاته


.. من المسرح لعش الزوجية.. مسرحيات جمعت سمير غانم ودلال عبد الع




.. أسرة الفنان عباس أبو الحسن تستقبله بالأحضان بعد إخلاء سبيله


.. ندى رياض : صورنا 400 ساعةفى فيلم رفعت عينى للسما والمونتاج ك




.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في