الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين قائد الاوركسترا الموسيقية وقائد الفرقة العسكرية

حمزة الحسن

2009 / 1 / 12
الادب والفن


الموسيقار الاسرائيلي العالمي وقائد الاوركسترا بارنباوم ترك اسرائيل قبل عدة سنوات لانه لا يستطيع ان يعزف لموزارت وشوبان وبيتهوفن في حين تعزف الفرقة العسكرية الاسرائيلية بالرصاص على اجساد الفلسطينيين خارج القاعة. هوية الفنان فوق هويته الدينية بل الوطنية حين تتعارض هذه الهويات العامة وتتناقض مع القيم الاخلاقية والانسانية.

بارنباوم غير قادر على العزف بالتزامن مع هوة اخلاقية عميقة يصنعها جنرالات دولته خارج القاعة وداخل جسده لذلك فضل الخروج من هذا التناقض المؤلم بالهجرة مفضلا هوية الفنان على هوية اليهودي الجاهزة ـ فضل اللاتطابق على الاندماج، التفرد على الوطنية الزائفة، كرامة الانسان على انتصارات وحشية، لأن الرصاص خارج قاعة العزف كما فهمه الفنان بارنباوم هو رصاص موجه الى موسيقاه ومنهمر على احلامه في التعايش والسلام والجمال.

بهذه الطريقة تصرف الفنان وكان قد أسس مع أدوارد سعيد الفرقة الموسيقية الاسرائيلية الفلسطينية المشتركة كمحاولة لخلق نموذج التعايش على أمل ان يكون الفن بديلا عن تأويلات التاريخ، ولكي يحل الجمال محل الاسطورة الثابتة في حق مزعوم قائم على الحق في القوة وكتب مع أدوارد سعيد كتابا مشتركا عن الموسيقى، بل عزف في القداس الجنائزي في الكاتدرائية أمام جنازة صديقه أدوارد سعيد ـ في تجسيد رائع لنموذج اللامتطابق والاعزل والمتفرد، وهو نموذج غير مرغوب فيه في العالم العربي لأنه تهديد للتناسخ والشبه والتطابق والجوقة والقطيع والكتلة والسائد والوحل.

قائد الفرقة العسكرية قادم من التاريخ والاسطورة وفكرة الحصار على المدن ـ يمكن قراءة فصل يشوع في التوراة ـ والابادة باسم اله وحشي، وقائد الفرقة الموسيقية قادم من الزمن الجميل، ، الزمن المستقبلي، زمن الحلم.

الجنرال يؤكد هويته العامة في احصاء عدد قتلاه، وقائد الفرقة الموسيقية يؤكد هوتيه الفردية في احصاء عدد عشاقه.
الجنرال ناقع بالدم والموسيقي ناقع بالحب.
الأول وحش والثاني فراشة.

كيف نتعامل مع بارنباوم ومع غيره؟ مع جواز سفره أم موسيقاه ومواقفه؟
ان مكون رئيسي من العقلية المشرقية يقوم على فكرة التطابق بين الفرد والسلطة، بين الفرد والمجتمع، بين الفرد والقيم السائدة، بين الفرد والدين، واختزال الانسان في موقف أو لحظة أو زمن محدد أو هوية مفترضة واعتقاله الى الابد. هذه واحدة من خاصيات التخلف الاجتماعي والنفسي والثقافي: المعتقلات النفسية عميقة الجذور بل أكثر قوة وقسوة من المعتقلات المادية التي تنهار مع الوقت لكن الاولى مقيمة وثابتة ومتنقلة.

هوية اللامتطابق ـ وهذا المصطلح للمفكر الالماني أدورنو ـ هي هوية الاعزل، والاعزل ليس الضعيف، بل منتج هويته الخاصة، المحتج على قبح العالم، وصانع أحلامه المضادة. اللامتطابق في الفكر القطيعي كائن خارج من " الملة" والتقليد والمؤسسة والعرف والعادة. بمعنى خارج من كل ما يسجن الانسان في خانة وموقع الى فضاء الحرية.

أدورنو نفسه وهو من كبار رواد مدرسة فرانكفورت، مفكر وفيلسوف ومنظر موسيقي، يقول، حسب أدوارد سعيد في مقابلة معه، انه يكره سماع موسيقى باخ لعزف الموسيقى في معسكر اعتقال أو شفيتز حيث يقوم" قائد المعسكر بقتل الناس نهارا وبعزف باخ ليلا" على الجانب الاخر يذكر سعيد ان فلسطينيا اخبره أنه يكره سماع موسيقى بتهوفن لأنهم في اسرائيل كانوا يضعونه في زنزانة مجهزة بمكبرات الصوت ويعزفون الموسيقى الكلاسيكية خلال نوبة التعذيب المصرح به" قانونا" في مثل هذه الحالات.

الجنرال الاسرائيلي قادم من التاريخ والاسطورة والفكرة العنصرية والحقد والهوية العامة الثابتة ـ له اشباه كثر على ضفافنا في السياسة والثقافة والدين ـ والموسيقي قادم من الامل والمستقبل والهوية الخاصة المنتجة فرديا في ولادة ابداعية لا تتحقق الا من خارج الانفاق والمعتقلات والدياجير والطوامير العميقة الجاهزة والقوالب.

هوية الجنرال هي هوية قاتل وهوية الفنان هي هوية طائر.
الاول اسير دبابة والثاني اسير فكرة الجمال.
الاول جوقة والثاني منشق.
الاول نص مقدس والثاني حياة مقدسة.
الجنرال ثكنة رمادية والفنان ساحل اخضر.

دمج الكل في مفهوم أو فكرة أو موقف هو من صفات العقل العنصري الاعمى وهو متوفر بافراط في ثقافتنا كما هو في ثقافة وتاريخ الاخر. لكن الثقافة في جانبها الادبي والفني ليست منتجا عاما أو بضاعة عامة بل انها ابداع فرد، كما ان جريمة الجنرال هو منتج الهوية الوطنية الزائفة المؤسسة على اسطورة مزيفة.

اليوم تتقابل اسطورتان في غزة، أو بكلام أدق تتصارع اسطورتان: اسطورة عرقية دينية لاهوتية قادمة من التاريخ والحقد المؤسسي ـ اسطورة يشوع المحارب ـ واسطورة فلسطينية مضادة تتشكل توا وعلنا وتتفتح أمام الناس.

اسطورة الوعد الالهي المزيف في مواجهة وعد التاريخ في الحرية. بارنباوم يقابله الجنرال باراك. الفلسطيني المحاصر باسلاك معتقل شفيتز الاسرائيلي في مواجهة دبابة المركالة ـ وهي تسمية دينية تعني المعجزة.

اغرب تصريح سمعته من ناطق باسم الجيش الاسرائيلي ردا على سؤال عما اذا كانوا قد استخدموا الاسلحة المحرمة، فأجاب بكل وقاحة وثقة وهدوء: نحن نستخدم الفوسفور الابيض حسب القوانين والمعايير الدولية.

حسنا، لم نكن نعرف اننا نموت ونحترق حسب القوانين والمعايير الدولية ـ معايير قوانين الغرب الاستعماري الذي لا يرى فينا غير " الاسواق" ويذكرنا ـ اذا كنا نتذكر ـ بسفن الامبراطوريات القديمة: البرتغالية والاسبانية والفرنسية والهولندية والانكليزية والامريكية فيما بعد وهي تخرب المدن العربية وتقيم المجازر في اسيا وافريقيا من اجل النهب الاستعماري لأن حداثة الغرب لم تتأسس الا على موتنا وتحت شعارات التبشير أو الغاء العبودية سابقا واليوم تحت شعارات الديمقراطية.

مع ان فولتير قال قبل قرون: لا يوجد مسيحي أو محمدي أو يهودي في السوق والكافر الوحيد فيه هو المفلس!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا